الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

سكّان الجحور

سكّان الجحور
27 ابريل 2016 15:41
هاشم صالح كنت أنوي منذ فترة كتابة دراستين منفصلتين ومتكاملتين. الأولى بعنوان «الإخوان المسلمون في مرآة الإسلام». أقصد إسلام العصر الذهبي بالطبع، لا إسلام عصر الانحطاط والظلام الذي يجسدونه تجسيداً كاملاً، بل ويشكلون استمرارية له. فما أبعدهم عن إسلام الأنوار الكبرى التي أشعت على العالم يوماً ما، من خلال المعتزلة والفلاسفة وبغداد وقرطبة. والثانية بعنوان «الإخوان المسلمون في مرآة الحداثة». وهنا أقصد الحداثة الأوروبية بمعناها الرصين وإنجازاتها التنويرية الكبرى، لا بمعنى صرعاتها، وشططها، وانحرافاتها. وبعدما اطلعت على كتاب محمد الحمادي «خريف الإخوان»، خطر على بالي أن أكتب دراسة ثالثة بعنوان «الإخوان المسلمون في ميزان الضمير والأخلاق». ذلك أنهم لا يؤتمنون على شيء، كما يتبدى واضحاً جلياً من خلال هذا الكتاب المهم، الذي يمتعك بقراءته من أوله إلى آخره. ذكرني عنوان كتاب الحمادي من بعيد «بخريف الغضب» لهيكل، أو بمقولة الربيع العربي وقد تحول إلى خريف أصولي. كما ذكرني بالأحداث الجارية حالياً في الأردن، حيث يبدو أن شتاء الإخوان قد ابتدأ، وليس فقط خريفهم. فلأول مرة منذ سبعين عاماً، تغلق المقرات العامة لهذه الجماعة في العاصمة عمان وبقية المدن، ويحصل الطلاق الكبير بينها وبين المملكة الأردنية الهاشمية. وهذا حدث له دلالاته الكبرى. إنه دليل على أن الإخوان فاتهم قطار الزمن، بعد أن عرقلوا نهضة الشعوب العربية طويلاً، وحاولوا شدها إلى الوراء. ثم إذا كان بلد قوي يشهد نهضة غير مسبوقة على كافة الصعد والمستويات، كالإمارات العربية المتحدة، لا يحظى بإعجابهم، فهذا دليل على أن العلة فيهم، لا في سواهم. وأكبر مؤشر على غباء الإخوان أنهم اعتقدوا بأن «الربيع العربي»، الذي هبت رياحه على بعض الأقطار، يمكن أن يحصل في بلد صاعد وناهض كالإمارات! لا ريب في أنه توجد أخطاء ومشاكل حتى في أرقى بلاد العالم، كما يقول المؤلف. فالبشر خلقوا خطائين، والكمال لله وحده. ولكن المهم أن تتواصل النهضة العمرانية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.. وهذا ما هو حاصل في الإمارات باعتراف العالم أجمع. انقلاب وغدر ومنذ البداية، يطرح المؤلف السؤال الأساسي: هل كانت مغامرة الإخوان وتنظيمهم السري تستحق كل هذا العناء في بلد يقف في طليعة بلدان المنطقة تقدماً وازدهاراً؟ وبالتالي، فتحركهم الغريب والمريب جاء في «البلد الخطأ، والوقت الخطأ»، كما يقول المؤلف حرفياً. وكانت النتيجة كارثة على الإخوان، وعلى صورتهم التي تشوهت، جراء أفعالهم السيئة داخل الإمارات وخارجها، على حد سواء. كل الفصول الأولى للكتاب مكرسة لسرد تجربة الإخوان المسلمين في الإمارات العربية المتحدة، وكيف كانت الدولة تعاملهم أفضل معاملة، قبل أن ينقلبوا عليها ويغدروا بها. وأعترف بأني لم أكن مطلعاً على هذه التفاصيل الدقيقة التي يستعرضها الكتاب