الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لبنان... والنموذج الجنوب أفريقي

19 فبراير 2011 23:41
يقف لبنان الآن على أعتاب واحدة من اللحظات المفصلية الفارقة في تاريخه. فقد خطت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي تحقق في مقتل رفيق الحريري، على طريق استكمال عملها المحفوف بالتعقيدات والحساسيات، حيث سلّم مدعي عام المحكمة وثيقة الاتهام، ومن المعتقد على نطاق واسع أن أشخاصاً مرتبطين بـ"حزب الله" سوف تتم تسميتهم، مع كل ما يعنيه ذلك من احتمالات احتقان وتجاذب. وربما يعتقد مراقب خارجي أن محاكمة علنية لهؤلاء المتورطين بجريمة قتل ستشكّل خطوة إيجابيّة لا تترتب عليها تعقيدات، وتشير إلى تحول درامي في اتجاه إنفاذ القانون بعيداً عن تاريخ لبنان في حل مشاكل الاقتتال الطائفي بالرصاص والقنابل. إلا أن تاريخ لبنان معقد إلى درجة أن احتمالات إحضار القتلة المفترضين إلى العدالة داخل البلاد قد أثارت سلفاً خوفاً وحقداً أكثر مما بعثت من آمال ومشاعر تفاؤل. وحتى لو استطاعت المحكمة الدولية إرساء قواعد سيادة القانون، فإنها قد تطلق، على الأرجح، شرارة جولة جديدة من الأعمال العدائية، والاستقطاب والاحتقان الشديد بين مختلف المذاهب والطوائف في بلاد الأرز. وقد وصل القلق داخل لبنان درجة دفعت وليد جنبلاط، زعيم طائفة الدروز اللبنانية، للإعلان أنه إذا أعطي الخيار بين مساندة العدالة وتجنب النزاع المسلح فسيختار الشق الثاني. ولكن، لماذا يجب أن يعاني اللبنانيون من العنف والاستقطاب، حسب منطق الجدل القائم راهناً، قبل أن إمكانية استكمال إجراءات إنفاذ العدالة في قضية واحدة محددة؟ يبدو أن حسابات جنبلاط هنا منطقية إذا نظرنا نظرة موازنة براجماتية بين الفائدة والتكلفة، من وراء العملية. ولكن، الواقع أنها أيضاً وصفة للبنان ليبقى دولة من دون قانون إلى الأبد. فإذا تم تأجيل إنفاذ العدالة فسيفوز الابتزاز والتهديد دائماً. وستأخذ القوة الفعلية أولوية على حكم القانون لتذهب في مهب ذلك كل قيم ومقاصد العدالة والأمن. وهنا أيضاً تتعارض أولويات جنبلاط بشكل صارخ وواضح مع أولويات نيلسون مانديلا، رئيس جنوب أفريقيا الأسبق. وقد فهم مانديلا كذلك إمكانات القوة العقلية والأخلاقية والجسدية كأساليب مختلفة لحل النزاعات والصراعات الداخلية في النسيج الاجتماعي. وعندما تقابل للمرة الأولى مع مضطهديه البيض لبحث انتقال جنوب أفريقيا إلى الديمقراطية، قال لهم إن باستطاعتهم "إما الاقتتال عليها أو التفاوض حولها". وفي نهاية المطاف اختارت جنوب أفريقيا عمليتين قانونيتين مختلفتين. بالنسبة لأولئك الذين كانوا على استعداد لتحمّل المسؤولية عن الجرائم التي ارتكبوها، تم تأسيس لجنة حقيقة وعدالة، تم فيها تبادل اعترافات بالذنب والتعبير عن الندم والأسف العميقين من أجل المغفرة والتنازل عن طلب الاقتصاص. وقد اختار أبناء جنوب أفريقيا، لحل مجالات النزاع الأخرى الاعتماد على المحاكم والقانون. والأهم من ذلك كله أنهم أسسوا محكمة دستورية وجدت لضمان إلزام السياسيين باتباع حكم القانون. وكان سجّل هذه المحكمة عبر 15 سنة من تاريخها مميزاً، ففي أقل من عقد من الزمن وضعت حدّاً لكافة أشكال