الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كيف كانت علاقة مارتن هيدجر مع الفلاسفة الفرنسيين؟

كيف كانت علاقة مارتن هيدجر مع الفلاسفة الفرنسيين؟
29 ديسمبر 2007 02:19
لا تزال العلاقة المتأزمة بين الفيلسوف الألماني مارتــــن هيدجر 1889 - 1976 والفلسفة الفرنسية بؤرة جدال حاد لم تنطفئ جذوتها رغم مرور عقود من الزمان على تأجيجها· ففي أربعينات القرن الماضي أحبَّ الفرنسيون هيدجر بعد أن سحرهم بفلسفته وفكره· وكان من المفكِّرين القلائل الذين استدرجوا شرائح واسعة من النُّخب الفرنسية المثقَّفة لينغمسوا في النقاش الفلسفي وينشغلوا بالقضايا الكبرى لعصرهم عبر رؤية متعمقة وناقدة· بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح هيدجر نجماً لامعاً في سماء الفلسفة الفرنسية· وبات له حرّاس ومناصرون يتبنون أطروحاته ويعتبرون فكره معصوماً من النقد والخطأ· واستمر كذلك حتى صدور كتاب مثير للجدل بعنوان ''هيدجر والاشتراكية الوطنية'' للباحث الفرنسي ''فيكتور فارياس''· كان هذا الكتاب سبباً رئيسياً في إشعال نار العداء بين هيدجر من جهة، والنُّخب الفرنسية المثقَّفة من جهة أخرى، وتسبَّب في تفجير موجة عارمة من التجريح والنقد والرفض لكل ما يمتُّ لفكر هيدجر بصلة· إذ تناول الكتاب تعاطف ''هيدجر'' مع النازية وإيمانه بمبادئ هتلر العنصرية وقيامه بكتابة بعض خطب هتلر الشَّهيرة مما خلق صورة متناقضة بين فلسفة الذبح والإفناء في النازية ومبادئ الإنسانية التي طالما داعب بها هيدجر خيال الفرنسيين· تأتي الإشكالية من أن البنية العميقة لحقوق الإنسان والمتغلغلة في الثقافة الفرنسية، أصابها جرح بليغ بالإطلاع على ماضي هيدجر النازي؛ فالمناخُ الفكري والثقافي الفرنسي خلال أربعينيات وخمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان يحيا على تمجيد مبادئ احترام الفرد وتكريس الحرية والمساواة وسلطة الأمة وهي المبادئ التي رسختها الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر؛ فعلى الرغم من انقسام الفلاسفة الفرنسيين إلى ملحدين ومتدينين، إلا أن الفريقين يلتقيان في نهاية الأمر عند احترام المبادئ الإنسانية التي تحفظ للإنسان قيمته وحريته· فجاءت عُقدة النازية لتلطِّخ صورة هيدجر بألوان من سوء الفهم المختلفة، وتلاحق مفاهيمه وأطروحاته الفلسفية بسوء الظن والرفض وإعلان الحرب· بدأ الفرنسيون يفيقون على حقيقة مؤلمة تقول إن ''رسالة في النزعة الإنسانية'' التي كتبها هيدجر، لم تكن سوى وهم كبير· والمثير في الأمر هو وصول الفيلسوف الألماني هيدجر إلى هذه المكانة الرفيعة في فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الفترة التي كانت فيها المشاعر الفرنسية متأججة ضد ألمانيا النازية وحلفائها· وفسر البعض هذا الأمر بغياب الصورة الكاملة عن الفلسفة العنصرية النازية، وانتشار الجهل بطبيعة أفعالها الوحشية· لكن المعرفة بالممارسات النازية أضرت بمكانة هيدجر في فرنسا، وأثارت زوبعة فكرية عارمة لم يهدأ غبارها حتى اليوم؛ فعلى مدى قرن ونصف من الزمان هيمنت الفلسفة الألمانية على الفلسفة الفرنسية· وتبنَّت فرنسا نظريات الفلاسفة الألمان أمثال كانط وهيجل ونيتشه وماركس وفرويد· في نهاية العشرينات من القرن العشرين، بدأ اهتمام الفرنسيين بالألمان ربما خلال فترة الفيلسوف الفرنسي ''ايمانويل لفيناس'' الذي درس في ألمانيا· ثم ترجمت أفكار هيدجر إلى الفرنسية لأول مرة عام 1931 على يد ''هنري بتيت كوربين''، والذي قدَّمها باعتبارها بداية عصر فكريٍّ جديد· ثم لعب ''ألكسندر كوجيف'' والذي اشتهر بمحاضراته عن فلسفة هيجل في الثلاثينيات، دوراً كبيراً في جذب الانتباه نحو