الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نون النسوة في عنفوانها العالي

نون النسوة في عنفوانها العالي
16 فبراير 2011 19:14
الزمان: 1982. المكان: مخيم عين الحلوة في مدينة صيدا اللبنانية. الحدث: الاجتياح الإسرائيلي للبنان. الإسرائيليون على باب صيدا... الإسرائيليون في صيدا... تسقط المدينة... يسقط المخيم... تسقط الأحلام الكبيرة على أرضية الملاجئ لتبدأ أحلام أخرى في ضوء الشمس... يخرج الناس ليتفقدوا تحت ضوء النهار خساراتهم وشهدائهم ويلملموا قتلاهم وأحزانهم و... عطب أرواحهم. يوم... يومان... وفي اليوم الثالث يعتقل الرجال كل الرجال الفلسطينيين من سن 14 إلى سن 60... لا أحد في المخيم سوى النساء والأطفال والعجائز و... بيوت مهدمة وحياة مخربة ودمار شبه شامل. بيد أن الحياة لا تتوقف ولا تعترف بمن يكتفي بالوقوف في مكانه... الحياة لا تعرف إلا التقدم للأمام تاركة وراءها كل شيء: القتلى والأحلام الصرعى والأزمنة الرثة وتشرع في العمل... لهذا كان على النساء أيضاً أن يشرعن في العمل... كان عليهنَّ أن ينهضن حاملات نون النسوة على وعي جديد ودور جديد لم تألفه... في غيبة الرجال لا تبدو الأمور سهلة إلى هذا الحد لكن إرادة النساء لا تعترف بأي مستحيل وتستطيع أن تبني في أكثر الظروف حلكة وعتمة “ممكلة النساء الحلوة” المفعمة بضوء الحياة. تلك هي القصة التي تخبرنا إياها المخرجة اللبنانية من اصل فلسطيني دانا أبو رحمة عبر لغة الضوء والصورة والدهشة الطازجة الآتية من زمن عتيق، له حضوره وخصوصيته في الذاكرة الفلسطينية بوجه خاص وذاكرة العرب بشكل عام، زمن كان كل ما فيه (فلسطينياً على الأقل) يدعو إلى الفرح ويبشر بالأمل ويرفع راية الحياة عالياً... عالياً... كما ينبغي للحياة أن تعاش. حكاية فريدة بهدوء النساء المعتاد، بمرحهن الضافي، بحزنهن المتواري خلف عيون تهاجر الى الشمس، بأرواحهن الباذخة في جمالها، تحكي نساء دانا ابو رحمة في فيلمها “مملكة النساء: عين الحلوة” حكاية الوطن والمخيم والمرأة الأجمل من نسيم صيفي يأتي على حين غرة، فيشيع البرودة، ويرطب جفاف الأيام، ويروي ذلك النبع الخالد الذي يسمى الحلم... نعم، الحلم الذي نسجته دانا بألسنة النسوة اللواتي عرفن مرارة الاعتقال وفقدان الحرية لكنهن صنعن طاقات فرحهن الشخصي ليطللن منها على الوطن من شباك المعتقل. في عالمهن المصاغ بعناية شديدة، في تفاصيلهن المفرودة على السرير، في ذكرياتهن العتيقة التي بعثتها دانا من أعمق أعماقهن، اختبرت هؤلاء النسوة معنى ان يكون المرء حراً، حراً تماماً من سطوة الاحتلال أو أي سلطة أخرى، ومعنى أن يكنَّ قادرات على اجتراح أفعال لا يقوم بها في العادة غير الرجال فيكسرن احتكارهم لكل شيء بما في ذلك القدرة على النضال بدءاً من شكله اليومي والعادي وانتهاء بالكفاح ودخول المعتقل. حوارات مع ثلاثين امرأة من أحياء مختلفة وأعمار مختلفة وتجارب مختلفة بعضهن عرفن السجن وبعضهن ناشطات سياسياً او اجتماعياً أو عاملات في مجالات مختلفة لكن اللواتي ظهرن على الشاشة سبعة هنَّ: خديجة عبد