الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الاستعراب الإسباني حكاية تنوعت فصولها

الاستعراب الإسباني حكاية تنوعت فصولها
26 ديسمبر 2007 23:59
بدأ الاستشراق، أوالاستعراب الإسباني، في فترة متأخرة عن الاستشراق الغربي بشكل عام، بالرغم من الارتباط الوثيق بين إسبانيا والثقافة العربية والإسلامية، التي تعتبر من أهم روافد الثقافة الإسبانية المعاصرة، لارتباط تلك الثقافة بتاريخ الأندلس والحضارة الإسلامية التي قامت على أرضها طوال ما يقرب من ثمانية قرون، ويرجع هذا الانفصال عن تلك الثقافة، وعدم الاعتراف بوجودها بالرغم كل الآثار المادية التي تركتها وتوجد في كل ركن من أركان المملكة الإسبانية المعاصرة، إلى العداء الذي كان يكنه المتطرفون من الكاثوليك ضد كل ما هو عربي وإسلامي بعد سقوط آخر الممالك العربية - الإسلامية في غرناطة، وقيام الدولة الإسبانية الموحدة على كل الأراضي التي كانت تمثل الأندلس بكل ما تحويه من آثار حضارية· كما أن نشأة الاستشراق الإسباني نفسها، في النصف الأول من القرن الثامن عشر، لم تكن مرتبطة بهذا التاريخ الطويل العريق للأندلس وما خلفته من آثار حضارية، بل جاءت مرتبطة بحاجة النظم الحاكمة في إسبانيا للتعرف إلى الشعوب الخاضعة لها في أفريقيا، والتي كانت مراكش أو شمال المغرب احدى دعائمها الأساسية، من هنا كان المستشرقون الأوائل في إسبانيا يسمون بـ''المتأفريقين'' أي المختصين بالدراسات الأفريقية، أي كان الاهتمام بتلك الشعوب تلبية لحاجة سياسية بالدرجة الأولى، ولتسهيل عمل الإدارة الاستعمارية الإسبانية في تلك البلاد، واستمر هذا الاهتمام خلال القرن التاسع عشر مع التوسع فيه باتجاه المناطق المتوسطية التي تطل على شاطئها الجنوبي دول عربية، لذلك يعتبر هذا الاهتمام بالاستشراق في إسبانيا أقل بكثير من الاهتمام الذي أبدته قوى استعمارية أخرى كبريطانيا وفرنسا· اللهجات عوضاً عن اللغة لم يكن هذا الاستشراق الأول في إسبانيا يركز على اللغة العربية كلغة أو كفكر، بل ركز على اللهجات المغربية الدارجة والبربرية، فيما ظلت الجامعات الإسبانية بعيدة عن هذا التوجه حتى سنوات قريبة من نهاية القرن العشرين، ثم جاء الاهتمام بـ''العربية'' والاستشراق باتجاه الثقافة العربية تلبية لعدة حاجات نشأت حديثاً في المجتمع الإسباني، كان أولها نزوح كثير من المغاربة للعمل والإقامة في إسبانيا، واتجه بعض الباحثين نحو الدراسات الأندلسية، مستغلين توجه نظام الجنرال فرانكو نحو العرب لكسر عزلته الدولية التي فرضتها عليه أوروبا بعد الحرب الأهلية، وقضائه على الجمهورية وإقامته لنظام ديكتاتوري، يتعارض، أو لا يتفق، مع الأنظمة الأوروبية الأخرى القائمة على أسس الديمقراطية الغربية الحديثة· من هنا، كان إنشاء ''المعهد الإسباني - العربي للثقافة'' بمدريد عام 1954 وتبعيته لوزارة الخارجية كأول خطوة حقيقية نحو العمل في إطار الاستشراق العربي، وإن كانت البدايات لها أهداف سياسية كما ذكرنا، إضافة إلى التركيز على الدراسات الأندلسية التي تحاول إحياء فترة ازدهار الثقافة العربية والإسلامية على الأراضي الإسبانية، فقد تركزت الدراسات على مجالات تخدم هذا التوجه، كدراسات التاريخ والفن الإسلامي في إسبانيا والآثار والاقتصاد والقانون، وفي هذا المعهد تم