بالبرهان والحجة القاطعة. بالطبع سمعت كغيري، ولكن من بعيد، بحصول مشكلة هناك أو حتى صدام، ولكن ما كنت مدركاً لخفايا الأمور، قبل الاطلاع على هذا الكتاب القيم والمتوازن والمرن إلى أقصى الحدود. وبالمناسبة، فإنه يقرأ من أوله إلى آخره من دون أي ملل أو ضجر، نظراً للطريقة الذكية التي كتب بها. فهو مشكل من فصول قصيرة متتابعة على هيئة مسلسل متقطع أو لقطات سينمائية. أو على الأقل هكذا قرأته. من هنا طابع التشويق والترقب الذي يتميز به. فما أن تنتهي من قراءة فصل، حتى تجد نفسك تلهث وراء الفصل التالي، لكي تعرف ماذا حصل بالضبط.. وهكذا دواليك. وكل فصل مزود بعنوان مثير للانتباه ودافع إلى إكمال القراءة. أذكر مثلاً العناوين التالية: أعلام الإخوان وأعمالهم، مناقشة الإخوان في الأصول والفروع، التنظيم السري: سقوط الأقنعة، بعد الأدلة..هل بقيت فرصة للتوبة؟، تشريح الشخصية الإماراتية، الانفكاك عن الإخوان، الإمارات و«قطرات القرضاوي»، الخ.. المقصود قطرات السم بطبيعة الحال. فقد كان هجومه على الإمارات مستهجناً جداً، وقد ارتد وبالاً عليه، لأنه كان هو المعتدي الظالم. وأعتقد أنه اضطر للتراجع والاعتذار عن سقطته تلك. فهذا الشيخ الذي نصب نفسه بنفسه «إماماً للمسلمين» غصباً عنهم، تجاوز كل حدود اللياقة في تهجمه على دولة تجسد نهضة الإسلام، والوجه المشرق للحضارة العربية في هذا العصر. يمكن لهجومه أن ينجح على شخص خنفشاري كالقذافي مثلاً، ولكن ليس على الإمارات وحكام الإمارات الذين يجسدون الحكم الرشيد في عصرنا الراهن. هنا تكمن سقطته الكبرى. هو أيضاً اختار المكان الخطأ، والتوقيت الخطأ. في الواقع أن غطرسة الإخوان «وزعيمهم الروحي» بلغت أوجها في السنوات الأخيرة. وأكبر دليل على ذلك تطاولهم على الشيخ الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر. ومعلوم أنهم حاولوا إهانته أكثر من مرة أثناء فترة حكمهم القصير والفاشل في مصر. فقد قدموا عليه القرضاوي في المجالس، وأجبروه على الجلوس في المقاعد الخلفية التي لا تناسب مقامه ولا مكانته. ثم كان سقوطهم مدوياً، ليس فقط في مصر، وإنما في تونس أيضاً، والآن في الأردن. وهكذا، فقدوا هيبتهم واحترام الناس لهم. فقدوا تلك الهالة التي كانت تحيط بهم عندما كانوا يقدمون أنفسهم كرجال دين أو حتى دعاة إصلاح. وانطلت الحيلة على الناس. ثم سقطت الأقنعة مؤخراً. وميزة الكتاب الأساسية هي أنه ساهم في كشف هذه الأقنعة عن وجوه الإخوان. فهم يطلقون على أنفسهم لقب مشائخ، كما يقول المؤلف، أو حتى دعاة إلى الله، في حين أنهم يمارسون العمل السياسي المحض، بل ويخططون للمؤامرات السرية في الخفاء. هذه اللعبة المزدوجة للإخوان هي التي كشفها وعراها محمد الحمادي. زوال السحر الإخواني أعتقد أن ميزة كتاب الحمادي – أو إحدى ميزاته – تكمن في نزع الأقنعة عن وجه الإخوان المسلمين. وهذه عملية ليست بالسهلة أبداً، على عكس ما نظن. فالإخوان بارعون في وضع قناع التقى والورع على وجوههم، بغية إخفاء نواياهم