الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أوسكار وايلد·· حكاية فنان حطم نفسه

أوسكار وايلد·· حكاية فنان حطم نفسه
10 ابريل 2008 01:43
أمات موهبته وهجر أسرته قبل أن يموت شاباً وغريباً· نظرة واحدة إلى صورة أوسكار وايلد تجعلنا نتأسف على ذلك الشاب الوسيم والنرجسي في آن واحد بعد أن أنهى حياته بشكل مأساوي، فقد أمات موهبته وهي في قمة تفجّرها وبعد عدة روايات ومسرحيات ناجحة فتحت له أبواب الشهرة على مصارعيها· حُكم عليه بالإعدام أولاً ثم خُفف الحكم إلى سنتين سجناً، ولكنهما كانتا كافيتين لكي تقضيا على موهبته أولاً ومن ثم تنهيان حياته بشكل تراجيدي مسرحي· ورغم مرور أكثر من قرن على هذه الحكاية إلا أن حياته والطريقة التي انتهت بها تجعلنا ونحن نستذكرها نأسف حقاً على موت تلك الموهبة الإبداعية ومن ثم موته في عز الشباب (46 سنة)· فبسبب الشذوذ والإدمان هجر زوجته الكونتيسة لويد ومعها هجر ولديه سيول من مواليد ،1885 وفيفان من مواليد ،1886 وقطع علاقاته بجميع أفراد عائلته وأصدقائه بعد أن أصبح متيماً بحب فتى من أسرة اللوردات، وهو الأمر الذي أدى به في النهاية إلى مواجهة المحكمة التي كشفت عن طبيعة العلاقات الشائنة، وأدين بالاعتداء على قاصر فأصدرت حكمها عليه بالاعدام أولاً، ومن ثم تخفيف الحكم إلى السجن لمدة سنتين مع النفاذ· ولكن هذه الفترة كانت كافية لموت تلك الموهبة بعد أن خرج من السجن سنة 1897 محطماً عاجزاً، بائساً ويائساً من مواصلة الكتابة أو الاندماح مع المجتمع من جديد فمات معها إبداعه وآثر العزلة بعيداً، حتى عن موطنه، فطمس ماضيه وهويته وغادر بلده إلى فرنسا، وهناك عاش تحت اسم مستعار (سابستيان ملموث) منزوياً في فندق بباريس، وكان موته بعد خروجه من السجن بثلاث سنوات فقد مات سنة 1900 وحيداً وفقيراً وغريباً ودُفن حتى دون مراسيم· سيرة مبدع لابد لنا هنا من وقفتين: الأولى مع أهم العوامل التي أثّرت بشخصية هذا الروائي المبدع، والثانية أن نثبت أنه مبدع حقاً ما دمنا نقر بذلك من خلال تناول إحدى رواياته· فأوسكار وايلد المولود سنة 1854 في دبلن بإيرلندا هو الابن الثاني في أسرته، طويل، قوي البنية، وتدلل صورته على وسامته التي خلطها مع نرجسية عالية استمدها من والدته جين وايلد التي دأبت على تدليله بإفراط، الشاعرة التي تميل إلى الإغواء وتدفعه إلى النظر إلى الحياة على أنها إنجاز، فجعل من كل شيء مشهداً حتى أنه كتب يوماً يقول:'' أنا أوقظ التخيّل في قريني لكي يبدع الأساطير والخرافات من حولي·'' وكصورة تكميلية وظاهرية لنرجسيته فإن ملابسه لم تكن يوماً من صنع الخياطين العاديين وإنما من خلال مصممي أزياء المسرح حيث كان يشعر أنهم الأكثر فهماً للمؤثرات، وكان يضع وردة عباد الشمس على ثقوب أزراره، كما كان يزين غرفته بالزنابق وريش الطاووس، وعند سفره إلى كندا وأميركا ليحاضر في جامعاتيهما وعندما وصل إلى نيويورك صرح لرجال الجمارك قائلاً: ليس لديّ ما أصرح به سوى عبقريتي! أما والده الجراح البريطاني وليام وايلد الذي وجد نفسه يوماً أمام فضيحة موازية لفضيحة الابن أوسكار وتناولتها الصحافة في حينها سنة 1864 عندما ادّعت إحدى مريضاته- ماري ترافرز- أنها خُدرت واغتصبت من قبل الأب· كانت تلك هي أهم الشخصيات