السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مثقفون عرب: استعادة العقلانية

مثقفون عرب: استعادة العقلانية
27 ابريل 2016 03:35
عواصم: محمد عريقات ومحمود بري وإسماعيل غزالي وإيهاب الملاح ثمّن مفكرون عرب اختيار هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة الفيلسوف العربي الإسلامي ابن رشد شخصية محورية لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الحالية، ورأوا أنها مبادرة لإعادة الحياة إلى الروح العقلانية في التراث العربي الإسلامي، فالعلم بتطوراته ومستجداته هو من سيقول الكلمة الفصل بخصوص مستقبل المنطقة العربية، وها هنا يتجلى ابن رشد من خلال منهجه التحليلي اللازم والمطلوب بدلاً من المنهجيات التي أغرقت الجميع في بحار من الدم. ولفتوا إلى أهمية الفيلسوف والطبيب والفقيه والقاضي والفلكي والفيزيائي الأندلسي أبو الوليد ابن رشد، المعلم الثاني الذي يعتبر أحد أعلى منارات الحضارة البشرية على المستويين العربي والعالمي، الذي قيل فيه إن الفلسفة الإسلامية انتهت بوفاته. «الاتحاد الثقافي» حاول استقصاء دلالات هذا الاختيار، ومغزاه، في عدد من العواصم العربية، فكانت هذه الإجابات: الدكتور مراد وهبة، أستاذ الفلسفة في جامعة عين شمس، وأحد كبار المتخصصين في الفكر الرشدي والفلسفة الرشدية في القرن العشرين، أجاب عن السؤال: لماذا ابن رشد اليوم؟ بالإحالة إلى واحدٍ من بحوثه الأصيلة عن فيلسوف قرطبة، بعنوان «مكانة ابن رشد في العالم الإسلامي في القرن الحادي والعشرين»، والذي أشار فيه إلى أن من أبرز التحديات التي تواجه البشر على كوكب الأرض تلاشي المسافة مكانياً وزمانياً؛ الأمر الذي يمتنع معه «الانغلاق» و«كراهية الآخر»، وهما الظاهرتان اللتان التصقتا بالعالم الإسلامي المعاصر؛ قائلاً: «إن الرأي عندي ولا يزال أن فلسفة ابن رشد كفيلة باجتثاث جذور هاتين الظاهرتين». وأضاف وهبة: إن السؤال الذي يترتب على السؤال السابق: ولماذا ابن رشد دون غيره من الفلاسفة المسلمين؟ مجيباً إن ابن رشد هو الفيلسوف المتفرد الذي تميز بنهاية مأساوية له وللعالم الإسلامي معاً، فقد كُفّر وأُحرقت مؤلفاته، ونُفى إلى قرية «أليسانه» في إسبانيا، وكانت قرية تموج باليهود. ومن هنا قيل عنه بالوهم إنه من أصل يهودي. أما العالم الإسلامي، فقد أصابته الدوغماطيقية التي تعني توهم امتلاك الحقيقة المطلقة فانعزل عن العالم الغربي الذي أفاد إفادة عظيمة من فلسفة ابن رشد، إذ نشأ فيه تيار «الرشدية اللاتينية» الذي كان سبباً رئيسياً في بزوغ الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، وبما يعني إعمال العقل بإطلاق آفاقه في النص الديني، مما أدى إلى بزوغ التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر الذي قام على تحرير العقل من كل سلطان، عدا سلطان العقل وحده. بمنهجه التحليلي، المترابط، يستكمل مراد وهبة رؤيته لابن رشد والرشدية، فيطرح سؤالاً تالياً ترتب على ما سبق: إذن، ما العلاقة بين تكفير ابن رشد وعزلة العالم الإسلامي؟ ويجيب: كان العالم الإسلامي يواجه تناقضاً حاداً بين حقيقتين: حقيقة «دينية» وحقيقة «فلسفية». وقد ورد هذا التناقض في واحد من أشهر كتب ابن رشد وأهمها، وهو المعنون «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، إذ نجح ابن رشد في إزالة هذا التناقض بطرحه مفهوم «التأويل» (صدرت منذ أيام قليلة طبعة جديدة لهذا الكتاب وكتاب آخر لابن رشد «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة» عن هيئة قصور الثقافة المصرية، بتقديم الدكتور مراد وهبة). «التأويل» عند ابن رشد؛ والكلام ما زال لـ الدكتور مراد وهبة، يعني أن النص الديني له معنيان: أحدهما «ظاهر» يُدرك بالحواس، والآخر «باطن» يُدرك بالعقل. فإذا اتفق المعنى الظاهر مع مقتضيات العقل وقواعد البرهان فلا خلاف. أما إذا جاء المعنى الظاهر مخالفاً فيلزم تأويله؛ أي يلزم الاستعانة بالمجاز الذي يسمح بتجاوز المعنى الظاهر إلى المعنى الباطن، وهذا التجاوز لا يتم إلا بإعمال العقل. والنتيجة المترتبة على ذلك هي القول إن «الفلسفة هي الشريعة مؤولة» بمعنى أن تأويل الشريعة هو الذي يفضي بها إلى أن تكون فلسفة. ويترتب على ذلك أن تصبح الفلسفة مشروعة شرعاً، وكذلك يصبح التأويل. ومع التأويل يمتنع الإجماع، ومع امتناع الإجماع يمتنع التكفير. وكانت هذه النتيجة التى انتهى إليها ابن رشد رداً على الإمام الغزالي من القرن الحادي عشر، الذي كفّر الفلاسفة المسلمين في مفتتح كتابه المعنون «تهافت الفلاسفة»، بدعوى أنهم تأثروا بالفلسفة اليونانية الوثنية. إرادة المعرفة من جهته، يقول الباحث المغربي محمد نور الدين أفاية: لعل استحضار فلسفة ابن رشد، اليوم، يندرج ضمن فهم فكري مسنود بنزعة إنسانية لا ترتهن لمرجعية مغلقة أو لفهم متشنج للذات وللآخر. ولا جدال في أن ابن رشد يمثل أحد أكثر اللحظات قوة في هذا النزوع العقلاني التحرري، قياساً إلى إكراهات زمنه، بحيث تشكل دعوته إلى الحقيقتين أحد أهم الاختراقات التي تمت في عصره. وتكشف الامتدادات اللاتينية لهذه الدعوة عن عمق الرؤية التي أسسها للدين وللفلسفة، وللفارق المنهجي الدقيق بين حقول العقل وعوالم الإيمان. لقد أقام تمييزاً واضحاً بين مجالين يختلفان من حيث المصدر والمنهج وآليات التفكير والتخيل، لكنهما يلتقيان، في نظره، من حيث الهدف. إذ تستند الحكمة إلى المفاهيم والبرهان المنطقي، ويمتح الدين عقائده من التسليم والإيمان بالله وبالوحي المنزل على النبي. وبدون تصنيف تراتبي بين المجالين ترمي كل من الحكمة والشريعة إلى بلوغ الحقيقة. لم يُنتج تأكيد ابن رشد على هذه القاعدة لديه أي شعور بالتعارض أو التنافر، بل ولّد لديه وعيًا حادًّا، في زمنه، بتلازم الإيمان والعقل دون الخلط بين مستويات اشتغالهما. ويضيف: بمقدار ما تعرض ابن رشد، في التاريخ الفكري الفلسفي، لتجاهل تنفضح خلفياته يوماً عن يوم؛ نجد باحثين أوروبيين يعتبرونه علامة فارقة في الفلسفة الوسيطية، حيث جسد، طيلة أربعة قرون، «العقلانية الفلسفية في الغرب المسيحي»، كما يقول «ألان دوليبيرا». بل إن هذا «المثقف يمثل الحلقة المركزية في الجهاز الفكري الذي أسعف الفكر الأوروبي في بناء «هويته الفلسفية». وهو بذلك يعبر عن «إرث منسي» يجعل من الدور التاريخي لابن رشد،»عرَضاً لمرض التاريخ الغربي المرتبط بعملية التمويه عن القسط العربي فيه». وفي الوقت الذي هاجرت فيه الرشدية إلى الضفة الشمالية للمتوسط، بما خلقته من جدل وتثاقف، تعرضت