الحقيقية. وتنطلي الحيلة على الناس الطيبين البسيطين. هنا يبرع محمد الحمادي في كشف هذا القناع الزائف عن وجه جماعة ذات أغراض سياسية بالدرجة الأولى، لا أغراض نقية خالصة لوجه الله. وهذا يذكرنا بما فعله الفيلسوف العربي الأول الكندي، عندما كشف القناع أيضاً عن «إخوان عصره» والمتاجرين بالدين. إنه يدينهم بكل قوة، كما يفعل الحمادي هنا، إلى درجة أنك تكاد تصرخ قائلاً : ما أشبه الليلة بالبارحة! يقول لهم الحمادي على أثر سلفه العظيم ما معناه: لا تستغلوا قداسة الدين وطهارته لأغراض دنيوية بحتة، وأحياناً أغراض دنيئة تهدف إلى تقسيم المجتمع وزرع بذور الفتنة فيه. فالمجتمع الإماراتي متماسك، قوي، لا تهزه الرياح. ثم يضيف هذه العبارة الموفقة شبه الشاعرية: «لكن كيف يمكن لمن رضي سكن الجحور أن يرى ضوء الشمس ونور الحق»؟ هذا المقطع البليغ يشخص - في رأيي- مشكلة الإخوان المسلمين كلها. فهؤلاء الناس ناموا على العصر نومة أهل الكهف، ومع ذلك يتوهمون بإمكانية قيادة المجتمعات العربية في أوائل القرن الحادي والعشرين! وبالتالي فمشكلة الإخوان المسلمين ليست مصر السيسي، ولا تونس، ولا الإمارات العربية المتحدة، وإنما الإخوان المسلمون أنفسهم. فما داموا متشبثين بعقلية العصور الغابرة، عقلية الكهوف والمغاور المظلمة، فلا حل لهم ولا خلاص. ما دام التجديد الديني لا يدخل في قاموسهم فلا مستقبل لهم. ولذلك فلا أستبعد انهيارهم كلياً في المرحلة المقبلة. وعلى أي حال، فبشائر ذلك أخذت ترتسم في الأفق. وكتاب محمد الحمادي يجيء في الوقت المناسب لإيضاح هذه الإشكالية الكبرى. وبهذا الصدد يمكن أن نقول: عندما تتعلم الأجيال العربية وتمحي الأمية كلياً أو تكاد، فسوف ينحسر تأثير هذه الجماعة إلى حد كبير. عندما ينتصر العصر الذهبي على عصر الانحطاط، فسوف ينقرضون من الساحة. عندما ينتصر التنوير العربي الإسلامي على الأصولية الظلامية، فلن تقوم لهم قائمة بعد اليوم. ذلك أن فهمهم للدين، لتراث الإسلام العظيم، لم يعد يليق بهذا العصر:عصر العلم والفلسفة والتقدم الإنساني والحضاري. وسطية الإسلام في مكان آخر من كتابه، يطرح محمد الحمادي مسألة الفلسفة الليبرالية المضادة للأيديولوجيا الإخوانية، ويتساءل قائلاً : ما هي الليبرالية؟ هل الليبرالية هي تحطيم المقدسات أو سب الرموز أو التشكيك في وجود الله أو السخرية من الأديان؟ أم أن الليبرالية عقيدة فكرية تنطلق من الانفتاح على الآخر واحترام الآخرين وعدم العيش في قيود وقوالب عتيقة تعيد المجتمع إلى الوراء؟ وبالطبع، فإن جوابه هو الحل الثاني. ثم يضيف لاحقاً: الليبرالية هي الحرية المسؤولة في التفكير والتصرف. وهذا أفضل تعريف لليبرالية، لأنها تعني في الأساس: فلسفة الحرية. ولكنها حرية مشروطة لا إباحية ولا فوضوية، كما يحصل أحياناً في بلدان الغرب. وبالتالي، فلا ينبغي على المثقفين العرب أن ينتقلوا فجأة من النقيض إلى النقيض، كرد فعل على التزمت الإخواني. لا ينبغي أن يستهتروا بالتراث والدين الحنيف. خير الأمور أواسطها. فالحضارة العربية الإسلامية كانت دائماً معتدلة، وسطية: أي روحانية ومادية في آن معاً، على عكس حضارة الغرب المفرطة في ماديتها وإباحيتها.