الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حاجة الحاضر لرشديَّة الماضي

حاجة الحاضر لرشديَّة الماضي
27 ابريل 2016 03:28
علي فخرو للمفكر المغربي محمد عابد الجابري مقولة ذات مدلول عميق، وهي أن «لا معنى للحديث عن شيء لا يرتبط بمرجعيّة، لا يستند على أصل». من هنا فإن الحديث عن حاجة الحاضر لرشدية الماضي يندرج ضمن مقولة الجابري تلك. كيف ذلك؟ واحدة من الإجابات التي يهمنا إبرازها تتجلّى في ظاهرة الثنائية في الثقافة العربية. فهذه الظاهرة برزت على أشدّها منذ منتصف القرن التاسع عشر في شكل ثنائيات متواجهة ومتصارعة ورافضة لأي التقاء من مثل ثنائيات: التراث/‏ الحداثة، الأصالة/‏ المعاصرة، الدين/‏ العلم والفلسفة، الذّكر/‏ الأنثى، العقلانية/‏ الإيمان التي تندرج تحتها ثنائية النقل/‏ العقل الشهيرة. مهما مرّ من السنين، ومهما تبدّلت الأحوال، يظل موضوع الثنائية بتمترساتها واستقطاباتها الحادة قابعاً في الرُّكن، ليطل برأسه بين الحين والآخر، وليصبح صخباً ومناقشات هستيرية. ضمن تلك المعطيات المعقدة التي لازالت الثقافة العربية تعيشها، تبرز أهمية التجربة الرشدية الفذة، التي مارسها فيلسوف وفقيه قرطبة الشهير، بشأن ثنائية الدين/‏ الفلسفة. وهي تجربة مهمة ليست فقط لقيمتها التاريخية، بما فيها تأثيراتها الكبيرة على الفكر الأوروبي لعدة قرون، وإنما أيضاً لمنهجيتها الكفؤة في النظر إلى ما قد تبدو ظاهرياً أنها ثنائيات لا تقبل التعايش والتناغم، في حين أن الأمر ليس كذلك. الدرس الأول هناك عدة جوانب في حياة وأفكار وأساليب ابن رشد قابلة لأن نتعلم منها الكثير في زمننا الحاضر. وهي جوانب أضاءت زمنه، ولازالت قادرة على إضاءة أزمنتنا الحاضرة والمستقبلية. أولاً: لقد واجه ابن رشد في زمانه إشكالية العلاقة بين الدين والفلسفة، تلك الإشكالية التي طرحها المتكلمون كأفراد في بداية الخلافة الأموية، لتصبح بعد حين تياراً ومذهباً دينياً تحتضنه وتوظًّفه سياسياً سلطة الدولة في بداية الخلافة العباسية، وبالذات في عهد الخليفة المأمون، تحت اسم المعتزلة. وما أن تخبو سلطة المعتزلة، ويطارد أتباعها في عهد الخليفة العباسي المتوكل، ويصار إلى تبني الدولة العباسية للمذهب الأشعري، مذهب الوسط فيما بين الحنبلية والمعتزلية، حتى ينتقل المشهد الكلامي الملتصق بالدين إلى المشهد الفلسفي الذي يصر أعداء الفلسفة على إدخاله في صراع وتضاد مع الدين، وبالأخص على يد شيخ الإسلام أبي حامد الغزالي في كتابه الشهير «التهافت». هذا التاريخ الحافل بالعلاقة المتوترة المفتعلة بين العقل والنقل، وبالاستعمال الإيديولوجي للدين في صراعات السياسة وللسياسة في صراعات المذاهب، وذلك الخلط والإقحام للفلسفة في ساحات ليست الفلسفة في الأصل معنية بها.. تلك الخلفية هي التي وجد ابن رشد نفسه في مواجهتها، فكان عليه، وهو الفقيه والفيلسوف والقاضي والقريب من السلطة الحاكمة، أن يخوض محاولة حل ألغازها وتفكيك عقدها. لقد وجد ابن رشد في المنهج العقلاني البرهاني، الذي ساعدته في بلورته قراءاته