الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ساعات أقوم الصبح...

ساعات أقوم الصبح...
16 فبراير 2011 19:10
الشعب يُريد: إنه النشيد القادر الهادر، النشيد الفريد. الشعب يُريد: إنه النشيد القوي الأكيد، الماهر المنتصر، الحقيقي، الرئيسي، الـمُلِّح، المهم، صوت الجميع، والصوت الوحيد. الشعبُ يُريد: إنه النشيد الأبدي واليومي والمستقبلي، واللانهائي.... الشعب يُريد: إنه النشيد المتجدد، والذي لا يموت، ولا يُدفن، ولا يُصادر، إنه الصوت القوي، فحين يتدفق يكون الجمال، وحين يتحقق يكون الجلال، ويفعلُ ما يريد. الشعب يُريد: وأحسب أنهم قلة أولئك الذين كان بامكانهم بسهولة ترك جهاز يسمونه: “ريمونت كنترول” (أظن بأن هذه اللفظة تعني: جهاز تحكم) “التلفزيون” أو “التلفزة” أو “التلفاز” (ما تزال مجمعات اللغة العربية محتارة بين هذه الألفاظ) مُنذ الأيام الأولى التي اندلعت فيها المظاهرات المصرية. فنحن المعتادون على المسلسلات الرمضانية البليدة، فات أغلبنا المتابعة الجيدة لمسلسل ثورة الشباب التونسي العظيمة، ولعلَّ من فاته ذلك المسلسل الرائع يندم الآن على عدم متابعته كمسلسل من انتاج “تلفزيون الواقع” الحقيقي: أم البو عزيزي وأخواته كشخصيات رئيسية في هذا المسلسل، وذلك الكبير في السن وهو يمسِّد على شعره الأشيب ليقول: ...قد هرمنا، هرمنا كثيراً ونحن ننتظر هذه اللحظة، والذي نزل من بيته في آخر الليل، وبالثياب التي كان يرتديها، وصرخ وحيداً، هو وأشجار الشارع: الحرية للشعب التونسي. الحرية لتونس. مشاهد بالتأكيد ستصيب كل من لم يُتابع ذلك المسلسل الجيد بالندم. وسيحس بأنَّ عليه ومنذ اليوم متابعة مثل هذه المسلسلات الجيدة، والتي لم يسبق عرضها من قبل على شاشة التلفاز العربي. الشعب يُريد: ودائماً ما كانت مصر أم الفن قابلة لاستشعار الجمل الفنية الكبيرة، فتأخذ هذا اللحن من المسلسل التونسي لكي تحوله إلى سمفونية عظيمة تختلط فيها عظمة الدعاء، بهدير النشيد، وبالأغنية التي تعذبت من الفراق: قولوا لعين الشمس ما تحماشِ لحسن حبيب القلب صابح ماشِ من أية عذابات خرجت هذه الأغنية الموجوعة؟. هُنا، ومن انثيال هذا التداعي، ومن كلام يدي التي لا تكاد تفارق جهاز “الريموت كنترول”، تظهر على سطح ذاكرتي، أغنية لطالما ترددت في داخلي وطوال هذه السنين. الأغنية تقول كلماتها: ساعات أقوم الصبح قلبي حزين أطل برّه الباب ياخذني الحنين اللي اشتريته انباع واللي لقيته ضاع وفات لي الأنين ... وأرجع وأقول لسَّه الطيور بتحن والنحلايات بتطن والطفل ضحكه يرن مع إن مش كل البشر فرحانين. لمن هذه الكلمات؟ لشخصية “خرافية” مصرية (الخرافة هُنا تعني ما هو أكبر من العظمة)، ولقد أنجبت مصر العديد من الشخصيات “الخرافية”: أنجبت سيد درويش، الذي ورغم موته صغيراً ترك انتاجاً موسيقياً مؤثراً لم تنجزه الأمة في قرون. طلعت حرب، البنكي، الصناعي مطلق السينما، وطه حسين الأعمى، مرتب تعميم التعليم، وإعادة قراءة الروح، و...، القائمة لن تتوقف. فسيد مكاوي، الشيخ سيد، ما يزال ـ في مخيلتي ـ يحتضن العود ويغني: ليلة امبارح ما جانيش نوم واحنا لسة في أول يوم... تلك الأغنية التي قالها الشاعر نفسه الذي كتب “... ساعات أقوم الصبح قلبي حزين”. إنه صلاح جاهين، البدين، رسّام الكاريكاتور الناقد والمدهش. الذي يفيض محبة لا تنبع من جسمه الثخين فقط، وإنما من روح طمي نهر كبير كالنيل، والذي يتحلى بحكمه (ترجمها في رباعيات شعرية مدهشة تلهج به ألسن الأجيال) هي في الأساس، من دوران الكواكب والنجوم وخطة السماوات في رسوخ الأهرام. و... - “ساعات أقوم الصبح ...”