«وكذلك جعلناكم أمة وسطا»، كما يقول القرآن الكريم. أضيف بأن تراثنا العربي الإسلامي هو بحر متلاطم الأمواج من التيارات الفلسفية والعلمية والروحانية والأدبية والتاريخية..إنه مفعم بالقيم الأخلاقية الكبرى واحترام الكرامة الإنسانية لجميع البشر، بعيداً عن عقلية التكفير والإقصاء. وبالتالي، فلا يمكن اختزاله إلى جماعة الإخوان المسلمين التي لا تشكل إلا نقطة في بحره. في القسم الثاني من كتابه، يتناول المؤلف عدة قضايا جوهرية، نذكر من بينها: كفر الفكر وفكر الكفر، الدين بين التسييس والتبخيس، الإسلاميون العرب بين الأربكانية والأردوغانية، الشرق الأوسط و«الفوضى الفتاكة»، إلخ.. هكذا، تلاحظون أنها قضايا أساسية، كل واحدة منها أهم من الأخرى، وفيها تحليلات مضيئة تهم كل المثقفين العرب. ولكن ضاق المجال للأسف، ولم يعد ممكناً الدخول في تفاصيلها. أخيراً هل هناك من داع للقول بأن الإخوان المسلمين يشكلون آخر أيديولوجيا توتاليتارية في عالمنا المعاصر. إنهم لا يقبلون المناقشة ولا الاختلاف في الرأي.«إنهم تنظيم سري يحرك أتباعه بنظام السمع والطاعة العمياء»، كما يقول الحمادي. ولذا فبعد انهيار الأيديولوجيات التوتاليتارية السابقة، كالفاشية والنازية والشيوعية الستالينية، لم يبق غيرهم في الساحة. ولا ننسى أيضاً انهيار الأصولية المسيحية في الغرب ومحاكم التفتيش. وهي الأشبه بالإخوان الذين سيتعرضون لنفس المصير، إن عاجلاً أو آجلاً. فالإسلام الحنيف هو دين الشفقة والرحمة، لا دين القسوة والعنف والإكراه في الدين. انهيار محتوم «الإخوان المسلمين» يشكلون آخر أيديولوجيا توتاليتارية في عالمنا المعاصر. وبعد انهيار الأيديولوجيات التوتاليتارية السابقة كالفاشية والنازية والشيوعية الستالينية لم يبق غيرهم في الساحة. ولا ننسى انهيار الأصولية المسيحية في الغرب ومحاكم التفتيش. وهي الأشبه بالإخوان الذين سيتعرضون لنفس المصير إن عاجلا أو آجلا. كشف القناع ما فعله الحمادي في كشف القناع الزائف عن وجه الإخوان يذكرنا بما فعله الكندي عندما كشف القناع أيضاً عن «إخوان عصره» والمتاجرين بالدين. لعبة الإخوان المزدوجة الإخوان يطلقون على أنفسهم لقب مشائخ أو حتى دعاة إلى الله في حين أنهم يمارسون العمل السياسي المحض، بل ويخططون للمؤامرات السرية في الخفاء، وهذه اللعبة المزدوجة للإخوان هي التي كشفها وعراها محمد الحمادي. عن الكتاب يحوي الكتاب مجموعة موضوعات نشرت على شكل مقالات في جريدة «الاتحاد»، ويتكون من قسمين رئيسين، وفصول عدة، تحلل وتفكك البنية الفكرية والعقائدية والسياسية لحركة «الإخوان المسلمين» في الإمارات، وتفضح ممارساتها منذ أربعين سنة، وصولاً إلى الراهن المبتلى بالخريف العربي، وتنامي اتجاهات العنف والتطرف والإرهاب في العالم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©