الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاي العراقي·· لاجئ كأهله!

29 ديسمبر 2007 23:51
تحولت أرصفة شوارع ضواحي العاصمة السورية إلى أحضان تفوح منها رائحة الشاي العراقي المهيّل، الذي حنّ إليه الشاعر كريم العراقي وذكره في إحدى قصائده: حنيت للمقهى القديمة وشاي أبو الهيل · فحين تمرّ بتلك الشوارع، تشعر أنك لست في دمشق! حيث المحال تحمل مسميات عراقية، وأني مررت تجد مطاعم المأكولات العراقية ''الكفتة والسمك المسقوف والكيمر والدولمة والطرشانة'' افتتحها العراقيون ممن استطاعوا إلى ذلك سبيلا، حين لاذوا بدول الجوار محملين ببعض المال· الشاي العراقي المهيّل -يُسمى الجاي- غالباً يجد مكانه على الأرصفة لأن المارين كثر، والعطشى التواقون إلى كل ما يعيدهم بالذكرى إلى الوطن -العراق- أكثر، فتكلفة إعداد الشاي تُمكّن من اتخاذه مهنة لبعض اللاجئين والأيتام الذين قضت الحرب والاحتلال على ذويهم وأسرهم واستقرارهم وأحلامهم، فلم يبق لديهم سوى رحمة الله تظلهم، وناصية شارع يسترزقون عبرها· يقف الطفل اليافع مع عربته، يضع على سطحها فرن غاز مستطيلا بعيون صغيرة، يربض فوق إحداها وعاء الماء -يُسمونه قازان- له صنبور صغير، وأسفله وعاء بلاستيكي، يغسل به كاسات الشاي، وأعلاه إبريق كبير للماء الساخن -يُسمونه قوري- وبجواره إبريق أصغر مملوء بشاي معتّق، يحوي عدة أصناف من الشاي الذي يجلبونه من بغداد إلى مدينة دير الزور السورية ثم دمشق، الأول شاي معطر يزرع في العراق وثان يُسمى ''التفاحة'' وآخر ''الوزة''، يضاف إليه أثناء غليانه حبات الهيل أو ملعقة من الهيل المطحون· سطح العربة أشبه بطاولة، لذا يضع إلى جوار الفرن، وعاء سكر، وصينية فيها عدة كؤوس -يُسمونها استكانات- وأسفلها صحون صغيرة، هي ذاتها صحون فناجين القهوة، حيث يفضل كثيرون احتساء الشاي من الصحن الصغير وليس من الكأس، ويعللون الأمر بأنه عادة عراقية تفيد في تبريد الشاي قبل الاحتساء، إضافة إلى أنهم يحبون الشاي حلواً، لذلك يترك لهم البائع داخل الكأس ملعقة لتحريك وتذويب السكر، الذي لن يذيب مرارة الحياة! حين تمر ببائع الشاي المهيل، يناديك بلهجة عراقية حارقة رغم أنها معمّدة بدجلة والفرات: ''تعال أخدّر لك جاي'' فالتخدير هو تحضير الشاي على الطريقة العراقية، قبل أن تجيبه بنعم، ربما بدافع الفضول لتذوق الشاي العراقي، أو بدافع التضامن مع محنة هذا الشقيق العربي المحزون، تداعب أذنيك أغنية للغزالي طالعة من مسجل فوق جرة الغاز: أيضحك مأسور وتبكي طليقة / ويسكت محزون ويندب سالي؟! وأنت تشرب الشاي، تندس الرائحة في روحك قبل أنفك، يعرف من خلال ملامحك أو مجرد كلمة تلفظها، أنك لست من العراق، يخبرك حينها أن الشاي العراقي كان رمز الكرم والضيافة ومكانه البيوت وكبرى مقاهي العراق لا الشوارع! فتبلع غصتك بينما يحدثك عن مدينته أو بلدته أو قريته أو الحيّ الذي جاء منه، تغرورق عيناك بالدمع، في حين يواصل حديثه عن العراق ويرضي شغفه، فلا تعرف آنذاك إن كنت تشرب الشاي الحلو أم المرار العربي! يصب لك ''استكانة جاي'' آخر، لا يريد ثمنه (حوالي درهم واحد) فهو بحديثه لا يستدر شفقة أحد، بل يطرح فيض شجنه، لتعرف أنه كان تلميذاً متفوقاً، يرفض أهله أن يلعب في الشوارع، وكان له مثلك بيت وأهل يعود إليهم في المساء، ويحلم أن يصبح مهندساً كوالده الشهيد أو صحفياً أو معلماً· حالما تدس في يده النقود وتبتعد عنه لا تعود ترى أمامك شجيرات ياسمين دمشقي ولا أبنية عالية ولا فضاء واسعا، حسبك أنك أمام نخيل عراقي باسق والسماء تمطر عليك ''الجاي''·
المصدر: دمشق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©