السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القراءة المبتورة

القراءة المبتورة
27 ابريل 2016 03:40
هاشم صالح إن الاحتفال بالقراءة، بمناسبة المعرض الدولي للكتاب في أبوظبي، حدث مهم ومرحب به كل الترحيب. فإذا كان العرب بحاجة إلى شيء ما بعد الأكل والشرب، فهو المطالعة وتوسيع الآفاق المعرفية. ولا يمكن لهم توسيع آفاقهم المعرفية إلا إذا قرأوا عشرات، وربما مئات الكتب. كل من عاش في الغرب زمناً طويلاً يدرك ما أقول هنا. كان أول شيء لفت انتباهي عندما وصلت إلى فرنسا هو كثرة القراء، وبالأخص القارئات في الأماكن العامة: من حدائق، وميترو، وباصات، ومحطات قطار، إلخ..الكثيرات كن يضعن كتاباً في وجوههن، وهن ينتظرن الوصول أو الرحيل. كثيراً ما كنت تجد هذه السيدة أو تلك غاطسة في قراءة رواية لبلزاك مثلاً أو ستندال أو فلوبير أو غي دو موبسان.. والكثيرون أيضاً. شعب بأكمله يقرأ ويثقف نفسه بنفسه. ولكنه شعب تجاوز مرحلة الأمية كلياً تقريباً. أما شعوبنا العربية، فلا تزال تعاني من الأمية بنسب ضخمة ومخيفة، وبخاصة فيما يتعلق بالنساء. فكيف يمكن أن تشجع على القراءة شعباً وهو أمي إلى حد النصف وربما أكثر؟ علمه أولاً القراءة والكتابة وبعدئذ شجعه على القراءة والمطالعة. أين المكتبات؟ هناك نقطة ثانية أساسية تتعلق بمدى توافر الكتب والمكتبات في البلدان العربية أو عدم توافرها. ماذا تستطيع أن تفعل إذا كان بلدك محروماً من الكتب والمكتبات العامة إلى حد كبير؟ كيف يمكن أن تطالع كتباً غير متوافرة، أو ليست في متناول اليد؟ أو ربما كانت متوافرة، ولكنها غالية الثمن، ولا تستطيع الطبقات الشعبية شراءها. لقد عشت في فرنسا مدة ثلاثة وثلاثين عاماً متواصلة، ولاحظت أن الشعب الفرنسي يستطيع أن يثقف نفسه بنفسه دون أن يشتري كتاباً واحداً إذا ما أراد. أقول ذلك على الرغم من أنه ليس شعباً فقيراً على الإطلاق بل يقف في مقدمة الشعوب الغنية المتقدمة. ولكن على الرغم من ذلك، فإن الدولة توفر له إمكانية إشباع رغبته في القراءة والمطالعة مجاناً. ومعلوم بهذا الصدد أن أندريه مالرو، وزير الثقافة في عهد ديغول، هو الذي دشن نظام المراكز الثقافية والمكتبات البلدية في فرنسا.لا يوجد حي في أي مدينة فرنسية إلا ويحتوي على ما يدعى بالمكتبة البلدية. لا توجد قرية من قرى فرنسا النائية إلا وهي مزودة بمكتبة عمومية. وهي تعير الكتب والمجلات وأفلام الفيديو مجاناً إلى المواطنين. هذا ناهيك عن كتب الأطفال. لقد زود مالرو البلاد كلها بشبكة كاملة من المكتبات العامة تغطي البلاد من أقصاها إلى أقصاها. وفي الأحوال العادية يعيرونك خمسة كتب دفعة واحدة لمدة ثلاثة أسابيع. ولكن في أشهر الصيف يعيرونك الضعف أي عشرة كتب، لأن الناس تكون متفرغة عادة للقراءة والمطالعة. وفي مدينة «رانس»، التي لا تبعد عن باريس أكثر من خمسين دقيقة بالقطار، يحلو لي أن أقيم