تشكيل أول مجموعة من الأساتذة الذين انتشروا بين الجامعات الإسبانية ليقيموا فيها أول أقسام لدراسة اللغة العربية خلال الحقبة التالية· طليعة استعرابية يمكن القول إن أول توجه إسباني حقيقي نحو الاستشراق العربي المعاصر تم على يدي البروفيسور بدرو مارتينيث مونتابث، الذي يعد أول من دفع الدراسات الاستعرابية نحو دراسة الآداب والعلوم الاجتماعية العربية المعاصرة، وكان قرار إرسال 88 دارساً لدراسة اللغة العربية وآدابها في مصر وسورية ولبنان ليكونوا طليعة نحو بناء استعراب معاصر، إضافة إلى قيام هؤلاء بعد إنهاء دراساتهم بنشر خبراتهم في المجتمع الإسباني من خلال ترجماتهم للعديد من الأعمال الأدبية العربية المعاصرة، وتدريسهم للغة العربية بالجامعات الإسبانية، هؤلاء كانوا الجسر الذي عبرت عليه الثقافة الإسبانية المعاصرة إلى الدول العربية، من خلال إدارتهم لشبكة المراكز الثقافية الإسبانية التي أقيمت في العديد من العواصم العربية الرئيسة· هذا التوسع في الدراسات العربية كان دافعاً للبروفيسور بدرو مارتينيث مونابث لإقامة استعراب معاصر وحقيقي من خلال قسم الدراسات السامية بجامعة ''الاوتونوما'' بمدريد التي كانت تقتصر الدراسة فيه على اللغتين العبرية والفارسية، ومن خلال هذا القسم خرجت الدراسات العربية من محيط الدراسات الأندلسية إلى دراسة الآداب العربية المعاصرة، مما أدى إلى خلق مناخ يقرب الواقع العربي المعاصر من المواطن الإسباني بشكل عام والمثقف بشكل خاص· تداعيات الصراع ثم جاءت حرب يونيو 1967 لتدفع بالوجود العربي واللغة العربية إلى داخل الحياة اليومية في المجتمع الإسباني من خلال اهتمام وسائل الإعلام بالصراع ''العربي - الإسرائيلي'' وانتقال القضية الفلسطينية إلى مرحلة جديدة من الاهتمام المرتبط بالوجود الكبير الذي اتاحته لها فرصة رفض نظام الجنرال فرانكو الاعتراف بالكيان الصهيوني، وفتح الأبواب أمام الوجود السياسي الفلسطيني حفاظاً على العلاقات السياسية والاقتصادية مع العرب· هذه الدفعة الجديدة التي بدت سياسية، خلقت مناخاً عاماً من الاهتمام بكل ما هو فلسطيني، وبالتالي بكل ما هو عربي، فبدأت معظم الصحف الإسبانية تبحث عن متحدثين ومعلقين على دراية بالأوضاع العربية المعاصرة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وبدأت دور النشر تبحث عن ترجمات لإبداعات فلسطينية لإشباع رغبات الجمهور إلى التعرف على مبدعي الشعب الفلسطيني، كل هذا خلق جيلاً جديداً من المستعربين المتخصصين في اللغة العربية وكثير من أبناء هذا الجيل التحقوا بالعمل بقسم اللغة العربية والإسلام بجامعة الاوتونوما التي تحولت إلى معمل تفريخ للمستعربين الجدد حتى أصبحت تلك الجامعة، بالرغم من حداثة نشأتها، الأكثر شهرة بين الجامعات الإسبانية، ووصل المستعرب بدرو مارتينيث مونتابث إلى رئاستها لفترتين متتالين، وكان الوجه الأكثر انتشاراً في وسائل الإعلام كلما تطلب الأمر حديثاً عن العرب وقضاياهم· ثم جاءت حرب أكتوبر 1973 والتي كانت أكثر شهرة في المجتمع الإسباني نظراً لما تبع تلك الحرب من ارتفاع لأسعار البترول وتأثير هذا الارتفاع على الحياة المدنية للمجتمعات الأوروبية ومنها المجتمع الإسباني، وساعد هذا المناخ قسم اللغة العربية والإسلام بجامعة الاوتونوما على تثبيت