السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العزلة·· اختيار المبدع أم قدره؟

العزلة·· اختيار المبدع أم قدره؟
10 ابريل 2008 01:42
من الأسئلة الملحة التي تقض مضجع المهتمين بالفن والإبداع، هو طبيعة العلاقة الملتبسة التي تربط المبدع بذاته وبالآخر مهما كان هذا الآخر، وهي أسئلة تطرح إشكالات معضلة تتأبى على الحل· فمن جهة، المبدع لا يستطيع أن يجد ذاته داخل الجماعة لأنه يحمل قيما متعالية، والجماعة لا تستطيع أن تتعلق بهذا المبدع لأنه في نظرها يقودها إلى الجحيم، وحتى لو كان هذا المبدع سيقودها إلى الجنة، لكن للأسف تنعكس هذه العلاقة المتوترة على علاقة المبدع بذاته، فيصبح كارها لها متمردا على القيم التي يحملها، ناقما على الآخر الذي لا يريد أن يتفاعل مع انفعالاته الإنسانية، ومن هنا يتأجج الإحساس بتفاهة العالم· منه يتولد إشكال الاغتراب الذاتي الذي شاع في أوساط المبدعين، والذي تدهور حتى أدى بالعديد إلى الانتحار أو الانحراف أو اختيار منافٍ قهرية اختيارية، ولعل طبيعة الكتابات الرائجة الآن تعكس هذه الصورة، ففي أغلبها تنصرف إلى تشخيص قيم الفشل والتشظي والنكوص والهروبية· والأسئلة التي يمكن طرحها في هذا الصدد: ـ ما الذي يجعل الجماعة تفقد ثقتها في المبدع؟· ـ هل المشكل في المبدع أم في المحيط أم في السلطة؟· ـ ما الجهات التي يمكن أن تتدخل لإيقاف هذا النزيف، وترميم الصدع، وإعادة الدفء للعلاقة الإنسانية بين المبدع ومحيطه؟· ـ ما الإجراءات السوسيوثقافية التي يجب أن يقوم بها المبدع ذاته لاستعادة ثقة الجماعة (القبيلة)؟· تتوتر علاقة المبدع بالقيم الثابتة للجماعة/ المجموعة البشرية التي ينتمي إليها، ويتمظهر المبدع غالبا في تلك الصورة التي تشذ عن العادة، وتجعله كائنا متمردا ضد الواقع، ناقما على معتقداته، فكبرت الهوة، والكثير من المبدعين يعتبرون هذا الموقف من العالم نوعا من النضال ضد التخلف وثورة على إكراهات وقيود الظلامية المقيدة للإبداع· وقد أفرزت هذه الوضعية النشاز سياقا علائقيا سيئا بين المبدع وعموم الناس خاصة القراء والمستقبلين لمنجزاته الإبداعية أيا كانت طبيعتها· الكثير من المبدعين ثار على مؤسسة الزواج والأسرة، وبعضهم يسفه خطابات الساسة والمنظرين، وبالجملة فقد أصبح المجتمع لدى المبدع متاهة حقيقية تحرض على اللامعنى· ترى: ما أسباب ثورة المبدع على قيم الذات وقيم المؤسسة الثقافية لمجموعته البشرية؟· هل لذلك علاقة بالواقع أم بالسلطة؟· هل انتهى دور المبدع في تخليق الحياة والسمو بقيم الجماعة؟· للدكتور نادر كاظم الناقد والباحث الأكاديمي البحريني المعروف رأي في هذه الإشكالية وهو يرى أنه إذا كانت أجيال المبدعين تسير في مسار مشترك مع أجيال المثقفين في العالم العربي، فإن المرء يمكنه أن يرسم هذا المسار الذي يبدأ برواد التنوير والإصلاح والنهضة في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ثم تأتي حقبة مثقفي التغيير والتثوير منذ منتصف القرن العشرين، ثم هذه الحقبة الأخيرة التي تكاد تكون بدون ملامح مميزة، حيث تجد أنماطاً متعددة ومبعثرة من