أحياناً بشكل مطول نسبياً. وقد اكتشفت مؤخراً مفاجأة سعيدة: وهي أنه يكفي أن تكون مسجلاً في إحدى مكتبات المدينة لكي تصبح أتوماتيكياً مسجلاً في كل مكتباتها دون استثناء. وهي تعد بالعشرات، على الرغم من أن المدينة صغيرة نسبياً. وبالتالي، فهذا تحسين إضافي في الخدمات والتسهيلات والتشجيع على القراءة والمطالعة. إني أعرف أننا لا نستطيع تحقيق كل هذا التقدم دفعة واحدة. فهذه الأمم المتطورة من فرنسية وانكليزية وألمانية إلى آخره، لم تتوصل إلى كل هذا التقدم إلا بعد قرون من التراكم المعرفي والنضج الفكري والنمو الاقتصادي المطرد. ولكن لماذا لا نستلهم تجربتها في هذا المجال، ونحققها نصفياً أو جزئياً على الأقل؟ لماذا نقلدهم في السيئ، ولا نقلدهم في الجيد؟ كنت قد حذرت مراراً وتكراراً من تقليدهم في كل شيء، وبخاصة في الصرعات والموضات الدارجة والحريات الإباحية الشذوذية. ولكن فيما يخص نظام المكتبات العامة توجد تجربة إيجابية جداً، ويستحسن تقليدهم فيها. وأنتهز هذه المناسبة لتبيان الفرق بين التقليد الجيد/‏ والتقليد السيئ للغرب. ما معنى القراءات التنويرية؟ بعد أن نجهز البلدان العربية بالمكتبات والمراكز الثقافية في كل مدينة، وربما في كل قرية، كما تفعل الأمم المتقدمة، تبرز أمامنا مشكلة جديدة: ماذا سنقدم لهم كغذاء ثقافي؟ ما هي الكتب التي سنوفرها لأجيالنا الطالعة لكي تصبح مثقفة وتمشي على هدي من أمرها؟ هل هي الكتب التراثية المهيمنة على مدارسنا وجوامعنا وجامعاتنا. بل وحتى فيما يخص معارض الكتب يقال لنا بأن الكتاب التراثي القديم هو المهيمن. لنتفق على الأمور هنا: تراثنا الديني من أعظم التراثات التي شهدتها البشرية. ولا يخطر على بالي لحظة واحدة التنكر له. على العكس إني أنتمي إليه قلباً وقالباً. وإذا ما أخرجوني منه أموت، كما يحصل للسمكة عندما تخرج من الماء. ولكن هناك فرق ما بين الكتب التراثية العظيمة للجاحظ والأدباء الكبار والمعتزلة والفلاسفة من أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن الطفيل وابن باجة وابن رشد والمعري والتوحيدي.. إلخ، وبين كتب الجهالات الظلامية التي تتحدث لك عن منكر ونكير، وعذاب القبر، والناجين من النار، وبقية الشعوذات والخرافات.. هناك ثقافة دينية مستنيرة وعظيمة في تراثنا، ولكنها غائبة، أو مغيبة عن الساحة العربية عموماً. ولا وجود لها في برامج التعليم تقريباً. وأقترح بهذا الصدد تبسيط نظريات مفكرينا الأوائل عن الدين وشرحها بلغة عصرية وتقديمها كلقمة سائغة لأجيالنا الصاعدة. لا ينبغي أن نتركها فريسة للكتب الصفراء ولمواعظ المتشددين من كل الأصناف والأنواع. وبالتالي فهناك قراءة وقراءة. فإذا ما سيطرت عليهم كتب المتشددين خرجنا أجيالاً من الجهلة المتطرفين. وإذا ما قدمنا لهم الكتب الجديدة التي تبرز الجوانب المضيئة من تراثنا العربي الإسلامي العظيم خرجنا أجيالاً واعية مستنيرة قادرة على التفاعل مع العصر والفعل فيه، وإظهار صورتنا الحقيقية المشرقة في شتى أنحاء العالم. بصراحة، أستغرب لماذا تسيطر الكتب الظلامية على برامجنا التعليمية سيطرة شبه كاملة. هل حقاً أن التراث الإسلامي الكبير يختزل إلى هذا التيار فقط؟ لماذا ندرس تلامذتنا أفكار الفقهاء المتشددين، ونحشو رؤوسهم حشوا بفتاواهم التكفيرية التي عفى عليها الزمن، ولا ندرسهم نظريات الكندي والفارابي وابن سينا عن الدين؟ هل نعلم بأن الفيلسوف العربي الأول الكندي الذي عاش ومات قبل أكثر من أحد عشر قرناً، كان يقول أشياء رائعة عن الدين، وكأنها كتبت البارحة؟ إنه ينتقد المتحجرين عقلياً والمتاجرين بالدين والرافضين للفكر العقلاني والمكفرين للفلسفة، وكأنه يتحدث عن زمننا الراهن، لا عن زمن مضى وانقضى منذ ألف سنة. فلماذا لا ننبش نصوصه من مرقدها، ونشرحها، ونكتب مقدمات طويلة لها، لكي نموضعها في عصرها، ونربطها بعصرنا بشكل ذكي، ونقدمها كلقمة جاهزة لطلابنا في الثانوي والجامعي، وربما الإعدادي؟ نفس الشيء يقال عن نظريات الفارابي وابن سينا وابن رشد الذي صالح بين الدين الإسلامي والفلسفة بشكل مقنع، من خلال كتابه الشهير: فصل المقال. لماذا ندرسهم أفكار حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب وبقية الإخوان والسلفيين المضادين للعصر والحداثة، ولا ندرسهم أفكار التنويريين العرب، قديمهم والحديث؟ بكلمة مختصرة ومفجعة: لماذا نبتر النصف المستنير من تراثنا، ولا نبقي إلا على النصف المظلم؟ هل ابن تيمية أكثر إسلاماً من ابن عربي أو ابن رشد؟ هل حسن البنا أكثر إسلاماً من العقاد أو طه حسين؟ بهذا الصدد، أقترح قراءة عدة كتب لباحثين عرب مقيمين في باريس، كالمفكر الجزائري مالك شبل. لماذا لا نترجم كتابه: «بيان من أجل إسلام الأنوار»، ونعممه على كل المدارس العربية؟ وقل الأمر ذاته عن كتابه الآخر: «الإسلام والعقل». لماذا لا نترجم كتب الفيلسوف عبد النور بيدار؟ وهي محاولة بطولية ضخمة لتحقيق المصالحة التاريخية بين الإسلام والحداثة. لماذا لا نترجم كتب المفكر الإيراني الشهير داريوش شايغان المضادة للظلامية الخمينية؟ وقل الأمر ذاته عن كتب الفيلسوف فضل الرحمن المضادة للأصولية الباكستانية..الشارع العربي مليء بالكتب الظلامية وفارغ تقريباً من الكتب التنويرية. فكيف يمكن أن نخرج أجيالاً جديدة غير طالبانية؟ العالم كله يعتقد أن تراثنا كله حرب وضرب وتكفير وذبح.. هذا في حين أنه بحر من الآداب والفلسفات والأخلاق والحكم والقيم الدينية الروحانية المنقطعة النظير. ولكنها مطموسة كلياً في عصر الجهالات الكبرى، عصر الدواعش والداعشيين.. اعترافات شخصية لقد تعودت على مدار السنوات أن أمضي جل وقتي في قراءة الكتب. بل منذ نعومة أظفاري، وأنا مولع بالقراءة والمطالعة. إنها عادة قديمة، مزمنة، ترجع إلى سنوات الطفولة الأولى. ثم استمرت في التزايد