. كتبها جاهين، مع أغنيات أخرى لفيلم يوسف شاهين: “عودة الابن الضال”، وغنتها المغنية اللبنانية، والتي كانت شابة جداً وقتها، السيدة: ماجدة الرومي. أنا وبضعة من أصحابي كنا وقت تعرفنا على أفلام شاهين وصلاح جاهين، ما زلنا طلاباً في بداية الثمانينيات في جامعة الإمارات (العين)، وحينها كنا ملتهبين جداً بالروح التي يوقدها الشباب، وكان “الثقافي” المختلف هو ما اختاره بعضنا أمام الخطاب السياسي، الذي كان ينسحب بضعف أمام صعود التيارات الإسلامية وقتها، والمؤيدة من السلطات العربية...، فالثقافي مدهش: الشعر، فلنكتب شعراً جيداً، المسرح فلنمسرح الحياة، الغناء فلنغني، والسينما، فلنرى... وكانت من العوالم السينمائية التي راقت لنا ـ أولي أنا تحديداً ـ العالم الذي يقترحه يوسف شاهين. أعجبت بـ “باب الحديد”، وفتنني فيلم “إسكندرية ليه”، إلا أن فيلم “عودة الابن الضال” أثَّر بي كثيراً، ولأكثر من سبب، شخصي وغير شخصي، ومشهد الشباب الجامعي وهم طالعون من الدروس بالسيارات، ووقفة ماجدة الرومي الفتاة اللبنانية في وسط السيارة، تلعب الريح بشعرها، والشجن بصوتها، وهي تصرخ: ـ الشارع لنا... بينما يرد عليها أصحابها الغاضبين بقوة حماسة الشباب، والمجمعين على تجاوز تردد هذه المرحلة الحرجة من العمر، نحو خيار واضح، معتبرين بمطلع الأغنية “الشارع لنا”، أن روحهم الفتية قادرة على تغيير العالم، وتستحق أن يتاح لها ذلك. ـ الشارع لنا... تُغني الرومي، وهي منطلقة في الشارع ومعها أصحابها وصاحباتها. إنهم ماضون لتغيير الكون. فالشباب، وخصوصاً شباب الجامعات، هم الذين من المفروض أن يشكلوا يوميات المستقبل، ومفردات الانطلاق نحوه. يُقال بأن للجامعات “حرم”، ولكن السلطات العربية بالذات انتهكت هذا الحرم بمختلف السبل، فالأمن المدسوس أكثر من الطلاب، والأساتذة المختارين من النوع الرديء إلى الدرجة التي لا يستطيعون فيها تعليم أنفسهم. المدرسة والجامعة عندما لا تكون مساحة حرة لتداول المعرفة، فأنَّ كل المجتمع بالتالي لن يكون أبداً ساحة حرة لتداول الحياة.... الشعب يُريد تغيير المدارس والجامعات، والشعب يُريد... الشعب يُريد: نشيد ينبغي أن يسمع على الدوام، وينبغي أن يسمع جيداً. الشعب يُريد: نشيد قد ينساه البشر لفترة طويلة، ويرددون الأناشيد الهزيلة، أناشيد التباكي على الماضي، أو أناشيد قذف الأعداء بالحجارة من على المنّصات الوثيرة، والتي ستجيء بعدها وليمة “بوفيه”. نشيد قد يتجنبه بعض البشر المريض، ويفضلون عليه الأناشيد المريضة مثلهم، والذي تمدح هذا وتهجو ذاك، وتفخر بالأنا الفارغة، وبجوع القبائل إلى الحروب الصغيرة، وبما تبدعه مخيلة التسول الموزونة. الشعب يُريد: ولفيلم “عودة الابن الضال” كتب صلاح جاهين قصيدته التي مطلعها: “ساعات أقوم الصبح...”، والتي يقول فيها أيضاً.... حبيبي سُكَّر مُر، طعم الهوى، فرَّق ما بين البين، ما عدناش سوا. حرام عليك يا عذاب نبقى كدا أغراب دا الحب جرح مالوش دوا.... وأرجع وأقول، لسه الطيور بتحن، والنحلايات بتطن، والطفل ضحكه يرن، مع إن، مش كل البشر فرحانين...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©