في الفضاء العربي الإسلامي لأفظع أنواع الهجوم والحصار. كما أن الإقرار الرشدي بثنائية الحقيقة لا يعني، بداهة، إنتاج التمييز بين القدسي والزمني، أو بين الديني والسياسي في التاريخ الأوروبي، لأن الصيرورة التي أفرزت هذا التمييز أعقد مما تبشر به بعض الكتابات العربية في الموضوع. لكن ما هو مؤكد هو أن ابن رشد جسد، وبدون حرج يذكر، ذلك التثاقف الرائع الذي حصل في زمنه بين الثقافات والديانات الثلاث، الإسلامية والمسيحية واليهودية، وأنتج فكراً حيوياً يراعي، بإحكام رفيع، ضرورات التوازن بين الذات والآخر، بين الارتباط بمقومات الهوية والانفتاح على عطاءات الاختلاف. ولهذا السبب ينزع بعض الباحثين الأوروبيين إلى اعتباره «وجهاً عربياً للعقلانية الأوروبية». فهو يكثف الارتباط العميق بين الثقافات وثراء التثاقف المنفتح على الآخر دون المساومة على أصول الانتماء. ويرى أفاية أن استدعاء الفكر الرشدي، في السياق الثقافي الراهن، ليس بريئاً. فالفكر الرشدي انبنى داخل الصراع، ومن خلاله صاغ تمييزه الشهير، ودعا إلى استنبات تثاقف عقلاني نشط في الثقافة العربية الإسلامية، ضداً على النزعات الارتكاسية والاتجاهات المنغلقة. كما أن هذا الاستدعاء مناسبة لإبراز الإرث العقلاني المتفتح في التراث العربي الإسلامي، وفرصة لاستحضار قيم التفاهم والتحاور الندي وإرادة المعرفة. ويختم: تحرير ابن رشد للأرسطية مما أحاط بها من مؤثرات وتأويلات أفلوطونية، ودفاعه المستميت عن استقلال الفلسفة، قياساً إلى عالم الشريعة، جعل منه لحظة معرفية ذات مفعول عميق في تاريخ الفكر العقلاني. ولعل استنبات الفلسفة في التربة الفكرية العربية الإسلامية دليل على وجود مشروع تنويري يحتفل بالعقل، ويواجه ما عداه بالحجة والمناقشة الهادئة، سيما أن الرجل كان مُلمّا بالعلوم التقليدية بمقدار إلمامه بالفلسفة، الأرسطية بالخصوص، ما أسعفه في منح مشروعية « ثقافية»، إذا صح التعبير، للاشتغال بالفلسفة. كيف نقرأ ابن رشد؟ أذكر مرة أن المرحوم محمد عابد الجابري، قال لأحدهم، وكان يناقش رسالة دكتوراه، حول ابن رشد «هذه رسالة ولدت ميتة، تصلح لأن توضع في متحف مخطوطات لا أن تقرأ»، هكذا بدأ الباحث المغربي عادل حدجامي حديثه لـ«الاتحاد الثقافي»، وأوضح: من يعرف سياق الكلام عن ابن رشد، ورهاناته في المغرب يومها سيعرف المقصود بقول الجابري، ذلك أن الاشتغال على فيلسوف قرطبة حينها، تقاسمته نزعتان، الأولى بريادة جمال الدين العلوي، الذي كان يدعو لما يعتبره قراءة فيلولوجية للمتن الرشدي، والثانية مثلها محمد عابد الجابري نفسه، الذي كان يدعو لقراءة يريدها علمية للمتن، والرسالة موضوع حكم الجابري كانت تعلن انتماءها للاتجاه الأول، ما يفسر حكم الجابري القاسي عليها. ويتابع: قد يقول قائل إننا أمام قراءتين، أولاهما خاطئة، تسعى لأن تحمل فلسفة ابن رشد ما لا طاقة له به، وهذا جوهر اعتراض جمال الدين العلوي على الجابري، قراءة تتجاوز عن حقيقة المتن وتحمله أموراً فوق طاقته، قراءة، بدعوى أنها تريد أن تكون عملية، تقطع الصلة بمراد الكاتب في ذاته، قراءة بالتسمية المبتذلة. بيد أن هذا الاعتراض يتبدد أمام سؤال أعمق، هل القراءة المبتغاة فيلولوجية مجردة من كل إيديولوجيا فعلاً؟ وهل من الممكن أصلاً أن نقدم قراءة خالية من كل خلفية مهما كانت خفية؟ وهل بمكنتنا كأناس ينتمون لزمن معلوم، وبالتالي لقدر تأويلي يسبقهم، أن يقدموا قراءة متحررة تماماً، مهما تحروا من التجرد؟ إن فهمنا المراد هنا، فإننا سنقف على أمور ستحول من صيغة السؤال نفسه، من سؤال كيف نقرأ ابن رشد؟ وهو الرهان الذي حكم كل قراء ابن رشد المحدثين، إلى سؤال عما نريده نحن اليوم من قراءة ابن رشد؟ وإحقاقاً للحق، وضداً عن روح التأفف التي يبديها اليوم كثيرون من الرشديين تجاه عمل الجابري، كان واعياً بقدر ما بهذا الأمر، إذ هو من كان يقول إن كل قراءة تدعي أنها تتجاوز بشكل يبدو إرادياً، كل إيديولوجيا قبلية تبدو واعية بذاتها، تسقط ضحية إيديولوجيا غير واعية بذاتها، على الأقل في مستوى زمن الأسئلة، إذ يحق لنا أن نتساءل حينها لم هذا السؤال الآن وهنا، وليس في زمن سابق، ولا في زمن لاحق ؟ أو ليس طرح الأسئلة وتخيرها نفسه، بخاضع لاقتصاد تأويلي سابق على مضمون الأجوبة التي سنقدمها ؟ أوليس السؤال نفسه خاضعاً لمنطق غير واع يجعله ممكناً كسؤال؟ إعادة اعتبار يرى الباحث الأردني د. موسى برهومة، أستاذ الإعلام في الجامعة الأمريكية في دبي، أن في اختيار فيلسوف العقل ابن رشد شخصية لمعرض أبوظبي للكتاب معاني ودلالات بالغة العمق، أهمها إعادة الاعتبار لما يمثله ابن رشد في الثقافة العربية الإسلامية، وإيقاظ الاهتمام، من جهة ثانية، بما تركه لنا فيلسوف قرطبة، وأحد ألمع مفكري عصره. وإجابة على سؤال لماذا ابن رشد اليوم؟ يقول صاحب كتاب «التراث العربي والعقل المادي»: «نتذكر ابن رشد، الآن، لأنّ نسياننا ميراثه، وتواطؤ الثقافة القديمة وصمتها تجاه محنته وإحراق كتبه وسجنه، هي التي شكّلت المقدمات الأولى للانهيار الذي نشهد الآن ويلاته في عصر العتمة الروحية والتأتأة العقلية والعُته الوجداني الذي نخوّض في مستنقعاته الآسنة منذ أكثر من ثمانية قرون. ويضيف برهومة: «حتى نعيد الاعتبار إلى ابن رشد بحق وحقيق، يتعيّن إعادة قراءته، وتسليط الضوء على تمسكه بالنظر الفلسفي العقلاني في قراءة النص الديني الذي يؤوله الإرهابيون، الآن، تأويلات شتى وغير إنسانية تنزع من روحه الرحمة وماء الحياة، وتحوّله إلى منصّة للقتل والخراب وكراهية العالم». ويؤكد برهومة على أن الدين يوجب التفلسف، قالها «تهافت التهافت»، مشددّاً على أن الشرع حثّ على معرفة الله وسائر موجوداته بالبرهان، مذكّراً بآيات كثيرة من القرآن تدعو إلى التفكّر والتدبّر، منها قوله تعالى: «فاعتبروا يا أولي الأبصار»، «أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء»، وفي نظره أن الاعتبار هنا معناه استنباط المجهول من المعلوم، وهو القياس العقلي أو الشرعي والعقلي معاً. فابن رشد كان يعتقد بأنه إن تعارض العقل مع النقل في حكم شرعي وجب تغليب العقل، لأنّ النظر البرهاني لا يؤدي، على القطع، إلى مخالفة ما ورد به الشرع، «فإنّ الحقّ لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له». ويخلص برهومة إلى القول: «كان مشروع ابن رشد ثورياً بامتياز، عندما قام على هدم سلطة المنادين بالنقل والتفسير الحرفي للقرآن من «أهل السنة والجماعة»، و«السلف الصالح»، أو ما يمكن وسمهم بـ«المحافظين»، واختار المواجهة التي لم تكن نتيجتها لصالحه في ذلك الحين، فهل ننفخ في ميراث ابن رشد، ونعيد الحياة إلى الروح العقلانية في التراث العربي الإسلامي؟ مدخل إلى الحل من جهته ثمّن د. غسان عبد الخالق، عميد كلية الآداب والفنون في جامعة فيلادلفيا، استعادة ابن رشد كشخصية رئيسية لمعرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته المقبلة، بوصفه مدخلاً لحل، وليس بوصفه حلًا؛ إذ من نافل الحديث القول بأن كثيراً من إشكاليات الواقع الذي عاشه ابن رشد قد أصبحت تاريخاً فلسفياً أو فقهياً أو فيزيائياً. ويرى مؤلف كتاب «الدولة والمذهب» أن الفلسفة التي لم يدخر ابن رشد وسعاً لرد الاعتبار إليها موجودة بصور عديدة على امتداد أقطار الوطن العربي ولكن دون تأثير يذكر. والاجتهاد الذي أولاه كثيراً من عنايته متوافر بصيغ مغرية. وأما الفيزياء فقد تجاوزت نيوتن وآينشتين! فماذا تبقى من فكر ابن رشد ليضطلع بالإجابة عن أسئلة واقعنا العربي المتردي؟ قد يسارع البعض للقول:«فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال»، وذلك من باب الاعتقاد بأنه يشتمل على الوصفة السحرية لتفكيك معضلة الترافع القائم الآن بين أولويات الدين وأولويات السياسة. ويوضح عبد الخالق رؤيته للترافع في الوطن العربي بأنه يتمثل في المواجهة الضارية بين الدين والسياسة التي التحقت به من جهة، وبين العلم من جهة أخرى. ويؤكد على أن العلم بتطوراته ومستجداته هو من سيقول الكلمة الفصل بخصوص مستقبل الدين ومستقبل السياسة في المنطقة العربية، وها هنا يمكننا أن نلمح ابن رشد متجلياً بشخصه من خلال منهجه التحليلي اللازم والمطلوب، بدلاً من منهجيات التأويل التاريخي والمادي والميتافيزيقي التي أغرقت الجميع في بحار من الدم. ويختم:«يمكننا أن نلمح ابن رشد أيضاً متجلياً بشخص تلميذه ابن خلدون من خلال منهجه الواقعي الذي يمكن أن يشكل المرجعية الوحيدة والموثوقة لأي تحليل مأمول. وأياً كان الأمر، فإن روافع العلم ممثلة بالتكنولوجيا الناعمة والشركات العابرة للقارات وقوانين التجارة العالمية لم ولن تستأذن أحداً لترسم اللوحة التي يراها العلم مناسبة، فيما يتدافع مئات الملايين على استهلاك مدخلاته ومخرجاته الاقتصادية والسياسية والثقافية». مغزى نبيل يعتبر د. خالد زيادة، سفير لبنان السابق لدى القاهرة، والمفكّر والأكاديمي اللبناني، أن معرض أبوظبي الدولي للكتاب هو أحد أهم المعارض العربية التي تستقطب الكثيرين من القاصدين، وتترك الكبير والواسع من الصدى الإيجابي. الواقع أننا اليوم نعيش مرحلةً أصبح لمعارض الكتاب فيها الدور البارز والأهمية البالغة في تيسير عمليات نشر وانتقال الكتاب من عاصمة إلى أخرى وبين الكثير من الدول والشعوب. ويشهد العالم العربي اليوم ما يقرب من عشرة معارض للكتاب تؤشّر إلى مبلغ الاهتمام الواسع بهذه المادة المعرفية والثقافية الميسورة، وهي تتواصل في بيروت والقاهرة وتونس والمغرب والرياض وأربيل أيضاً وسواها، جاعلة من الكتاب ضيفاً يجري الاحتفاء به وعرضه في مساحات واسعة بحيث يكون في متناول أوسع الشرائح الاجتماعية، وبأهوَن السُّبل والتكلفة. ويأتي معرض أبو ظبي في هذه الفترة ليتمم رحلة الكتاب التي يقوم بها كل سنة على مدار الفصول، مع