الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ذهبية صفراء

ذهبية صفراء
24 مارس 2010 21:20
لم يحفل الشعر العربى بالألوان في ذاتها كثيرا، ولم يمعن في استقصاء درجاتها وظلالها بصورها اللافتة، لأن طاقة الفنون التشكيلية لدى أبناء الصحراء محدودة لكن العواصم التى عمرها العرب، خاصة دمشق الفيحاء، وبغداد الغانية، لم تلبث أن احتفلت بالألوان على طريقتها فى كؤوس الشراب ووجنات المحبوبين. فهذا الشاعر العلوي يصف خمره الذهبية قائلا: ومدامة يسعى بها رشأ أغنّ المنتظقْ تحكي غلالة خده بل خد منا أرقْ ذهبية فى كأسها كالشمس تهوى في الأفق فالمدامة في شفافيتها وتوردها تنافس خد الساقي الأسيل الوضيء قبل أن تتوهج في الكأس بخيوطها الذهبية، هذه الخيوط التي تتراءى مثل أشعة الشمس بعد أن تفقد قسوتها وتذوب رقة وهي تتمايل للغروب في الأفق البعيد. وهنا نلاحظ أن ما ندعوه خيال التكبير يلعب دوره النشط في الانتقال من كأس تحتويه الكف الواحدة إلى كون يمتد على مدى البصر محيطا بالجهات والآفاق كلها. وهذا أبو السمط مروان يمزج الظلال في ألوانها بأثرها فيمن تمسه قائلا: ألا عاطني صفراء أو ذهبية تجور على الندمان جورا بلا قصدِ ترد خَلي القلب يذكر ما مضى وتقدح زند الحب في الحجر الصلد ويهتز عود العيش أخضر ناضرا ويبتل جلد الأشيب القاحل الجَلْدِ وورسيّة في كأسها ذهبية ولكنها وردية اللون في الخدِّ فالألوان في حدقة الشاعر لاتعني شيئا إن لم تباشر تأثيرها الجبار الجائر بدون قصد، وهو يستهل أبياته بطلب المعاطاة المتبادل، لما يرد خلي القلب مفعما بشجن الذكريات وما يهز الحجر الصلد برعشة الحب. تلك التي تحيل الحياة بعد أن يجف عودها إلى جنة نعيم خضراء يتسلل ماؤها ببلله الرطب إلى جلد الأشيب القاحل، فإذا ما أمعن في استقصاء أثرها عاد لذكرها في دورة جديدة بأوصاف بهية أخرى. لكن فتى الخمريات الأول هو المكلف بأن يبلغ الذروة في وصفها، هو أبو نواس الذي يقول: ومُقعد قومٍ قد مضى من شرابنا وأعمى سقيناه ثلاثا فأبصرا وأخرس لم ينطق ثلاثين حجةً أدرنا عليه الكأس يوما فهمَّرَا شرابا كأن العبر الورد نشرُهُ ومسحوق هندي من المسك أذفرا من القِرْباتِ القرِّ من أرض بابل إذا شمها الحانيّ في الدار كبرَّا فهي صانعة المعجزات الحسية، تجعل المقعد يمشي خفيفا نشطا إلى غايته، وتجعل الأعمى يبصر بعد ثلاث جرعات، أما الأخرس الذي لم ينطق ثلاثين عاما فهو لا يلبث إثر إدارة الكأس عليه أن ينهمر في الكلام، وهي إلى ذلك مصونة في القرب المصونة، يفوح شذاها فلا يملك صاحب الحان عندما يستنشق ضوعها إلا أن يجأر بالتهليل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©