أقدام المستعربين ذوي الاتجاهات المعاصرة، وبدأ في وضع برامجه الدراسية في هذا الاتجاه· انفتاح وتمدد تشبهاً بتلك الجامعة، قامت الجامعات الإسبانية الأخرى بالانفتاح على اللغة العربية وآدابها، وقامت بافتتاح أقسام مخصصة لدراستها، بل وبدأت تمتد الدراسة إلى الدراسات السياسية والاجتماعية والاثنية والانثروبولوجية للمنطقة العربية، ومعها انتشرت مجموعة من المجلات المتخصصة التي تنشر الأبحاث والدراسات التي ينجزها المستعربون، إضافة إلى الترجمات التي كانت تتم من العربية إلى الإسبانية، منها فءٌٍمَفْفف والتي كانت تكتب اسمها عبر نطقها العربي ''المنارة'' ومن عددها الثاني وضعت عنواناً جانبياً لها ''مجلة مختصة في العالم العربي- الإسلامي المعاصر''، ونشرت كثيراً من الترجمات الأدبية والأبحاث التاريخية والجغرافية والسياسية· امتدت أبحاث هذه المجموعة من المستعربين الإسبان لتشمل الأدب والفكر العربي، وان كانت قد ركزت كما قلنا من قبل على القضية الفلسطينية والمغرب العربي، بسبب قضية الصحراء الغربية التي بدأت تأخذ أبعاداً جديدة بعد انسحاب إسبانيا منها· تحول جذري خلال نهايات السبعينات وبداية الثمانينات من القرن العشرين عاشت إسبانيا تحولاً جذرياً في أوضاعها السياسية على اثر رحيل الجنرال فرانكو عام 1975 وبدء عملية سياسية للتحول الديمقراطي بدأت بتولي الملك خوان كارلوس الأول حكم البلاد رسمياً، ونشوء الأحزاب السياسية، ثم دخول إسبانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة عام 1986 وما نتج عن ذلك من تحولات في السياسية الخارجية أولها الاعتراف بإسرائيل، إلا أن هذا الاعتراف وما تبعه من تغلغل اللوبي الصهيوني إلى إسبانيا عبر الاتحاد الأوروبي، والتراجع الذي شهدته القضية الفلسطينية بتخلي الطليعة السياسية العربية عن دعمها غير المحدود وتوقيع مصر لاتفاقيات ''كامب ديفيد''، وما نتج عنه من تصدع في الجبهة العربية أدى إلى تراجع الاستعراب الإسباني، وبدأ يفقد كثيراً من المواقع التي اكتسبها في السابق، وكان أولها إلغاء ''المعهد الإسباني العربي للثقافة'' وتحويله إلى مجرد قسم داخلي من أقسام ''مؤسسة التعاون الدولي'' التابعة لوزارة الخارجية وتحول الخطاب الرسمي من الحديث عن ''التعاون مع العالم العربي'' إلى ''التعاون المتوسطي'' حتى يمكن تنفيذ السياسة الغربية بدمج إسرائيل والعرب معا من خلال الحديث عنهم ككيان واحد· ربما من المنجزات التي تمت في إطار التعاون المتوسطي مع المنطقة العربية بعد إدخال إسرائيل فيها إحياء مشروع ''مدرسة طليطلة للترجمة''، التي كانت لعدة سنوات ملأى بالحيوية وقدمت مشروعات كثيرة للترجمة خاصة فيما سمي بذاكرة المتوسط التي نشرت أعمالاً مشتركة مع عدد من دور النشر الإسبانية الصغيرة· من الثقافة إلى ''الأمن'' هذا التحول تأكد بعقد مؤتمر ''برشلونة'' عام 1995 الذي شهد بما سمي ''التعاون المتوسطي''، ثم جاء 11 سبتمبر 2001 في واشنطن ونيويورك وما تلاه من احتلال العراق ومشاركة حكومة اليمين الإسبانية فيها بوحدات عسكرية، ثم تفجيرات قطارات مدريد في 11 مارس 2004 ليتحول الاهتمام من الثقافة إلى ''الأمن'' وهذا أدى من ناحية إلى تراجع الاهتمام الاستعرابي بالثقافة العربية من خلال دراسة وترجمة الآداب والفكر، لتتركز الدراسات والأبحاث