القيمة الإضافية التي توفّرها العناية المنهجية المتخصصة من قبل المعنيين بهذه التظاهرة الثقافية في عاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة، والاهتمام الرفيع الذي يُبذل على مختلف المستويات، بما يتيح لجمهور الراغبين أوسع الخيارات وأكثرها تنوّعاً. أما اهتمام القائمين على إحياء هذا المعرض باختيار ابن رشد الشخصية الرئيسية فيه لهذا العام، فهذا أمر له دلالة كبيرة ومعنى نبيل، ولا سيما في هذه اللحظة التاريخية الحساسة التي يعيشها العالم العربي. فابن رشد هو العالم العلّامة متعدد المواهب والمعارف، من الفلسفة إلى الفقه إلى الطبّ إلى القضاء إلى علوم الفلك والفيزياء، وهو الذي اعتُبِرَ من أهم الفلاسفة المسلمين وصاحب مقولة أن لا تعارض بين الدين والفلسفة. واختياره تميمة لهذا المعرض يعبّر عن اختيار العقلانية مكان الظلامية واختيار التفكير الحرّ مكان الأفكار المقيّدة والعبثية التي نشهدها اليوم. نحن فعلاً بحاجة إلى عقلانية إبن رشد، إلى الاتصال بين الحكمة والشريعة كما عَنوَن أحد مؤلفاته، ونحن بحاجة أيضاً إلى كثيرين يتابعون فكر ابن رشد، ويعلنون هذا التفكير العقلي الذي تعلّمته أوروبا في نهضتها من هذا العالم الكبير والفيلسوف المُشرق. حاجة ملحّة يرى د. جورج قرم، وزير المالية الأسبق والخبير المالي والاقتصادي اللبناني، أن اختيار شخصية ابن رشد لكي تميّز معرض الكتاب في أبو ظبي أمر فيه دلالة كبيرة خاصة في الأيام الصعبة التي يعيشها العرب منذ بضع سنوات، وتزايد النزاعات والعنف في العديد من المجتمعات العربية. إن ابن رشد عاش في زمن حرب ملوك الطوائف في الأندلس، وكان قاضياً وفيلسوفاً كبيراً اشتهر في الشرق كما في الغرب بميوله العقلانية وبقدرته الفائقة على التوفيق بين الدين والعقل، خلافاً للتيارات الأخرى التي كانت ترى أن لا دور للعقل في القضايا الدينية، بل إن العقل قد يُفسد الدين. وقد أثّرت أعمال ابن رشد بشكل لافت في الحضارة المسيحية الأوروبية، نظراً لترجمة العديد من كتاباته إلى اللغة اللاتينية، وهي كانت لغة الكنيسة الرومانية وكذلك لغة العلم واللاهوت في كل أوروبا. أما في ديارنا العربية والإسلامية، فإن أعماله ربما لم تؤثّر بنفس الدرجة، كون جزء كبير من النخبة المثقفة العربية لم تناقش أعماله بطريقة إيجابية، وكأنّ العقلانية ليست من صفات الإنسان العربي المسلم. وقد أدى عدم انتشار العقلانية إلى الجمود الفقهي في الأمور الدينية، وإبعاد الفلسفة العقلية لإثبات دور الدين في الحياة الإنسانية. وقد تمّ التعويض عن هذا النقص بانتشار الفرق الصوفية التي أغنت بدورها الثقافة العربية والروحانية الدينية الإسلامية. والحقيقة أننا أحوج ما نكون إلى إعادة إحياء تراثنا الفلسفي العقلي وانفتاح الفقه الديني على استيعاب مقتضيات العالم الحديث الذي نعيش فيه مع كل تعقيداته، وضرورة استيعاب جميع أنواع العلوم وتملكها وتوطينها في مجتمعاتنا العربية بغية العودة إلى مسار عمراني بالمعنى الخلدوني، ولأعمال ابن خلدون رمزية وأهمية كبيرتان خاصة في الزمن الذي نعيش فيه، نظراً لعمق معارفه واستنباطه العميق لقواعد النهضة والانحطاط، وهي قواعد لم نتملكها، كعرب بعد، في العصور الحديثة. حسن حنفي: ابن رشد يستخدم