والتصاعد بمرور الأيام والسنوات. أعتقد أني أقرأ ما لا يقل عن عشرة كتب في الشهر وربما أكثر. وأحياناً أقرأ كتاباً كاملاً في يوم أو يومين. فلا أستطيع تركه حتى أنتهي منه. وبما أني شخص ميال إلى العزلة والوحدة بطبعي، فإن مطالعة الكتب أصبحت شغلي الشاغل. وهكذا لا أشعر بأني وحيد، على الرغم من أني أقضي معظم النهار لوحدي. فعندما تكون محاطاً بمجموعة كبيرة من الكتب، فإنك لست وحيداً. عندما تعاشر روسو وفولتير ونيتشه وريجيس دوبريه وميشيل أونفري وجان دورميسون، وعشرات غيرهم يومياً، فإنك تشعر بأنك محاط بالأصدقاء والعشراء من أعلى طراز..حقاً، لقد صدق المتنبي في بيته الشهير: «وخير جليس في الزمان كتاب»..وأنوي بهذا الصدد إصدار سلسلة متلاحقة من المؤلفات بعنوان: «كتب ومراجعات». وذلك لأني التهمت خلال العشرين سنة الماضية عشرات، بل مئات الكتب الفرنسية. وكتبت عنها عروضاً مطولة في الجرائد والمجلات العربية. وقد آن الأوان لتجميعها وتنقيحها ومراجعتها، تمهيداً لنشرها تباعاً. أحياناً أتساءل: ماذا كنت سأفعل لولا لم أكن مغرماً بالمطالعة إلى مثل هذا الحد؟ كيف كنت سأتحمل كل هذه الوحدة الشاسعة أو العزلة شبه المطلقة المفروضة علي لظروف قاهرة منذ ربع قرن على الأقل؟ «صحراء الوحدة تتسع حولي» يقول نيتشه..«ها أنا وحيداً على وجه الأرض. لم يعد لي صديق ولا قريب ولا أخ ولا محاور إلا نفسي. لكأني مقطوع من شجرة!»(جان جاك روسو).. وبالتالي فهذا حظ استثنائي أن أكون مولعاً بالقراءة والمطالعة. بوجود الكتاب إلى جانبي لا أشعر بأي وحدة أو عزلة. على العكس إني محاط بالأصدقاء الأعزاء من كل جانب. إني أتناقش معهم وأتحاور، وكأنهم أحياء. وعلى أي حال، فإذا كانت شخصيات كبرى قد عاشت مثل هذه «العزلات العميقة» كما يقول بودلير، إذا كانت قد نزلت أو نُزلت إلى الدهاليز السحيقة، فمن أنا حتى أشكو من ذلك؟ من أنا بالقياس إلى كل هؤلاء الكتاب العظام؟ يضاف إلى ذلك أنه لولا هذه العزلة شبه الكلية، هل كنت سأقدر على التهام كل هذا العدد الهائل من الكتب؟ وبالتالي فأنا محسود على شيء لا أشكو منه، على عكس ما يقوله بيت المتنبي. كيف يمكنك أن تقرأ كل هذه الكتب لو كنت منخرطاً في الحياة الاجتماعية - ناهيك عن السياسية!- طيلة الوقت؟ مستحيل. لا تستطيع أن تقرأ أو تكتب إلا إذا اختليت بنفسك كلياً، وانقطعت عن العالم تقريباً. هذا هو شرط القراءة والهضم والاستيعاب. وأعترف بأن الاختلاء بالكتاب متعة ما بعدها متعة. بل إنها تتفوق لدى المتنبي على متعة الاختلاء بالجواري الحسان!. متعة لا تستطيع أن تقرأ أو تكتب إلا إذا اختليت بنفسك كلياً وانقطعت عن العالم تقريباً. هذا هو شرط القراءة والهضم والاستيعاب. وأعترف بأن الاختلاء بالكتاب متعة ما بعدها متعة. بل إنها تتفوق لدى المتنبي على متعة الاختلاء بالجواري الحسان!..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©