الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

النوم على هدير شاحنة اسمها «مكيف»

النوم على هدير شاحنة اسمها «مكيف»
7 مايو 2009 00:52
أحتاج إلى إجابة خبير في الطقس والمناخ عن سؤال بدأ يفرض نفسه في السنوات الأخيرة: هل كان الطقس في السبعينيات أشد حرارة في الصيف من طقس التسعينيات وما بعد سنة 2000؟ أم نحن الذين تعودنا على الجو الحار بفعل المعايشة له طوال السنوات الأربعين الماضية؟ حتى تصلني الإجابة الدقيقة فإنني أعود بالذكريات إلى الأيام الأولى من عام 1971 وإلى أول صيف قضيته في أبوظبي. أعتقد بل أكاد أجزم بأن صيف عام 1971 بدأ مبكراً، فما كاد شهر فبراير ينتهي حتى بدأت الحرارة المصحوبة بالرطوبة تفرض نفسها وتحذر جميع المستجدين مثلي من عدم تركيب المكيفات في جميع الغرف.. حتى في المطبخ. وكانت المكيفات بالنسبة لنا من جملة المخترعات الجديدة التي كنا نسمع عنها ولا نراها ولا نعرفها.. حتى السيارة الأولى التي اقتنيتها وكانت من نوع «أودي» لم تكن مكيفة ولا أنكر أنها كانت مستعملة حيث لم تكن الميزانية كافية لشراء سيارة جديدة.. ولم يكن موضوع تمويل البنك للسيارة معروفاً لدينا.. ولم أجد أبداً أمام تزايد درجات الحرارة مع مرور أيام شهر مارس من الذهاب إلى محل يديره أحد الأصدقاء العاملين في قسم الأخبار في الإذاعة لأقتني ثلاثة مكيفات مرة واحدة بسعر منخفض وتسهيلات بالدفع.. مازلت أذكر اسم هذا الصديق الذي لا أعرف إذا كان حياً أو ميتاً بعد هذه السنوات الطويلة.. إنه الأخ زهير شاهين.. وأعتقد أنه أدرك جيداً أهمية الحصول على وكالة مكيفات من نوع أوجنرال.. حيث تمكن خلال فترة قصيرة من الانتشار وتحقيق ثروة جعلته يترك وظيفته في قسم الأخبار بالإذاعة. كان الجيل الأول من المكيفات يشعرك وأنت تستمتع ببرودته أنه شاحنة متوقفة عن الحركة ولكن محركه يزأر بلا هوادة.. أو أنه محرك سيارة بدون عادم «أكزوست». ولأنك لا تستطيع الإغفاء بدون تكييف فقد تعودنا على الصوت الهادر إلى درجة أنك تصحو من النوم إذا قام أحد بإيقاف المكيف.. لا بسبب تلاشي البرودة بل بسبب تلاشي الصوت. تطور الأمر في الشقة التي انتقلنا إليها في المرة الثالثة لنستمتع بالتكييف المركزي.. حيث كان الصوت أخف حدة. ومن الذكريات التي لا تنسى في أول صيف قضيناه في أبوظبي تعطل الكهرباء في أحد الأيام عن الحي الذي نسكن فيه.. أدركنا على الفور أنه لا يمكن قضاء الليلة في شقتنا لا بسبب الظلام الذي قاومناه بإشعال الشموع والفوانيس الكهربائية بل بسبب الحرارة والرطوبة. بغير تفكير أخذت العائلة وركبنا السيارة غير المكيفة واتجهنا إلى بيت أحد الأصدقاء.. وبالطبع رحب الصديق وعائلته بنا.. وانقضت تلك الليلة العصيبة بشكل غير مأساوي. كانت مثل هذه الانقطاعات في الكهرباء تحدث باستمرار وترافقها بطبيعة الحال غزوات عائلية.. وضيافات اضطرارية إلى درجة أننا كنا نعتبر هذه الانقطاعات مساهمة في الترابط الاجتماعي.. حيث كان عادياً جداً أن تستضيف العائلات عائلات الأحياء التي تتعرض لانقطاع التيار الكهربائي. إلى أن حدث ذات مرة أن الكهرباء انقطعت عن المدينة بأكملها.. وهنا وجدنا أنفسنا في مواجهة غير متكافئة مع الحرارة.. ولكن وبكل محبة وبدون أي تعصب.. خرجت العائلات إلى شاطئ البحر.. وإلى الحدائق العامة.. أما من كان لديه سيارة مكيفة فقد كان أقدر على مواجهة الحرارة والرطوبة بجمع أفراد أسرته في سيارته والتوجه إما إلى مدينة العين حيث يحل ضيفاً على صديق أو يتجول بسرعة بطيئة في شوارع مدينة أبوظبي.. الحمد لله من سنوات طويلة لم نتعرض إلى مثل تلك الانقطاعات في التيار الكهربائي. ما أسجله في هذا المجال هو كراهية المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان للتكييف. في المرات التي أتيحت لي للجلوس في مجلسه كنت أراه مستمتعاً بالجو الحار وحتى بالرطوبة.. وكان «رحمه الله» يقول: ـ الحرارة لا تؤذي ولا تسبب الأمراض ولكن التكييف يؤذي الصحة فعلاً.. فعليكم أن ترجعوا للزمن الماضي.. حيث كنا نعيش في هذه البلاد على الطبيعة.. فلا مكيفات تسبب الروماتيزم ولا برودة تسبب الزكام. كنت أشعر أنه يستمتع فعلاً بالجو الطبيعي الخالي من التبريد.. وكنت أعجب من قدرته على التحمل.. بل إنني كنت أراه بعد تناولنا طعام الغداء على مائدته في غنتوت والجرف.. يركب سيارته دون تشغيل التكييف ويتجول بين الأشجار وينزل أحياناً ليصلح الأرض حول شجر غرس من مدة قصيرة. وأذكر أنني سألته «رحمه الله» بعد واحدة من هذه الجولات الصعبة: ما الذي يجعلك يا صاحب السمو تمتنع عن تشغيل المكيفات وهي موجودة؟ أجابني «رحمه الله»: وكيف استطعنا أن نظل في بلادنا ولم نتركها صيفاً ولا شتاء لولا أننا كيفنا أنفسنا مع الجو.. التكييف الحقيقي يجب أن يأتي من الإنسان.. من داخله.. لا من آلات يؤذي عملها الجسم ويسبب الأمراض. الآن وبعد ثمانية وثلاثين صيفاً في دولة الإمارات.. لم تنقطع خلالها مكيفات بيتي وسيارتي عن العمل حتى ولو ساعات قليلة.. الآن أدرك عظمة تلك النصيحة التي قدمها لنا الشيخ زايد «رحمه الله». أدركها وأنا أصغي إلى أطباء العظام الذين أزورهم باستمرار.. وهم يشرحون لي أسباب الآلام التي أعاني منها في المفاصل وفي الظهر والرقبة.. لو كنت أدري أنني سأصل إلى هذا الوضع لما سمحت لنفسي أن أنام في غرفة مكيفة، ولما اشتريت سيارة بها جهاز تكييف صالح.. ولكن لو نصحت غيري الآن ورغم تحسن جو الصيف في الإمارات والذي لا أشك فيه.. فمن سيأخذ بنصيحتي ويعمل بها؟ كان البحر في صيف أبوظبي يجذبني إليه، وكنا نمارس السباحة بالقرب من فندق الهيلتون.. ولكن الملاحظة التي سجلتها وأنا أسبح أول مرة أن مياه البحر كانت ساخنة.. ولا أقول دافئة.. ذكرتني بحمامات قرية الحمة السورية الواقعة على نهر اليرموك الذي يفصلها عن الأردن وفلسطين والتي احتلتها إسرائيل عام 1967 كانت الحملة تشتهر بحمامات ذات مياه معدنية متفاوتة السخونة فبعضها دافئ وبعضها في منتهى السخونة. بحر أبوظبي في صيف عام 1971 أعادني إلى حمامات الحمة الساخنة.. ورغم أن الأخ عبدالله النويس «شفاه الله» أكد لي أن سخونة المياه هي فقط على الشاطئ إلا أن شجاعتي لم تصل إلى حد النزول إلى البحر من قارب أو مركب يمخر بحر الخليج المليء بأسماك القرش. كثيراً ما كنت أرى رفاق صيد السمك ينزلون من القارب إلى عرض البحر ليستمتعوا بالسباحة دون أي خوف من تلك الوحوش التي تظهر أمامنا أحياناً فأحسدهم على شجاعتهم دون أن يغريني ذلك بالنزول مثلهم إلى أعماق البحر رغم حرارة الجو وعدم وجود المكيفات في القوارب.. مما يجعل المياه مثيرة إلى حد الاندفاع. لذلك لم أكن من عشاق الرحلات البحرية وخاصة رحلات الصيد في فصل الصيف.. حتى عندما كنا نذهب إلى جزيرة الحنيورة صيفاً فقد كان الإبحار قبل الفجر هو النظام السائد.. وكانت عودتنا لا تتأخر عن التاسعة صباحاً. ذكرياتي مع الصيف الأول في أبوظبي محفور على جدار القلب.. وهي بعد هذه السنين الطويلة تطل علي بأبهى صورة وأجمل شكل.. رغم ما فيها أحياناً من معاناة.. كما حدث في ظهر يوم من أيام صيف أبوظبي عندما انفجر أحد إطارات السيارة ونزلت محاولاً تغيير ذلك الإطار بنفسي مندفعاً بروح الشباب والقدرة على التحمل.. ولكنني ما كدت أنتهي.. حتى أدركت أنني أصبت بضربة شمس جعلتني أقضي الليل كله في المستشفى المركزي.. وبالطبع في غرفة مكيفة.. ولكن لا أنسى أيضاً أن استوديو الإذاعة كان يجذبني إليه صيفاً نظراً لجودة التكييف.. والذي تصل البرودة فيه إلى حد الشعور بالبرد.. بينما كانت الأضواء المسلطة علينا في استوديو التليفزيون تشعرنا بالحرارة رغم قوة البرودة التي تنتجها المكيفات المركزية لذلك الاستوديو. أعود إلى السؤال الذي طرحته في البداية.. هل أصبح طقس الصيف الآن أقل حرارة من فصل الصيف في السبعينيات؟ أم نحن الذين تغيرنا؟ أحتاج فعلاً إلى إجابة خبير من خبراء الطقس في الخليج.. أو إلى إجابة واحد ممن كانوا معي في أبوظبي في ذلك الزمن الجميل. خليل عيلبوني
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©