الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكايةُ الجُسُور

حكايةُ الجُسُور
27 ابريل 2016 03:58
عبد العزيز جاسم حكاية الآخرية، أو العبور إلى الآخر ومحاولة الوصول إليه، سواءً من الشرق إلى الغرب، أو من الغرب إلى الشرق، هي في الأصل والمآل حكاية جسور وقناطر ظلت تُشيَّد وتُبنى وتُهَدَّم منذ قرونٍ وقرون، بألفِ شكلٍ وطريقةٍ ولونٍ ومعنى. فمنها ما هو حقيقي، ومنها ما هو وهمي ومتخيل ومزيف. ومنها ما هو مرئي وظاهر، ومنها ما هو لامرئي وخفي. ومنها ما هو متين وثقيل وثابت، ومنها ما هو هش وضعيف ومكسور وشائخ. ومنها ما هو سماوي وإلهي، ومنها ما هو أرضي وبحري وجوي. ومنها ما هو تجاري وروحاني وديني وفلسفي وفني وأدبي ومعرفي وعلمي وثقافي وقيمي وإنساني وسلمي وحضاري، ومنها ما هو حربي واستعماري وعدواني وانتقامي وطائفي واستغلالي وإلغائي وعنصري وإرهابي وظلامي متخلف. *** إنها جسور، جسور كثيرة ومختلفة ولا تحصى، تلك التي تُعَبِّر عن الحكاية الكبرى للآخرية وتطبعها بطابعها. فمنذ أن عبر الإسكندر المقدوني (356 – 323 ق.م)، ثم الاستعمار الأوروبي في القرن السادس عشر، إلى الفضاء الشرقي. وكذلك، وباتجاه معاكس، منذ أن عبر هانيبال (247 – 183 ق. م)، ثم الفتح الإسلامي (711 – 712 م)، إلى الفضاء الأوروبي/‏ الغربي، وحكاية الفصل والوصل مع الشرق والغرب، أو مع الآخر وأخرويته، هي بين مدٍّ وجَزْرٍ ولم يتوقف أوارها حتّى يومنا هذا. وصحيح مثلاً، ومع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، وبفضل الثورة المعلوماتية وتطور تقنيات الاتصال والإعلام و(السوشيل ميديا)، أن البشرية تغيرت تغيراً جذرياً، بعد أن انكسر حاجزا الزمان والمكان، وأصبح الجسر إلكترونياً والعالم قرية صغيرة. إلَّا أنّ هذا الوضع الجديد ذاته، وعلى الرغم من الفوائد الكبيرة التي جاد بها، قد خلق الكثير من المشاكل وعمَّق الهوة بين البشر، وأثار سيلاً من النزاعات والتمزقات والتهديدات والاختلافات والانقسامات والظلم، بين أجزاء كبيرة من العالم، وبالأخص منها ما جرى ويجري في منطقة الشرق الأوسط حالياً. هذه المنطقة التي تحوَّلت إلى مرتع خصب وجاذب، للحروب والدمار والفتن والانقسامات، وتسلط الفكر الأجرب لفقهاء التكفير والإرهاب من كل صنفٍ ومِلَّةٍ ونوع، الذين استغلوا حركة الانفتاح العالمي والجسر الإلكتروني أيما استغلال، لتحقيق مأربهم في تمزيق البلدان والشعوب والأديان. لم تعد قضية الأخروية إذاً، محصورة بين شرق وغرب (وإن خفت إيقاعها مع مرور الوقت، واعتراف الكثير من دوائر الغرب بفضل الحضارة العربية الإسلامية عليها، التي كانت تنكرها سابقاً)، وإنما الأخطر من ذلك قد أصبحت شرقية شرقية، وعربية عربية، وإسلامية إسلامية. ولعل هذا الوضع من التمزق والفِرْقَة والضعف والتناحر والخيانات، يذكرنا بوضع ملوك الطوائف في الأندلس الذي عجل بسقوط آخر معقل إسلامي متقدم في أوروبا في القرون الوسطى: غرناطة، في عام 1492م. *** هذا الوضع المضطرب والمقلق الذي نعيشه اليوم، هو ذاته ما عاشه قديماً واكتوى بنيرانه «فيلسوف العقل»: أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد (1126 – 1198 م). فلقد كفَّره فقهاء التزمت والتخلف والظلام، ورموه بالزندقة، وقضوا عليه بالنفي، وأحرقوا كتبه، بعد أن تدخلوا في السياسة واستطاعوا أن يهمسوا في أُذُن الخليفة المنصور وتأليبه عليه. تماماً كما فعلوا بغيره، مثل حرق كتب الغزالي، وطعن نجيب محفوظ، واغتيال فرج فوده وحسين مروة، وتحطيم تماثيل العقاد والمعري والمتنبي، وتكفير طه حسين ومصطفى محمود وأدونيس وحامد أبو زيد، وغيرهم كثير. هذا الفيلسوف التنويري العظيم، العَالِم والطبيب والفقيه والنحويّ والذوَّاقه لروائع الأدب العربي، الذي يعتبر «من أقوى مفكري العرب، وأعمقهم نظراً، وأبعدهم أفقاً، وأشدهم انتصاراً للعقل والحكمة». من ابتدع مذهب «الفكر الحر»، ووفق بين الفلسفة والدّين، كما قارب بين الشرق والغرب، وبين المسلمين والمسيحيين، وانتصر لحق المرأة ودافع عنها بشدّة، وعشق الفلسفة، وهام بالعلم، وشرح مؤلفات أرسطو طاليس وأضاف عليها ونظر فيها بطريقة تختلف تماماً عمَّا كان لدى سابقيه، حيث على حسّه وبفضله نشأ تيار «الرشدية» في الغرب. هذا الفيلسوف ذاته، هو من قال عند موته كلمته المأثورة: «تموت روحي بموت الفلسفة». ابن رشد، هذه القامة الكبيرة التي شغلت العالم شرقاً وغرباً، ها هو يحلّ ضيفاً على الإمارات، من خلال اختياره الشخصية المحورية لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الحالية. ولقد أحسنت صنعاً، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، الجهة المنظّمة لمعرض الكتاب، في اختيارها الدقيق والراقي جداً لفيلسوف قرطبة. ولعل هذا إن دلّ على شيء، فهو يدل على أن الثقافة في الإمارات قد تجاوزت منذ عقود الفكر الانغلاقي والتقليدي الجامد والشوفيني، وأنها تعيش اليوم في زمن التنوير الإماراتي والانفتاح الثقافي والإنساني على العالم كله، حكومةً وشعباً. *** هكذا، وبهذه الطريقة الحضارية والإنسانية النابعة من الخصوصية الإماراتية، تمدّ الإمارات جسورها البيضاء إلى الآخر، من دون عقدة نقص أو خوف أو نكوص أو جلد للذات. وهذا هو دأب الأقوياء والحكماء، من يستشرفون حاضرهم ومستقبلهم ويمضون بخطىً واثقة وجسورة إلى الأمام دوماً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©