على الجاليات العربية المقيمة في إسبانيا وجذورها القادمة منها في شمال المغرب العربي لدعم السياسة الإسبانية الخارجية القائمة على مواجهة ''الإرهاب الإسلامي''· ثم جاء توالي الاحداث العالمية في المنطقة العربية ليدفع أكثر بالمستعربين الإسبان ليتناولوا موضوعات ما كانت تخطر على بالهم من قبل، مثل الاهتمام بمنطقة الخليج سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والمشكلات السياسية التي تعيشها الجزيرة العربية وبشكل خاص في اليمن، ثم دخلت السودان منطقة الاهتمام من خلال متابعة ودراسة أنشطة ''الجبهة الإسلامية'' ومفكرها حسن الترابي، وتأثير قضية الجنوب المسيحي، ثم قضية ''دارفور'' التي تستحوذ الآن على عدد كبير من الدارسين لها ومتابعتها إعلامياً· تأرجح خلال هذه الرحلة الطويلة للاستعراب الإسباني برزت أسماء كان لأبحاثها صدى وتأثيراً كبيراً في المجتمع الإسباني، كان يرتفع صوتها أحياناً ويخفت في أحيان أخرى، في مقدمتهم بدرو مارتينيث مونابث، الذي يعتبر أول من قاد التحول في الدراسات الاستعرابية من الأندلسيات إلى الثقافة العربية المعاصرة، وكان لشخصيته أثراً كبيراً في جذب مواهب شابة كثيرة عملت في هذا المجال، ومن تلاميذه كارمن رويث برافو، التي قدمت كثيراً من جهدها للدراسات الاستعرابية سواء من خلال مشاركتها لأستاذها في قسم اللغة العربية بجامعة الاوتونوما كباحثة، أو كناشرة من خلال ''دار كانتاربيا'' التي تمتلكها ونشرت من خلالها العديد من الأعمال الأدبية والفكرية، إضافة إلى باحثات أخريات من هذه الجامعة لعبن دوراً مهماً على مستوى الإعلام·· أنشطهن في هذا المجال، خيما مارتين التي كتبت مجموعة كبيرة من المتابعات للأحداث في العالم العربي على صفحات كبريات الصحف الإسبانية ''الباييس''، وتترأس حالياً مشروعاً جديداً لوزارة الخارجية الإسبانية وهو ''البيت العربي'' الذي تحاول من خلاله الحكومة الإسبانية الحالية أن تنشر مشروعها حول ''تحالف الحضارات'' بدلاً من المشروع الأميركي القائم على ''صراع الحضارات''· الترجمة ثمة قسم للغة العربية بجامعة كومبلوتنسي الذي تترأسه ماريا خيسوس بيجيرا، وميلاجروس نوين الأستاذة بالقسم نفسه والتي قدمت ترجمات لنجيب محفوظ وجمال الغيطاني وإبراهيم أصلان وميرال الطحاوي وغيرهم من الكتاب والروائيين المصرين المعاصرين· وفي غرناطة، لعب قسم اللغة العربية بجامعتها دوراً مهماً بريادة رئيس القسم ''ميرثيدس ديل أمو'' التي أشرفت على عدد من الدراسات والدارسين الذين كانوا نواة لقسم اللغة العربية بكلية الترجمة، والقسم العربي بوكالة الأنباء الإسبانية، وابرز هؤلاء رفائيل أورتيجا، الذي تخصص في الإسلام السياسي في السودان من خلال أطروحة الماجستير التي كتبها عن ''الجبهة الإسلامية'' ثم تبعها بأطروحة الدكتوراه التي خصصها لتحليل فكر الدكتور حسن الترابي ومؤسس وزعيم تلك الجبهة، و''الينا ارخيتا'' التي تناولت في أطروحتها للدكتوراه ''الأزهر'' كمؤسسة دينية رسمية ودوره في الحياة الاجتماعية في مصر· بالطبع هناك كثير من المستعربين الإسبان الذين يتعاونون مع وسائل الإعلام في مناطق أخرى خارج العاصمة السياسية مدريد أو العاصمة الاقتصادية للبلاد ''برشلونة'' يصعب حصرهم·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©