التي أثّرت في أوسكار الشاب المتخرج حديثاً من جامعة أكسفورد الشهيرة فكانت مع رغبته الحارقة بالنجومية من أهم عوامل الاندفاع نحو حياة عبثية أودت به إلى تلك النهاية التراجيدية· كان يوماً الناطق باسم الحركة الجمالية ومن أبرز دعاة ''الفن للفن·'' أهم مؤلفاته: صورة دوريان جراي، مروحة الليدي وندمير، سالومي، امرأة بلا أهمية، زوج مثالي، أهمية أن تكون أرنست، شبح كانترفيل، الأمير السعيد· خيال خصب أما عن إبداعه فيكفي أن نتناول إحدى رواياته كشاهد على روعة ذلك الخيال الخصب والإبداع الرائع الذي يعود إلى القرن التاسع عشر، ففي روايته ''صورة دوريان جراي'' وضع أوسكار روحه فيها إلى جانب نرجسيته العالية، بل لعلنا لا نبعد عن الصواب إن قلنا إنه وضع نفسه هناك، فضلاً عن رغبة دفينة له بالخلود وهو ما يمكن أن نتوصل إليه من خلال تحليل مبسّط للرواية· مُثلت الرواية فيلماً منذ الأربعينات من القرن الماضي، وتُرجمت إلى العديد من اللغات العالمية بما فيها اللغة العربية· وتتحدث عن رسام- بازيل هولورد- أُعجب بجمال ونضارة شباب ''دوريان جراي'' فرسم له صورة أظهرت وسامته وجمال عينيه الزرقاوين وشعره الذهبي، ومن ثم رفض عرض الصورة في أي مكان وآثر الاحتفاظ بها حتى بعد أن اعترض صديقه هنري تون الذي اعتبر ذلك نوعاً من الغباء أن يحتفظ فنان لنفسه بصورة رائعة مثل تلك· ولكن الرسام برر موقفه ذاك بأنه وضع في الصورة من روحه الكثير مما يبرر له الاحتفاظ بالصورة لنفسه، ولأنه ادعى أن عرضها على الناس يعني أن تقف روحه عارية تحت أنظار المتطفلين الأغبياء· ولكن الرسام اختفى بعد ذلك فجأة دون أن يترك أثراً مما أثار فضول الجميع· أما دوريان جراي صاحب الصورة المرسومة والمعجب بنفسه والمستعد لأن يرتكب أي موبقة بحق الآخرين فبعد أن ارتبط بعلاقة قوية مع اللورد هنري وراح يزوره في بيته وتعرف على زوجته ثم أخته التي أقام معها علاقة حب ولوث سمعتها، فلم يجد حرجاً في مصارحة اللورد بحبه للممثلة سيبيل فين بعد أن تعرف عليها وهي تمثل على خشبة المسرح، وهو أمر بات معروفاً للجميع إلى الدرجة التي آثرت فيه هذه الممثلة إلى ترك المسرح لتتفرغ لحب دوريان، وهو الأمر الذي لم يعجبه لأنه كان يعتقد أنه يحب سيبيل الممثلة لا سيبيل الجميلة فتركها مما دفعها إلى الانتحار!! وحين عاد دوريان إلى الصورة المرسومة له ووجدها تنطق بمعاني الوجه بجلاء، وهو الأمر الذي بقدر ما أرعبه دفعه للغرور فصلى للآلهة أن يدوم شبابه، وأن تتحمل الصورة أوزاره هو، حتى يموت وحين تحقق ذلك بات يعتقد أن الصورة لم تكن إلا مرآة لروحه، وأنه واحدٌ من الذين حققوا نوعاً من الشباب الدائم· ورغم أنه صلى للآلهة أن تستجيب إلا أن الشك كان يدفعه إلى البحث والتفكير بوجود تفسير علمي للتغيرات التي كانت تحدث للصورة دون أن تحدث له، أرجع ذلك إلى الكثير من التعاليل بما فيها قانون الحب المخبوء في كل الأشياء··· الأصل والصورة وتمر الأيام والسنون ليتغير الجميع من حوله، والصورة أيضاً، إلا هو بقي يحتفظ بذلك الشباب النضر· وبعد مرور ثماني عشرة سنة على انتحار الممثلة سيبيل جاء أخوها- جيمس- لينتقم من دوريان بعد أن بات يعتقد أنه السبب في انتحار شقيقته، وأيقن دوريان أنه مقتول لا محالة بعد أن عثر عليه جيمس وهو ماكث