المثقفين والمبدعين، إلا أن النمط الغالب هو نمط المثقفين النصوصيين· في الحقبة الأولى كان التنويريون يصورون أنفسهم على أنهم حاملو شعلة التنوير، وهذه الشعلة ينبغي أن تنير الطريق أمام ''جماهير الأمة''· وهذا يتطلب أن يكون حامل شعلة التنوير متميزاً عن الجماعة ومندمجاً فيها في الوقت نفسه· والحال لا تختلف كثيراً مع جيل التثوير والتغيير من حملة شعلة الوعي الطبقي· فهذه شعلة وتلك شعلة، ومهمة المثقف في الحالتين تتطلب أن يكون قريباً من الناس ومندمجاً في الجماعة· ويضيف كاظم: كان هذا حال المثقفين والمبدعين إبان سيادة السرديات الكبرى من قبيل التنوير والتحرير والتغيير والتقدم· فلا تنوير إلا بجماهير الأمة، ولا تحرير إلا لجماهير الأمة، ولا تغيير يمكن أن يكتب له النجاح إلا بجماهير الأمة، ولا تقدم يمكن أن ينجز إلا بتحرك جماهير الأمة· الأمر الذي يعني أن السرديات لا تكون كبرى إلا بجماهير الأمة· تغيّر الحال منذ التسعينات، خرج الاتحاد السوفييتي من المعادلة الدولية، غزا العراق الكويت، تهشمت تنظيرات القوميين، وتقوّضت معظم السرديات الكبرى، صعدت الحركات الاجتماعية الجديدة، وهي حركات ذات قضية واحدة: حركات الدفاع عن السلام، عن البيئة، عن المرأة، عن الطفولة، عن المثليين··· والخلاصة أن وجه العالم تحوّل بصورة حاسمة· وحين تحوّل وجه العالم صار الحديث عن جماهير الأمة حديثاً شعبوياً وتهييجياً وديماجوجياً· وصار معظم المثقفين والمبدعين ينأون بأنفسهم عن هذا النوع من الحديث، وبدل الخطب العصماء العرمرمية صرنا أما نصوص مغرقة في فردانيتها وغموضها ومعضلاتها اللغوية المدوّخة، أمام نصوص لا تكترث بـ''جماهير الأمة''، بل هي ليست مرسلة لهؤلاء المتلقين الذين باتوا أعجز من أن يفهموا منها شيئاً· صارت النصوص عصية على فهم ''جماهير الأمة''؛ وصارت هذه ''الجماهير'' تنظر إلى هذه النصوص على أنها ''كلام فارغ'' أو ''كلام ساكت'' لا يقول شيئاً ولا ينطوي على معنى! فبعد المثقفين الشعبويين الذين أشبعوا الناس أحلاماً فارغة، صرنا أمام مثقفين نرجسيين نصوصيين أشبعوا مكتباتنا بنصوص فارغة! وأتصور أن المطلوب اليوم هو تجاوز هذين النموذجين اللذين حكما المشهد الثقافي والإبداعي منذ منتصف القرن العشرين حتى هذه اللحظة· وعندئذٍ قد نؤسس لعلاقة صحية بين المثقف والجماعة حيث لا يهيّج الأول الثاني ويصعد، في المقابل، على أكتاف تضحياته وتحركاته، ولا ينزوي داخل نصوصه ''الفارغة'' وكأن الآخرين كائنات من ورق ولا يعنونه في شيء· وأتصور أن هذا هو النموذج الذي عناه إدوارد سعيد حين تحدث عن ''صور المثقف''· تعالي المبدع أم تخلف الواقع؟ هوة عميقة أما الناقد والروائي المغربي إبراهيم الحجري فيرى أن الخصومة بين المبدع والمجموعة البشرية إشكالية تشكلت منذ زمن بعيد بشكل بنيوي ساهمت فيه كل هذه العناصر، كل من جهته· فنكسات فلسطين المتتالية، وعجز الحكام عن قيادة السفينة نحو بر الأمان، فضلاً عن استصدار رأي المثقف، وتهميش الخطاب المتنور بسبة أنه يُثَور الجماهير ضد الحكومات· هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالطريقة التي انتهجها الكتاب أنفسهم تجعل المتلقين، بصفة عامة، بعيدين عنهم· فقد أغرقوا في الأحلام، وغاصوا في بحر الذات، وانزاحوا عن انشغالات الجماهير المنتكسة· فكانت الكتابة بدون رسالة أو مغزى· وبالتالي افتقدت قيمتها الإصلاحية الملتزمة، وأصبح المبدع، بدل أن يعبر عن هموم الناس ومطامحهم وفشلهم والأسئلة التي تقض مضجعهم، يعيد صياغة ذاته عبر المكتوب· فأصبح المثقف المبدع في واد والآخرون في وادٍ آخر· وهذا الغياب في تقارب الأفكار، والرؤى هيج التباعد، وكرس الهوة نفسها لتصبح عميقة جدا· وبالتالي على المبدع أن يكون واقعيا، وأن ينخرط في الجماعة التي ينتمي إليها، لأنه أولا وأخيرا منها، وعليه أن يستمد فلسفته من جوهر أسئلتها العامة، لكي تتحقق من جديد دينامكية التأثر والتأثير، وهنا تحضرني قولة لكولن ويلسون يؤكد فيها على أن ما فعلته الرواية في المجتمع الأوروبي يفوق بكثير ما فعله لينين وستالين وماركس· وهذا كاف ليدل على أن المبدع دائما كان يفوق السياسي والحاكم والنقابي في تأطير الجماهير وغرس قيم السلوك المدني الراقي· ولم يكن أبدا سلبيا ومنزويا خارج السرب· إن مرض التميز والبحث عن الأشكال والانبهار باختلاق القوالب واستيراد الغرب، جعل المبدع العربي يصيح في غير واد ما دام بعيدا عن اهتمامات الناس وانشغالاتهم، بدعوى أن الواقع تافه ومتخلف ومتقوقع· والحال إذا كان هذا تفكير المبدع فما الذي سيكون تفكير الجماعة التي تجد ذاتها خارج النص وخارج سياق التأليف· إن فشل المبدع في تأسيس قناة ناجحة للتواصل مع المتلقي هو ما يزيد الهوة اتساعا، وللأسف فهو يعتبر نفسه غير معني بهذا، بل معني بكتابة ما يحب ويريد· إنكسار وعزلة أما الكاتب والمترجم دلور ميقري فيرى أن المبدع لا يختار عزلته؛ بل هيَ الحياة من تجبره شروطها على ذلك الاختيار· بإصرار الكاتب على المضيّ في مغامرة الخيال، يضحي شيئاً فشيئاً كما لو أنه ''كائن منبوذ''، اجتماعياً· العزلة فنّ، فوق ذلك، وليست خياراً وحسب· إنها تتحقق بالإرادة والمران· بيدَ أنّ الأمر، غير يسير بحال· المجتمع؛ العائلة؛ المؤسسة؛ المادّة: كلها خصومٌ لمهنة الكلمة· وكلّ منها يحاول خرقَ هذه السجف، التي تحوّط حياة الفنان، الداخلية ـ كشرنقة· الكتابة فعل إغواء، أكثر منه فعل حياة· إنها تنتمي لإبليس العاصي، لا للإله الخالق· وأجرؤ على القول، بحسب تجربتي الخاصّة، المريرة، بأن صفة الكاتب، الأنانيّة، تجعل ''المؤنث''، في هذه المهنة، ''لا يُعوّل عليه''! المرأة خلقٌ للحياة، مستمر· ولكنّ الكاتب، بدوره، وبما أنه ''خالقٌ''، يجدُ نفسه، ولا غرو، على الطرف الآخر، المناقض؟ في هذه المواجهة· واقع الأمر، ليسَ مجرّد مباهاة وبلاغة· مع أنّ علاقة الكلمة بالحياة كانت، وما فتأت، إشكاليّة بحتة· كلّ شطحةٍ للكاتب، إنما هيَ بمثابة غفوة على طريق نومته، الأبديّة· شرط الإبداع، لا يتحقق مطلقا إلا عبرَ مغامرة الحياة هذه، اليوميّة، والتي تسير على حافة الموت· المبدع، عموماً، هوَ الخاسرُ، الأكبر، في هذه الحياة· ولكنه مهزومٌ خالدٌ·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©