الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

توثيق المنفى والموت بالصوت والصورة

توثيق المنفى والموت بالصوت والصورة
10 ابريل 2008 02:21
يبقى الظل يلاحق القاتل حين يموت الجسد المغدور بكاتم صوت أو طلقة مدوّية أو كتلة من بارود، يطارد الظل إسرائيل، بموزاييك حكايات حزينة مشتتة ، حتى آخر حدود العالم· يعرّي وجهها البشع بشريط سينمائي وثائقي يمتد على مدى ثمانين دقيقة، يحمل الشريط بصمات شهداء فلسطين المنفيين حول العالم، بعدسة المخرج الفلسطيني ناصر حجاج في فيلم ''ظل الغياب'' الذي احتضنته سينما متروبوليس في بيروت في ذروة همجية الآلة العسكرية في غزة· يشبه ''ظل الغياب'' قصيدة وفية للذاكرة في توثيق غياب الشهداء، غياب الأرض، غياب الوطن، والوجع الفلسطيني الذي يفضح جبن إسرائيل التي تخاف حتى من الموتى، يرفرف فوق ظل القصيدة جناح الشاعر الفلسطيني معين بسيسو قبل الرحيل: ''أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح واحمل سلاحي/ لا يخفك دمي يسيل من السلاح/ وانظر الى عينين أغمضتا على نور الصباح''· ذاك النور الذي يحمل نصري على وجه الشوق الى فلسطين: البلد الذي احتل في العام ثمانية وأربعين، يومها كان والده يعيش في قرية ''الناعمة''، قبل أن ينتقل مرغماً بدافع التهجير الذي فرضه الاحتلال بالدم، الى مخيم عين الحلوة في الجنوب اللبناني، منذ ذلك الحين بقيت القرية وديعة ثمينة في البال وفي حكايات ناسها الى أن تحقق حلم نصري بالعودة اليها زائراً عام ،1998 هناك أحس برغبة جامحة للموت والارتماء في حضن ترابها، كان يخمن أن الموت ربما يكون بمثابة تأشيرة دخول تسمح بالبقاء مطولاً حيث ارث العائلة، لكن المسألة بدت أكثر تعقيداً من الموت والدفن ووضع صخرة تدل الى القبر· لاحقاً كبر السؤال الذي ولد الفيلم من صلبه: أين أدفن؟· وتبلورت الصورة حتى تشكلت فكرة كتابة سيناريو عن اشكالية الموت والحياة والوطن والمنفى لدى الفلسطينيين، ولديه تحديداً هو الذي عاش لاجئاً يتنقل طيلة خمسة عقود بين تونس والأردن وسوريا ولبنان ومصر وفرنسا وبريطانيا وغيرها، هكذا بدأ يسترجع حكايات أبطال فلسطين ممن كانت بهم رغبة شديدة بأن يدفنوا في تراب الوطن، لكن السلطات الصهيونية حالت دون ذلك· التقطت عدسة نصري أول مشاهد الفيلم في العام ·2003 كانت البداية بتصوير قبر الرسام ناجي العلي في لندن حيث اغتيل بكاتم صوت على يد مجهول في العام ·1987 ثم توقف التصوير لأسباب مادية قبل أن يستأنف عقب وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في العام ·2004 كان المخرج حاضراً بعدسته ينقل الجنازة الرسمية في رام الله بعدما رفضت سلطات الاحتلال دفنه في القدس، حيث أوصى الرئيس، حيال الممانعة عادت فكرة الفيلم الى الضوء من زاوية شخصية طالما شغلت بال نصري: ''حلم العودة جزء من واقعي الذي عشته أينما حللت في أي دولة عربية أو أجنبية، كنت مراراً أسمع الفلسطيني يوصي بدفنه في فلسطين ولو بعد مئة عام، هكذا يكون الحلم بالموت في الوطن تعويضاً عن فقدان الحياة''· يجول الفيلم الذي تبنته شركة ''فاميليا للانتاج''، على مقابر الشهداء الفلسطينيين