فلسفة هيدجر· بعد عام 1945 لمع نجم هيدجر عندما قام ''جان بول سارتر'' كردِّ فعل للرفض الديني الفكرة الوجودية بتأييد موقف هيدجر من الوجودية بمفهومها الواسع؛ إذ أن فلسفة هيدجر تبدو منكِرة للألوهية، ومع ذلك فإنَّ هيدجر لم يصرح باعتبارها كذلك· كان هذا التفسير الوسطي، أحدُ الأسباب الرئيسية لاهتمام الفرنسيين السريع بفكر هيدجر إبان الحرب· إلا أن هناك أسباباً أخرى ساهمت في هذا الاهتمام· من بينها رغبة الفلاسفة الفرنسيين في تصحيح رؤية سارتر السطحية حول النَّص الخاطئ لفكرة الوجودية ومنها مبدأ الوجود والعدم· واتخاذ عدد من المثقَّفين الفرنسيين هيدجر كفزاعة للتخلص من سيطرة ''سارتر'' على الثقافة الفرنسية· إذ أن المفكرين الفرنسيين الكاثوليك استخدموا ''هيدجر'' المنحدر من تربية كاثوليكية للاحتجاج على مجاهرة ''سارتر'' بالإلحاد· هذا إضافة على نجاح هيدجر في تقديم نفسه على أنه بديل للماركسية الفرنسية· كانت أول موجة احتجاج على بزوغ نجم هيدجر في الأوساط الثقافية الفرنسية دون الدخول في التفاصيل صادرة عن صفحات جرنال ''سارتر'' التي كانت تصدر تحت عنوان'' الأزمنة الحديثة'' عام 1946 و1947 وذلك قبل أن تندلع موجة الغضب العارم بصدور كتاب ''فيكتور فارياس'' الذي عكف على تصوير واقعه السياسي وكشف خباياه ودلالاته· إلا أن علاقة هيدجر بالفلسفة الفرنسية تحمل بعداً آخر ارتبط بفلسفته حول الوجودية والزمان؛ فالزمان عند هيدجر ليس مجرَّد امتداد أفقي، بل حركة دؤوبة نحو المستقبل ودليله على ذلك أن الإنسان هو مجرَّد مشروع وجود مرهون بتحققه المستقبلي· وهي الرؤية التي ينتقد فيها بشدة فلسفة ''رينيه ديكارت''، ففي نص مختصر نُشر عام 1937 قبيل الحرب العالمية الثانية اقترح ضرورة وجود حوار بين الفرنسيين والألمان· مع انتهاء الحرب وبداية مطاردته بتهمة النازية، كتب هيدجر يناشد الفلاسفة الفرنسيين مساعدته؛ فأرسل رسالة يمتدح ''سارتر'' ويصفهُ بالمفكِّر الوحيد القادر على فهمه بالطريقة الصحيحة· فلم يجب ''سارتر''، لكن بعد بضعة أشهر، وتحديداً في نوفمبر ،1948 تسلَّم هيدجر رسالة من ''جان بوفريه''، وكان شاباً مغموراً آنذاك، فاقتنص هيدجر الفرصة، وردَّ برسالة أراد بها أن يحثّ المزيد من المفكِّرين الفرنسيين على الرَّد فتناول الموضوع الأكثر تشويقاً بالنسبة لهم وهو ''رسالة في النزعة الإنسانية''· وتعد هذه الرسالة أفضل مدخل لقراءة هيدجر كونه عدَّل فيها الكثير من المنطلقات العامة لفلسفته الخاصة· احتوت رسالته هذه على نقاط رئيسية أبرزها أنه استغل الفرصة لاستعادة ثقة الفلاسفة الفرنسيين فيه فأبعد نفسه تماماً عن ''سارتر''، وركَّز على قضية الإنسان التي كانت محط تساؤل واستنكار بعد ثبوت ارتباطه الفكري بالمبادئ النازية· كما أنه قدم نمطاً فلسفياً جديداً شكَّل انعطافة حقيقية في موقفه من القيم الإنسانية· والمثير أن هيدجر الذي تخلى عن دوره كرجل دين في الكنيسة الكاثوليكية عام 1919 ورسخ لمبدأ الوجودية ليعزف على وتر الدين في رسالته فاستخدم اسم (الله) فيها لأكثر من 29 مرَّة استعطافاً لفرنسا التي يعتنق معظمها مذهب الرومان الكاثوليك· في الوقت ذاته انتهز الفرصة لتهدئة الماركسيين بالإعلان عن تثمينه للماركسية· فكانت رسالته تلك بمثابة الفرصة الذهبية التي استغلها أنصارهُ الفرنسيون في محاولة منهم لإنقاذه، وهي التي كانت تتطلب وقفة لإعادة تقييم الموقف ككل ورسم صورة جديدة له تنفصل فيها نظرياته الفلسفية عن قناعاته السياسية رغم التناقض الحاد بين الاثنين· كان هيدجر ككثير من الفلاسفة الذين كانت نظرياتهم الفلسفية تتنافر مع ممارساتهم الفعلية·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©