العال، عبلة حسن، صبحية موعد، أمل شهابي، رجاء شبايطة، حليمة شناعة، نادية زعتري، مع ذلك بدا للمشاهد ألا بطل للفيلم بل برزت البطولة جماعية رسمت خيوطها وجوه نساء المخيم كلهن، ولم تكن هؤلاء النسوة سوى نماذج أو عينة لذلك الألق الاستثنائي الذي تتحلى به المرأة الفلسطينية في الظروف الاستثنائية ثم عندما تعود الأمور الى طبيعتها يتغير الحال، تعود المرأة الى الهامش وتعود النظرة الذكورية الى دورها ومكانتها. في المشهد الختامي، تصعد الكاميرا إلى وجه المرأة التي ترتّب الحلي على السرير، وهي تروي فصولاً من أعمال النساء داخل السجن الإسرائيلي. كأن المخرجة تقول إن من يتحرر مرة يتحرر وإلى الأبد، واللواتي كسرن الخوف من سجانهنَّ السياسي كسرن في الوقت نفسه الخوف من سجانهنَّ الاجتماعي وخرجن من سجن الرواية النضالية الفلسطينية التي لا تمنح عادة للنساء سوى القليل من متنها... وها هي دانة ابو رحمة تمنحهنَّ المتن كاملاً ليروين فيه حكايتهن الفريدة، ليضئن تلك العتمة الباهرة التي أضاءتهن من الداخل ودفعت بهن الى معترك مجتمعي وسياسي غير مسبوق. وها هنَّ، علانية وأمام الكاميرا، يستعدن ذكرياتهن عن أيام أيام الحصار بلغة جارحة ظاهرها القوة والتحدي والصلابة وباطنها العذاب والوحشة وثواني لا يبدو أنها تسير قيد أنملة بالنسبة لهؤلاء النسوة اللواتي ينتظرن على أحر من الجمر عودة الرجال الغائبين أو الخلاص من عتمة السجن الذي خيم عليهن... يحكين عن كل ما فعلنه في غيبة الرجال وعن قيامهن بالمسؤوليات كلها، داخل المنازل وخارجها بكل ما يعنيه هذا من صعوبات تدبير العيش وتدبير الحياة في وقت صعب. يتسع الألم فتضيق العبارة ويتعطل الكلام لتبدأ العيون في الحكي: بالنظرة، برفة الجفن، بالدمعة الواقفة على الأهداب تأبى الهطول، بالأيدي التي تمسح على متعلقاتهن الشخصية: أساور، اقراط، خواتم، رسائل متبادلة بينهن وبين أزواجهن المعتقلين، وبراويز تحمل صور الأحبة يزينها التطريز الفلسطيني الذي لم ينج هو الآخر من السرقة، سرقه الاحتلال كما سرق فلذات أكبادهن ورجالهن ونسبه إليه، في محاولة يائسة لزرع جذور له في أرض لا تعترف به وتأبى أن تمنحه ولو كسرة من الفخار أو قطعة من ثوب مطرز. الناجي الذي نجا يمتزج الحكي بالضحك، بالتعليقات الساخرة، بالذاكرة التي تحرث فيها المخرجة لتخرج مخبوءاتها الثاوية. يعلو السرد، يتوتر المشهد، يرف جفنها، تدمع العين، و... يطلع ناجي العلي. بهياً كعادته، يملأ الشاشة كما كان يملأ صباحاتنا برسوماته تلك. تتشكل النسوة بالأبيض والأسود، تعيد رواية ما خفي من الحكاية القديمة/ المتجددة. هذا مكان مناسب جداً ليبرز ناجي العلي. ليدلي بشهادته الحية... ومن غير ناجي يستطيع أن يحكي عن النساء... ألم يشتعل بهنِّ ويشعل رسوماته بجراحهن وصبرهن وصمودهن البطولي... ألم يؤسطرهنَّ ويعليهن على كل جرح؟. هكذا يكتسب ناجي العلي بعداً ضافياً... لطالما كان الشاهد الحي على ما يجري، الشاهد الذي لم يخرس ولم يصمت أمام كل محاولات إسكاته... ها هو يخرج من قبره حياً يرزق، ليوثق روح المخيم وينتصر