السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نزيف الأدمغة العربية

19 فبراير 2012
لا يكاد يوجد بلد عربي إلا ويعاني من هجرة عقوله وكفاءاته العلمية للخارج، إما للدراسة والتحصيل العلمي العالي، أو للعمل في حقول البحث العلمي. وتقول الإحصائيات إن أكثر من ثلث الكفاءات العلميّة في أفريقيا انتقل إلى أوروبا في ثمانينيات القرن الماضي، وأن كندا والولايات المتحدة من أكثر الدول استيعاباً للعقول والكفاءات المهاجرة، وقد قبلتا خلال الفترة بين عامي1960 و1990 أكثر من مليون مهاجر مهني وفني من مختلف الدول النامية ومنها بلداننا العربية التي بها آلاف مؤلفة من المبدعين والمخترعين والمكتشفين والعقول النيرة. وإذا ما حاولنا إعطاء إحصاءات أكثر دقة عن موضوع هجرة العقول العربية للخارج، فسنجد صعوبة بالغة بسبب عدم قيام الحكومات العربية بواجبها على هذا الصعيد، لكن بالعودة إلى ما سجله أنطوان زحلان يمكن القول بأن أكثر من 70 ألفاً من أصل 300 ألف من حملة البكالوريوس والماجستير من العرب في العام 1996/1995 قد هاجروا، وأنّ عدد المهاجرين من الأطباء العرب عام 2000 فقط بلغ نحو 16 ألفاً. ووفق زحلان، يبلغ عدد حملة الدكتوراه العرب في الخارج 150 ألفاً، أي ما يعادل ربع حملة الدكتوراه في الولايات المتحدة وثلاثة أرباع حملة الدكتوراه من العرب. أما أصحاب المهن الطبيّة الذين هاجروا إلى أوروبا فتجاوز 15 ألف شخص بين 1999 و2001. وإذا أخذنا في الاعتبار عدد الطلاّب العرب الذين يدرسون في الخارج والذين لا يعودون إلى أوطانهم في الغالب، أمكننا تقدير الحجم الكبير لهجرة الكفاءات العربيّة، إذ في 1996 كان 179 ألف طالب عربي يتابعون دراستهم العليا في الخارج. ويمكن اعتبار مصر وبعدها لبنان وفلسطين والأردن، أكثر الدول العربية تصديراً للكفاءات العلميّة، حيث يعتقد أن نحو ربع مليون عالم عربي موجودون في الخارج، بينهم 800 ألف مصري. ووصلت تحويلات الكفاءات العلميّة العربيّة العاملة في الخارج حوالي 25,2 مليار دولار عام 2006، وهي تحويلات زهيدة قياساً إلى الخسائر التي يتكبّدها العالم العربي نتيجة هجرة هذه الكفاءات، والتي تقدَّر في بعض الإحصاءات بـ200 مليار دولار سنوياً، وفي بعض التقديرات قد تعادل قيمة الطاقة الذهنيّة العربيّة التي تحصل عليها الولايات المتحدة وأوروبا من دون مقابلٍ، قيمةَ النفط والغاز العربيّين. من هنا يمكن القول إن تسرب واستنزاف العقول المبدعة في الدول المتخلفة هي أكبر تحد تواجهه تلك الدول التي لم تضع قدمها بعد على طريق التطور العلمي في صورته الصحيحة. ولا شك أن ضغوط الواقع الداخلي الذي تعيشه الفئات العلمية النيرة، والمتمثلة في أزمات مجتمعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية المستمرة، إضافة إلى عدم توافر قاعدة علمية بحثية في بلدانها، مع وجود مغريات مادية خارجية... كلها تشكل دافعاً محرضاً قوياً لهجرة تلك الكفاءات والعمل خارج أوطانها، حيث تتهيأ لها الأجواء والمناخات المادية والشروط العلمية الملائمة لنمو إبداعاتها الذاتية. ويمكن أن نضرب هنا مثلاً واضحاً على أهمية ما يمكن أن تفعله الظروف المحيطة بالإنسان في توسيع مداركه، وتفتح عبقرياته وانبثاق إبداعاته، وهو العالم المصري أحمد زويل الذي حاز على جائزة نوبل في الكيمياء الحيوية منذ عدة سنوات. فقد عاش هذا العالم معظم حياته المهنية العلمية في جامعات أميركية منذ الستينيات عندما كان طالباً في مراحله الجامعية الأولى. ولو أن زويل بقي في بلده مصر لما تمكن من الوصول إلى ما وصل إليه من إنجازات علمية في مجال علم النانو أو البايوتكنولوجي. وبناءً على هذه الصورة السوداوية لحالة الاستنزاف والهروب المتواصل للعقول العلمية إلى الخارج، ثمّة أسئلة إشكالية لابد من طرحها: لماذا إصرار العقول والكفاءات العلمية العربية على مغادرة بلدانها وعدم العمل فيها؟ وما هي الأجواء والمناخات الملائمة لإبقاء تلك العقول في بلدانها، تعمل وتبحث وتطور؟ وهل مجتمعاتنا العربية مؤهلة لتأمين ظروف عمل وبحث علمي حقيق لتلك العقول المبدعة؟! وإذا تتعدد وتتنوع الأسباب التي تدفع الأدمغة العربية إلى الهجرة، فلابد أن نركز الحديث هنا حول أهمها وأكثرها وضوحاً، وهو العامل السياسي؛ حيث أن غالبية المجتمعات العربية محكومة بنظم تعتاش على مناخ التوتر والتناقض، مما يسبب لشعوبها أزمات واضطرابات تطال مستقبل الأجيال ومواقع العلم والعلماء، التي تحتاج بيئة حاضنة للإبداع وجاذبة للعقول المبدعة. ويضاف إلى ذلك أن طبيعة الثقافة السائدة في عالمنا العربي، وهي ثقافة اتباعية اتكالية تلقينية، تعمل بالنص والمرجعية النصية. بينما يحتاج البحث العلمي لبيئة ثقافية تتصف بالنسبية والتشكيك واللا يقين العلمي، لأن العلم قائم على التجربة والاستكشاف البحثي المادي المعتمد في جوانب كثيرة منه على الأوليات والبديهيات والقبليات العقلية. ومن الأسباب الطاردة للعقول أيضاً، هناك الأسباب الاقتصادية والاجتماعية القائمة داخل بلداننا العربية والمتعلقة بانعدام تكافؤ الفرص، وعدم وجود فرص عملية تناسب المبدعين. وعلى هذا المستوى لا نجد أن بلداننا العربية معنية بهذا الجانب، وهو أصلاً ليس موجوداً على أجندتها أو على سلم أولوياتها، كما أنها ليست معنية بالإفادة من الاختصاصات العلمية حتى تهتم بتأمين مجالات عمل لأصحابها، ما يجعل منهم ضحايا للبطالة، خاصةً المقنعة منها. من هنا فإن محاولة العرب استعادة عقولهم المهاجرة مرهون بقدرتهم على الانخراط الجدي في مشروعهم النهضوي العقلاني التقدمي القائم على الحرية والعدالة والديمقراطية والتعددية... أي بإيجاد قاعدة سياسية واجتماعية صلبة يمكن أن تشكل بيئة جاذبة لتلك للعقول والكفاءات الكبيرة. نبيل علي صالح - كاتب سوري ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©