وشروحه لكتابات الفيلسوف اليوناني أرسطو، ذلك المنهج الذي من خلال استعماله كأداة تحليل ونقد وبناء أفكار جديدة استطاع ابن رشد أن يرد على اتهامات الشيخ الغزالي للفلاسفة، ويظهر أنهم لا يعارضون الدين. كما استطاع أن ينقد الأخطاء في مناهج بعض الفلاسفة من مثل منهج ابن سينا في التوفيق بين الدين والفلسفة، وينقد مناهج المتكلمين وعرفانية المذاهب الشيعية، وحتى أساليب الأشاعرة في مخاطبة جمهور المسلمين. ولم يكتف فيلسوف قرطبة بتبيان أخطار وتخريفات هذه الجهة أو تلك، وإنما انتقل إلى الإشارة بمنهجية ابن حزم في الأخذ بالظاهر من النص، بدلاً من التأويلات الظنية العرفانية غير المتناغمة مع المنطق والعقل. وكذلك الإشادة بالمدرسة الفقهية التي تفهم الدين من خلال مقاصده الكبرى، وليس من خلال جزئيات متناثرة. من خلال تلك السجالات البرهانية، خرج ابن رشد باستنتاجات بالغة الأهمية. فأولاً لا يوجد تناقض بين الحكمة (الفلسفة) وبين الشريعة (الدين)، بل إن هدف كليهما واحد، وهو الوصول إلى الحق والفضيلة. وثانياً، فإن مجال الدين هو غير مجال السياسة، مما يستدعي عدم خلطهما في تشابك مفتعل. هنا نصل إلى الدرس الأول المستحصل من التجربة الرشدية. فإذا كانت المنهجية العقلانية البرهانية الرشدية قد استطاعت تبيان الأخطاء والضعف في جدليًّات ثنائية الدين/‏ الفلسفة وإمكانية تعايشهما جنباً إلى جنب في خدمة الحق والفضيلة، أفلا يستطيع عصرنا العربي الحالي استعمال منهجية عقلانية برهانية مماثلة، بل محسّنة، لفكّ الارتباط وإنهاء الصُّراع بين جدلية السلفية التراثية والعلمانية الحداثية في قراءة نصوص الدين وقراءة الواقع وقراءة العلاقة مع الآخر وحضارته؟ هل حقاً أنه مكتوب علينا أن نعيش جحيم كل خلافات وصراعات الثنائيات في ثقافتنا، بينما تقبع في تاريخنا تجربة فذٌة بمنهجية برهانية تعتمد المقدمات والأسباب ثم النتائج، في حل أكبر وأعقد الثنائيات: ثنائية الدين والفلسفة؟ ولنتذكر الدرس الأهم، وهو أن ابن رشد برر ضرورة وجود الفلسفة من خلال الاستفادة مما نطق به الدين نفسه بشأن أهمية التعقل والتفكر. الدرس الثاني يتمثل الدرس الرُّشدي الثاني في الانفتاح الإبداعي على فكر ومنجزات الغير لحل المشاكل الذاتية. فابن رشد لم ينقل فقط إلى العربية كتابات أرسطو الفلسفية، وإنما مارس التلخيص والشرح والانتقائية. لقد تمت عملية تلاقحيه ثقافية ندية، على الرغم من الانبهار بشخص أرسطو وفكره. ومن الجدير بالملاحظة أن ابن رشد لم يستعمل فلسفة أرسطو فقط من أجل إعلاء البرهانية العقلية في فهم الدين. وإنما استعملها أيضاً في النظر إلى أحوال السياسة ونقائصها في عصره وفي مدينته قرطبة، مما قاد في النهاية إلى محنة حرق كتبه وتكفيره وإبعاده. إذن، فإن ابن رشد انفتح على الآخر لإغناء ثقافة الذات ومواجهة مشاكل الذات الفقهية والفكرية والسياسية. فإذا كان ذلك قد تم في عصر كان العرب فيه أقوياء ومهيمنون على حضارة العصر، فهلا يكون منطقياً أن نضاعف في عصرنا هذا التجربة الرشدية في انفتاحنا على حضارة الآخر، من أجل بناء الذات وحلُ عقد الثنائيات المستحكمة في حياتنا؟ الدرس الثالث يكمن الدرس الثالث في التجربة الرشدية في العلاقة المتوترة أبداً، المليئة بسوء الفهم أبداً، فيما بين المثقف والسلطة الحاكمة. إن ابن رشد كمثقف وعالم كان مقبولاً ومكرماً، طالما أنه كان باستطاعة السلطة السياسية احتواؤه واستعمال علمه ومكانته في تثبيت شرعية أيديولوجيا الدولة السياسية والمباهاة باحتضان العلم والعلماء. لكن ما إن يمارس المثقف دوره في التحليل والنقد، وبالتالي محاولة تغيير الأمور، وعلى الأخص أمور السياسة، حتى يجد نفسه متهماً بأشنع التهم وحتى ينتهي بتسليمه للغوغاء ومؤسسات الجهل والتزمت الديني لتفعل به وبكتبه ما تشاء. إن ابن رشد دفع ثمناً باهظاً لمحاولته لعب دور المثقف العضوي، كما نفهمه في عصرنا. لكن محنته هي مثل تاريخي لإضاءة درب الحاضر. فالعلم الذي لا يؤدي إلى الفعل هو علم لا ينفع صاحبه ولاينفع غيره. وإذ نستحضر نكبة ابن رشد مع الحكم والمجتمع وثقافة العصر، فإنها مناسبة للحديث عن وظائف ومسؤوليات المثقف في بلاد العرب، خصوصاً في العصر العربي البائس الذي أقحمنا فيه الجهاديون التكفيريون في السنوات القليلة الماضية. فإضافة إلى المسؤوليات البديهية السابقة، يواجه المثقف العربي وضعاً بالغ الجدة والتعقيد، وضع الاستعمال الشيطاني الملتبس للدين، وضع إقحام الدين الإسلامي في دهاليز الاستخبارات الدولية والإقليمية وصراعات الدول الكبرى. وفي هذه الحالة يحتاج المثقف العربي إلى أن يفكر في مسؤوليات وأهداف وأساليب جديدة. التجربة الرشدية مليئة بالكثير من الدروس والعبر، بالكثير من التساؤلات التي تحتاج إلى طرح جديد، بالكثير من الإجابات التي تحتاج إلى مراجعة. ولأنها كذلك فإن قدمها في التاريخ لا يبعدها عن الحاضر المعاش. إنها في قلب حاضر العرب والمسلمين، وستظل في قلب مستقبل العرب والمسلمين إلى حين الخروج من التخلف التاريخي الذي عاشته الأمة منذ عدة قرون، ويهدد اليوم بأن يصبح ظلاماً دامساً يعمي الأبصار والقلوب. حتى الأوروبيين.. زَنْدَقوه في مقال له حول «أهميّة ابن رشد في تكوّن الهويّة الأوروبيّة»، يشير الفرنسي آلان دي ليبيرا، أستاذ الفلسفة القروسطية في جامعة جنيف،إلى أن ابن رشد قُدّم في القرون الوسيطة من قبل لايبنيتز، وتوما الأكويني، وبيتراركه على أنه رمز للزندقة، والتشكّك الديني. بل إن البعض ذهب إلى حدّ الزعم بأن ابن رشد وأتباعه من الأوروبيين هم مصدر الزندقة التي عرفتها أوروبا خلال القرن الخامس عشر. ويبدو ذلك واضحا في ثنايا الهجوم العنيف الذي شنّه الإيطالي بيتراركه على أتباع فيلسوف قرطبة معتبرا إيّاهم «ملحدين يحتقرون كلّ ما هو مطابق للمذهب الكاثوليكي». ويضيف بيتراركه أن أتباع ابن رشد «خوفا من إفشاء سرّهم، يلجؤون إلى النفاق، ويزعمون أنهم يناقشون قضايا فلسفيّة لا صلة لها بالعقيدة في حين أنهم لا يفعلون شيئا آخر حين يكونون في مأمن من العيون والآذان، غير تمزيق العقيدة، والسخرية من رموزها».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©