الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لوحات الوهيبي.. حيث البشر يعيشون في عالم من الإشارات

لوحات الوهيبي.. حيث البشر يعيشون في عالم من الإشارات
14 مايو 2009 00:50
تغتني تجربة التشكيلي محمد الوهيبي من تجربتين: التجربة الفلسطينية، فهو الفلسطيني الذي تنتمي لوحته إلى التجربة التشكيلية الفلسطينية بأرقى أشكالها التعبيرية، بعيداً عن الفجاجة والمباشرة التي طغت على الكثير من الأعمال التشكيلية الفلسطينية. الضفة السورية، فهو في ذات الوقت ابن التجربة التشكيلية السورية وغناها، ليس لأنه عاش ودرس في سوريا، بل لأن لوحته يمكن قراءتها ضمن تاريخ التجربة التشكيلية السورية، وبعض النقاد يقرأون لوحته ضمن تاريخ الفن السوري. إن صلته العميقة بالتجربتين التشكيليتين الفلسطينية والسورية أعطت للوحته خصوصية وعمق لهما دلالتهما الواضحة في أعماله. ولوحة الوهيبي مشحونة بكم هائل من رموز تراث الماضي، تقول هذا التراث دفعة واحدة، ولا حاجة لأن تبحث عنه في اللوحة، فهو يطغي عليها بأشكال مختلفة، دون أن يكرر لوحته أو موضوعه. ولأنه متخصص في فن الحفر، فإن ذلك يزيد من علاقة لوحته مع التراث برموزه وأشكاله. حيث يشكل التراث رافعة قوية في لوحة الوهيبي. وبذلك يوظف كل الخبرات الحديثة والتراثية في إنتاج لوحة تملك الانسجام الداخلي وتملك خطوطها وأدواتها التعبيرية، دون أن تقع في الكولاج الذي يجمع أحياناً أشياء دون معنى تحت تسميات فنية. إن لوحة الوهيبي مهجوسة بالمعنى، حتى أنها تفيض بالمعنى. ولاشك أن التعامل مع التراث عبء ليس بسيطاً، إذ يجب غربلة هذا التراث، والاحتفاظ بما يصلح لتجديد اللوحة وتفجير طاقتها التعبيرية، التراث تراكم كبير فيه الصالح وغير الصالح، وعلى عين الفنان المدربة أن تلتقط الصالح وتوظفه، وهذا ما ينجح فيه الوهيبي الذي يلتقط ما يصلح للوحته ويوسع من معانيها ودلالاتها، ليس لأنه يكرر الماضي، بل لأنه يتطلع إلى المستقبل. وهذا ما نراه في تركيزه على ما يعتبر أساسياً وقوياً في التراث، طريقته في اكتشاف علاقته بكل ما حوله من أشياء وأفكار ورموز. قد تبدو مخلوقاته كبيرة، أو صغيرة، لكنها جميعها خارجة من تاريخ وتراث المنطقة، من التاريخ الفلسطيني والسوري والمصري. تغمرنا لوحات الوهيبي المتألقة بألوانها البراقة لبرهة بالدفء، وكأن أشعة الشمس تتغلغل بين مشاعرنا وأحاسيسنا، ولكن سرعان ما يزول هذا الشعور بالدفء، وتنتابنا مشاعر متضاربة وتتزايد حيرتنا عند التعمق بما وراء هذه الألوان البراقة، والتأمل بما تخفيه وتظهره هذه اللوحات من رموز وإشارات متعددة، والتي تختلف بعمقها ودلالاتها بين متلقٍ وآخر. لا يعتبر الوهيبي نفسه مصوراً زيتياً، إنما يلجأ أحياناً إلى التصوير الزيتي كشكل من أشكال كشف التقنية، فرغم لوحاته الزيتية يعتبر نفسه موجوداً بالأساس ضمن حالة الجرافيك، التي كانت موضوع دراسته واختصاصه في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق من ناحية منهجية تقنية. أختار العمل بهذه التقنية كشكل من أشكال البحث عن طاقة تعبيرية تخدم أفكاره الفنية، وهي محاولة لإعطاء العمل الفني طاقة إضافية. الجرافيك تقنياً هو استنساخ للكليشة المعدنية، أو حفر على الحجر أو المعدن أو الخشب بواسطة أدوات، وعمل الوهيبي الأساسي هو الحفر على نسخة وحيدة (أوريجنال)، مثل اللوحة الزيتية ولكنها منفذة بطريقة الحفر، أي تمر بنفس مراحل الحفر التكنيكية. يقوم بداية بطلي ورقة اللوحة بحبر الطباعة بواسطة الرولو، ثم يقوم بنقش موضوع اللوحة على سطحها بواسطة المنقاش. لا يمكن اعتبار هذه التقنية تركيب، فهو لا يضع لون فوق لون ولا ريشة فوق ريشة، بل يقوم بتحليل سطح اللوحة، وهو تحليل أو كشف تقنوي لإظهار القيم أو التكوينات اللونية على سطح اللوحة، سواء كان سطح اللوحة مطلي بالأسود فيُظهر القيم اللونية البيضاء والرمادية، أو حسب الألوان التي يلوّن بها سطح الورقة، ويقوم بالتتالي بالكشف عن كل لون على حدة. يعيش البشر في عالم من الإشارات، واللوحة عالم من الإشارات، والفنان يستخدم لوحته كإشارات، وكل إشارة يجسدها على اللوحة تعطي دلالة ما، قد تكون هذه الإشارات آنية أو مستقبلية، أو من الماضي، وللمتلقي الحق في استيعابها كما يريد. وهذا التنوع في قراءة الإشارات يصلح لقراءة أعمال الوهيبي، فلكل رمز وإشارة في لوحاته رسالة، وهذه الرسائل لها مكان في الذاكرة الفنية، أو تستطع تكوين ذاكرة فنية جديدة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©