لنسائه وصبرهنَّ الطويل. ها هو يمنح دانا أبو رحمة جمالاً مغايراً ولا يبخل عليها حتى وهو ميت بما يجعل فيلمها أكثر من مجرد وثيقة تاريخية تطوف بنا في زمان ومكان محددين. كأنه بحضوره من الموت يأخذنا الى عوالمه البرزخية، فوق الزمان والمكان، ليسجل تلك اللحظات المنسية ليدفق فيها الحياة ويخرج مطموراتها من النسيان... فيما تتحرك رسوماته في المشهد لتختزل تفاصيل سياسية كثيرة لم يعد من مبرر لروايتها فاسحة المجال للمخرجة لكي تقول الهم الاجتماعي الذي تسعى وراء إبرازه. لقد وفرت عليها رسومات العلي الكثير من الكلام والشرح والسرد وحمتها من النفس الخطابي او التحليل السياسي الذي تنطوي عليه افلام من هذا النوع في الغالب ومنحت فيلمها غير قليل من الشاعرية. من هنا، تتسع مساحة الشق الاجتماعي في الفيلم، ويبدو حاضراً في المشاهد التي تؤشر على مقولتها السينمائية الخاصة بدور المرأة وإسهامها الكبير في حركة النضال الفلسطيني في مستوييها: السياسي والاجتماعي. انحياز فني وظفت دانا أبو رحمة الآتية من نيويورك، حيث تابعت دروساً في ما يُسمّى “دراسات الميديا” في “المدرسة الجديدة للأبحاث الاجتماعية” معرفتها السينمائية في تحقيق فيلم يمس شغاف القلوب. مبتعدة عن المفردات التقليدية للفيلم التسجيلي ومنحازة بشكل كامل إلى جماليات العمل السينمائي حققت فيلماً مخدوماً إن لجهة متابعة الفكرة وملحقاتها وتوثيقها توثيقاً بصرياً جيداً، أو لجهة استخدام تقنية تحريك الصور التي نفذتها لينا مرهج، فاتحة السرد الفيلمي على لقطات جمالية جرى تضفيرها في جديلة ذاكروية تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي. بشغفها الأصيل للسينما الذي رأيناه في فيلمها الأول “وقتيش” تواصل المخرجة في فيلمها الثاني الحكي عن النساء، تتوغل في ثنايا أرواحهن وزوايا عتماتهن لتؤرخ للحياة الإنسانية في واحد من أكثر الأماكن غنىً باليوميات النضالية، حاديها ودليلها رغبة مؤرقة في داخلها من الصورة التي يقدم بها الفلسطيني: صورة الضحية التي حرصت هي على الخروج منها، وكسرها، وتقديم الصورة الأخرى الحقيقية والغائبة للفلسطيني الذي يكافح ويصمد ويقاوم بكل السبل المتاحة، لذلك - تقول دانا - “اخترت هذه التجارب لما تتوفر عليه من القدرة على اختبار الشجاعة وممارستها ولما تتحلى به من نفَس إنساني قوي”. ها هنا فصل الخطاب كما يقال، فقيمة هذا الفيلم لا تكمن فقط في استعادته البصرية لحكاية منسية وغائبة وبث روح الحياة فيها، أو تسجيل لحظات الضوء الهائل التي تجتاح النساء في أوقات الأزمات فيضيء جمالهن الداخلي كل ما حولهن ويأخذن الحياة بكل قوة... بل بكل قدرتهن السحرية الهائلة على صنع الحياة فيما حولهن تماماً كما يفعلن في أرحامهن. يتقدمن بكل صلابة ممكنة الى عنفوانهن العالي ليخلقن من الدمار والخراب حياة كاملة أو مملكة كاملة، ومن دون أن يعني ذلك الانتقاص من قيمة المعطيات السابقة، فإن قيمة الفيلم تكمن في ذلك النشيد الإنساني الرفيع الذي رددته كل مفرداته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©