في الظلمة· طلب دوريان من جيمس أن يتروى وينظر إلى وجهه في النور ليتأكد جيمس من أن هذا الشخص الذي يقبع في الظلمة ليس هو المطلوب· استجاب جيمس ونظر إلى وجه دوريان في النور وحين تأمله بكل ذلك الشباب والنضارة والبراءة أيقن أنه من غير الممكن أن يكون هو دوريان، فصاحب هذا الوجه لابد أنه كان طفلاً صغيراً قبل 18 سنة، وأنه من المستحيل أن يكون هو المتسبب بانتحار شقيقته· راقت تلك اللعبة لدوريان بعد نجاته بالاعتماد على ذلك الشباب النضر فباع روحه للشيطان وبات يمارس فن الخداع ويعيش في العار· ويتابع التغيرات التي تجري على صورته المخبأة بعيداً عن الأعين وبعيداً عن الضوء في إحدى غرف بيته، وذهب بعيداً في تأولاته عن المتغيرات التي تجري على الصورة ولا تجري على وجهه، منها وجود صلة بين روح الإنسان وبين دقائق الذرات التي تتألف منها الألوان والأشكال على الصورة، وبذلك تسجل دقائق الذرات خوالج النفس وتحقق للنفس أحلامها! أو أن هناك تغيراً في قماش الصورة وألوانها· وأحياناً يذهب بعيداً ويعزو ذلك إلى تغيرات لا توجد إلا في خياله هو، وأن خطاياه إنما هي التي تفعل باللوحة عمل الديدان في الجثث!! ولما فاحت رائحة الشر من روح دوريان جاءه الرسام بازيل المختفي منذ فترة لكي يعظه فأجابه دوريان: ''لقد فات الأوان يا بازيل''· ثم أخذه إلى حيث الصورة وأطلعه على السر وعلى الصورة التي تغيرت كثيراً عن يوم رسمها بازيل بنفسه، وهناك على مقربة من اللوحة سرت في صدر دوريان كراهية لبازيل، وكأنما استوحاها من صورته المتغيرة والماثلة أمامه وتحرك فيه إحساس حيوان مطارد ودون تخطيط مسبق امتدت يده إلى مدية منسية بالقرب من اللوحة غرسها في عنق بازيل وقتله· حاول دوريان الحالم بالتوبة أن يبرر عمله الأخير بأن بازيل رسم صورة قضت على حياته، وأنه ما كان ليغفر له تلك الإساءة، ولذلك لم يكتفِ بقتله بل وأذاب جثتة في الأحماض! وأنه لكي يطمس آخر الأدلة التي يمكن أن تدينه قرر التخلص من الصورة أيضاُ، محّدثاً نفسه بأن المدية التي قتلت الرسام فلتقتل عمل الرسام!! سُمعت صرخة ودخل الخدم على إثرها الغرفة فشاهدوا على الحائط صورة رائعة لسيدهم وجماله وشبابه النضر وعلى الأرض شاهدوا رجلاً ميتاً بثياب السهرة وقد غارت في قلبه مدية، كان الرجل مغضن الوجه يابس البدن كريه الملامح ولم يتبينوا هويته إلا بعد أن فحصوا الخواتم التي يلبسها! بمثل ذلك الخيال الخصب الدال على عِظم الموهبة كان يكتب أوسكار وايلد والذي دفع ثمناً غالياً لنرجسيته وسلوكياته مثلما دفعها بطل روايته ''دوريان جراي''·· أليس كذلك؟!! إن رواية ''صورة دوريان غراي'' مثلها مثل جلّ قصص أوسكار التي تتحدث عن ثنائية الخير والشر، ولابد هنا من إنصاف ذلك المبدع الذي رحل عن عالمنا منذ أمد بعيد بأنه انتصر للخير في معظم قصصه· قال أوسكار وايلد مرة: ليس هناك أدب أخلاقي وأدب غير أخلاقي، المعيار الحقيقي هو الجودة· وقال قبل وفاته: إنه كان يموت بوسائله الخاصة! وقال أيضاً: لا تعتبر السعادة سعادة إلا إذا اشترك فيها أكثر من شخص، ولا يعتبر الألم ألماً إلا إذا تحمله شخص واحد''··· يبدو أن أوسكار وقبل وفاته تحمل ذلك الألم الذي تحدث عنه وحيداً·· وغريباً!!·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©