الشرح استخداماً حضارياً في مصر، تحديداً، التي شهدت ميلاد أقدم النصوص والنقاشات الحضارية حول ابن رشد الفيلسوف في مطالع النهضة العربية (راجع حوار الإمام محمد عبده مع فرح أنطون حول ابن رشد وفلسفته)، شغل ابن رشد حيزًا كبيراً من اهتمامات أساتذة ومفكرين مصريين كبار، منهم المفكر الشهير الدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة في جامعة القاهرة، ورئيس الجمعية الفلسفية في مصر. حنفي خص ابن رشد بجانب كبير من انشغالاته الفكرية والفلسفية، وكتب عنه غير مرة وفي أكثر من مناسبة، ربما كان من أشهرها دراسته المهمة «ابن رشد شارحاً أرسطو»، وهو البحث الذي ألقاه في مؤتمر ابن رشد، في ثمانينيات القرن الماضي. بنى حسن حنفي بحثه على تسليط الأضواء على شروحات ابن رشد لأرسطو، ليس باعتبارها محض «متن على متن» أو «شروحات على متون»، بل بوصفها قراءات جديدة ومنتجة لمتن سابق، إذن فهي على الحقيقة متن جديد، منتج، يحمل قدراً كبيراً من استبصارات ابن رشد وقراءته للنص الأرسطي، بل ذهب حنفي إلى القول إن «ابن رشد يستخدم الشرح استخداماً حضارياً». أيضاً في مقالته المهمة المعنونة بـ«تراثنا الفلسفي» (المنشورة في مجلة فصول المصرية، أكتوبر 1980) تعرض حنفي لابن رشد، وقال إن الفلسفة الإسلامية على حقيقتها هي تطوير لعلم الكلام الإسلامي، وإن الفكر الفلسفي، مثّل في تراثنا العربي، تقدماً بالنسبة للفكر الديني، كان الكندي الفيلسوف «متكلماً»، ثم تكلم في الاستطاعة والفعل، ثم تحول إلى «فيلسوف»، وظل الفلاسفة من بعده ينقدون المتكلمين ومناهجهم، إلى أن وصلنا إلى ابن رشد الذي بلغ الذروة في هذا النقد، خاصة في كتابه القيم «مناهج الأدلة في الكشف عن عقائد الملة»، حيث بيَّن أن علم الكلام لا يتجاوز «الجدل» و«الخطابة»، وأن الفلسفة وحدها صاحبة «البرهان»، فالفكر الديني السائد مجرد انفعال وخصومة، في حين أن الفكر الفلسفي «عقلاني» و«موضوعي». زمن التكفير يتعلق الأمر، في زمن التكفير الذي نشهد فصوله الرامية اليوم، بالتزام مبدئي بأهمية النظر البرهاني في بناء الذات، والانفتاح على كل ما يسعف في التفكير في الزمن، سواء كان ذلك آتيًا من صميم الإرث الثقافي الخصوصي، أو عمل الآخر على اقتراحه. فلا مجال للتقوقع داخل أصل مطلق، أو التفكير في العلاقة بين العقل والإيمان من منطلق تسديد دين لأحدهما. محمد نور الدين أفاية ذاكرة المستقبل يقول آلان دو ليبيرا عن موقف ارنست رينان من ابن رشد إنه - أي رينان - كان يرى أن فلسفة ابن رشد ليست فلسفة أصيلة، ومحتواها مليء بالمقولات المكرّرة. وهو يعتقد أن الموهبة الوحيدة لابن رشد هو عرضه لمجمل المذاهب المتعلقة بأتباع أرسطو من بين العرب، واقتراحه فكراً يلخص روح الفلسفة العربية. وعن الدور الذي يمكن أن يلعبه ابن رشد اليوم، يقترح دو ليبيرا الخروج من التقاليد القوميّة لكي نتمكّن من النظر إلى المستقبل. اعتمادا على ذلك يمكن أن يكون ابن رشد عنصرا أساسيا وإيجابيا في إعداد مشاريع هامة ومفيدة تخصّ الفضاء المتوسطي بضفتيه. وبذلك نضع حدّا لذاكرة تقتصر مهمتها على تكرار الماضي واجتراره، لنبعث للوجود ذاكرة تطمح إلى بناء المستقبل، وتؤسّس له.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©