في 11 دولة عربية وأجنبية، يستعرض محطات مختلفة من عمر المأساة الفلسطينية مستحضراً تجارب وأسماء لا يقدر المحتل على محوها من الذاكرة، يحكي عن أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري الذي أوصى بأن يدفن في قرية أبو عبيدة في غور الأردن ليكون على مرمى حجر من فلسطين، بانتظار أن تسمح الظروف وينقل جثمانه الى أرض فلسطين شأنه في ذلك شأن آلاف الشهداء والموتى الفلسطينيين الذين قضوا في الشتات، ويسترجع ذكرى الشاعر معين بسيسو الذي توفي في لندن بنوبة قلبية خلال مشاركته في العام 1948 بأسبوع فلسطين الثقافي، فنقل جثمانه الى تونس ثم الى مصر ليكون أقرب الى فلسطين· ويبرز وصية المفكر ابراهيم أبو لغد في أن يحرق جثمانه وينثر رماده فوق مقبرة يافا، إن لم تتمكن عائلته من دفنه فيها، يعلق نصري: ''لكن الحظ أسعفه لأنه توفي في مستشفى المقاصد في القدس، وبذلك دفن في إسرائيل حسب القانون الإسرائيلي، وبالرغم من ذلك بقي جثمانه ليومين في البراد ريثما تحصل الجثة على تصريح يخولها الدفن في يافا''· كما يعرض الفيلم صوراً لقبر محمود الهمشري (ممثل منظمة التحرير في أوروبا الشرقية)، الذي اغتاله الموساد في فرنسا ودفن فيها· وكذلك قبر خليل الوزير (أبو جهاد) الرجل الثاني في حركة فتح الذي اغتالته مجموعة إسرائيلية في تونس عام ،1988 ودفن في سوريا من أجل فتح صفحة جديدة مع الدولة المستضيفة، وقبور ادوار سعيد وغسان كنفاني في لبنان، واميل حبيبي ومكرم خوري في حيفا، ونضال خليل في صوفيا، وأنور شهاب الذي دفن في مقبرة فيتنامية الى جانب ثوار من فيتنام بانتظار أن تأذن السلطات الإسرائيلية بالعودة الى تراب فلسطين، وهناك المقابر الجماعية في مخيم عين الحلوة في لبنان، ومقبرة الشهداء في بيروت التي تؤكد أن الثورة الفلسطينية كانت مركز جذب لكل الأحرار حيث دفن المسلم بجوار المسيحي بجوار البوذي، ومقبرة ''العدو الميت'' داخل إسرائيل حيث دفن فيها فدائيون فلسطينيون إثر نكبة ·1948 تنبع حكاية الفيلم التي يرويها المخرج نفسه ،من تلك العلاقة المحتدمة بين الفلسطيني والموت، تعود جذور الحكاية الى الطفولة التي رسخ فيها مشهد دفن ثلاثة شهداء في حديقة المنزل، بعدما تعذر الحصول على اذن ل''الجثث'' بمغادرة المخيم في عين الحلوة، ومن ثم دفن مجموعة أخرى داخل المدرسة الابتدائية حيث تعلّم نصري أولى الدروس المرة في الحياة· وهناك علاقة الفلسطيني بالمحتل الذي يصفه بالمريض نفسياً والعنصري: ''إسرائيل التي ترفض عودة الفلسطيني الذي يموت خارج وطنه، نجدها ترحب بدفن اليهود الذين لم يقيموا بفلسطين أصلاً· فأولاد هرتزل بعد 76 سنة من دفنهم في الخارج، نقلت رفاتهم ودفنوا في فلسطين، بينما يدفن ادوارد سعيد في لبنان لأن لا أمل في أن يدفن هناك''· في ''ظل الغياب''، الحائز على جائزة المهر البرونزي في مهرجان دبي الدولي العام الفائت، فيلم ينكأ الجرح الفلسطيني النازف في الأرض منذ النكبة، وما بعدها من موت كثير، وشهداء فاضت بهم المقابر أكثر من احتمالها، فيلم يوثّق الموت بالصوت والصورة، لكنه ينشد الحياة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©