العقاب الجسدي، بما فيه الإعدام، وألزمت الحكومة بالاعتناء بالمشردين والمصابين بمرض الإيدز، ومنعت قانونيّاً التمييز ضد النساء. وعند وضع تاريخيْ لبنان وجنوب أفريقيا المعاصرة جنباً إلى جنب، فإن فائدة استخدام القانون بدلاً من العنف لحل النزاعات تبدو واضحة، بشكل لا لبس فيه. ففي جنوب أفريقيا الجديدة أصبحت أعمال القتل السياسي أمراً من الماضي، ولا يوجد أحد فوق القانون، ولا حتى مانديلا نفسه. وتلعب جنوب أفريقيا اليوم دور الوسيط وصانع السلام في القارة السمراء بدلاً من كونها مصدّرة للميليشيات الخاصة أو داعمة لحركات التمرد كما كان حال النظام العنصري السابق في عهد "الآبارتايد". وفي المقابل، طالما عمل قادة لبنان وفق منطق حساباتهم السياسية الخاصة، فإن البلاد محكوم عليها بأن تظل دولة فاشلة في الشرق الأوسط، حيث يضع أقوى الناس وأكثرهم سلطة نفسه فوق القانون وخارج سلطته. ويقول البعض إن أمورا كإنفاذ القانون والعدالة لم تعد خياراً في لبنان لأن استقامة المحكمة الدولية وأمانتها تلطّخت بعدم فاعلية وقدرة تحقيقاتها وبالإثباتات الزائفة التي جمعتها، بحيث لم يعد بالإمكان الوثوق بها. إلا أن الحكم على طبيعة المحكمة الخاصة قبل سماعها شهادة حتى شاهد واحد يشكّل بالتأكيد حكماً مسبقاً ومحاكمة نوايا واضحين. إذ لن يكون من الممكن الحكم على صدق المحكمة والتزامها بالقانون وحيادها في التعامل مع القضية إلا بعد إنهائها لمجريات مهمتها. بل إن هناك أسباباً عديدة اليوم لإعطاء المحكمة فرصة لأداء عملها. حيث إن من المستبعد جدّاً - مع تعيين أنطونيو كاسيزي رئيساً- أن تلعب السياسة دوراً في مجريات عمل المحكمة، فكاسيزي قانونيّ دوليّ يتمتع بأفضل سمعة وله تجربة واسعة في المحاكمات الجزائية الدولية. وبالنسبة لأولئك الذين ينزعون للنظر إلى المحكمة بالشك والريبة والتخوين، يتعين عليهم تذكّر أنه عندما التزم مانديلا بفرض حكم القانون في جنوب أفريقيا كان أكثر من نصف القضاة الذين جلسوا في المحكمة الدستورية من البيض. عندما تطلب من سكان جنوب أفريقيا أن يشرحوا لماذا تخلّوا عن بنادقهم ووضعوا ثقتهم في القانون، تراهم يشيرون أحياناً إلى سمة من سمات ثقافة جنوب أفريقيا يسمونها "أوبونتو"، وهي مفهوم يتعلق بالترابط المتبادل بين الشعوب والناس. وبدلاً من النظر إلى الآخرين على أنهم يشكلون تهديداً، يُنظَر إلى الجميع على أنهم جزء من أسرة إنسانية أوسع. وعندما تقع الخلافات بين أفراد الأسرة الواحدة، ينبغي أن يصغي الجميع لما يقوله الآخرون، ليتم حل الخلافات بقوة الجدل والنقاش وليس بالعنف والقوة الجسدية للمشاركين في الخلاف. وينبغي هنا التذكير أيضاً بأن لبنان يملك أيضاً ثقافة شبيهة تتمثل في حسن الضيافة والكرم تجاه الغرباء. والسؤال هو عما إذا كان اللبنانيون سيختارون التفاهم مثل أبناء جنوب أفريقيا، ليستخدموا أفضل ملكاتهم وأوجه قوة ثقافتهم لإرساء قواعد دولة القانون. لاشك أن جميع أصدقاء لبنان ما زالوا يمنون النفس بأن يحسب اللبنانيون حساباتهم ويتصرفوا مثلما تصرف نيلسون مانديلا. ديفيد بيتي قانوني مقيم في لبنان ينشر بترتيب مع خدمة «كومون جراوند»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©