الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بلجيكا··· الدولة السريالية

بلجيكا··· الدولة السريالية
19 ديسمبر 2007 01:40
عرف الفنان التشكيلي السريالي البلجيكي ''رينيه ماجريتي'' بلوحته الشهيرة التي رسم فيها تفاحة ثم كتب عليها عبارة ''هذه ليست تفاحة''· ثم كرر ''رينيه'' الأمر نفسه في لوحة أخرى رســـم فيهـــــا غليونـــاً· ولـــيس مستبعـــداً -لو قدر له أن يعيش حتى اليوم- أن يرســم لوحــة ثالثة لبلاده ثم يكتب عليها عبارة ''هذه ليست دولة''· فعلى رغم مـا تبدو عليــه هذه الدولة الأوروبية من رخاء وجمال، وعلى رغم كثرة مؤسســات الاتحــاد الأوروبي فيهــا، إلا أنها ظلت عاجزة عن تشكيل حكومــة خاصــة بهــا، بسبب عدم تمكن شعبهــا البالــغ تعدادهــم ما يزيد على العشرة ملايين نسمة بقليل من تحديــد الدور الذي يجـــب أن تؤديـــه الحكومة في بلدهم· وبطريقتهم الخاصة المتجهمة، ظل البلجيكيون -الذين تتحدث غالبيتهم اللغة الألمانية بينما يكثر بينهم المتحدثون باللغتين الهولندية والفرنسية- يثيرون سؤالاً دقيقاً حساساً: هل لا تزال أوروبا ما بعد مرحلة الحداثة، بحاجة إلى دولة صغيرة نسبياً مثل بلادهم التي كان قد جرى توليفها على نحو ما في عام ،1830 بحشد مجموعات شتى من السكان الذين يكرهون بعضهم بعضاً؟ وفوق ذلك، هل يحتاج هذا البلد الذي يدار اقتصاده إلى حد كبير بواسطة البنوك المركزية الأوروبية التي تسيطر عليه عملة اليورو، إلى حكومة حقاً؟ كان المعلم ''جيريه سكس'' قد أشار إلى بلاء بلاده بلجيكا، بمن فيها ملكها المشغول المهموم، وديونها المتصاعدة يومياً، بعرضها للبيع في المزاد العلني عبر موقع ''إيبي الإلكتروني''· وبالفعل بلغت المزايدات عليها ما وصلت قيمته إلى ما يقارب الـ15 مليون دولار· كان ذلك في اليوم رقم مائة من الأزمة السياسية التي تمر بها بلجيكا· أما اليوم فهاهي الأزمة نفسها تقارب بلوغ المائة يوم الثانية· وللمفاجأة، فقد بدت حتى السياسة الإيطالية نفسها أكثر استقراراً؛ ذلك أن هذه الدولة الصغيرة بدت أشد صعوبة من أن تحكم، فهي تتألف من ثلاثة أقاليم، تضم ثلاث مجموعات تتحدث لغات متباينة، لا تنسجم مع بعضها البعض، بينما تسودها حمى الخلافات البرلمانية· وإلى ذلك تتحدث عاصمتها بروكسل اللغة الفرنسية، في محيط من مجموعات الفلاندر المتحدثة باللغة الهولندية· وإلى جانب قوة النزعة الوطنية الفلمنكية فيها، فقد عرفت بلجيكا بتاريخ مترع بالصراع والاضطرابات· ولذلك فما أصعب تشكيل حكومة فيدرالية في ظل هذه الخلفية الاجتماعية السياسية الثقافية المعقدة· فقد استعصى الأمر فعلاً على ملكها ''البرت''، وعلى رئيس وزرائها ''جاي فيرهوفستات''، الذي أعاد تعريف معنى ''انتهاء ولايته'' بقرار ''البقاء'' والاستمرار في أداء منصبه· ولو كان الفنان رينيه حياً، لرسم صورة شخصية لرئيس الوزراء هذا ثم كتب عليها عبارة ''ليس هذا زعيماً مغادراً''· وهذا ما يدعو إلى الاعتقاد بأن للسريالية حضورها الكثيف في الحياة اليومية البلجيكية· كانت صحيفة ''لو سوار'' اليومية الناطقة باللغة الفرنسية، قد نشرت إحدى مقالات الرأي الأسبوع الماضي جاء فيها: ''ففي كل جبهة من الجبهات، ترانا نطلق العبارات النارية ونحتقر ونتهم بعضنا بعضا''، لكن ومع ذلك، ظلت الشوارع على هدوئها اليومي المعتاد، منذ الانتخابات العامة التي جرت في العاشر من شهر يونيو الماضي· ومن وراء سحب الأزمة الحالية، تلوح بوادر رغبة شعب الفلاندر في أن تبلغ هذه الأزمة ذروتها وساعتها، أما حزب ''فلامس بليجان'' -حزب المصلحة الفلمنكية- الانفصالي الذي قاد حملة قوية ناجحة حتى الآن ضد الهجرة، فهو ليس سوى تعبير عن تلك النزعة الانفرادية المهيمنة على الفلمنكيين· وبالفعل فقد تزايدت خلال السنوات الأخيرة مطالب الفلمنكيين بإرخاء القبضة المركزية، رافعين خلال مطالبهم هذه، مشاعر انعدام الثقــة في الحكومــة المركزية إلى حد تسميم الأجواء السياسية· وهذا ما حمل ''كارولين ساجرز'' المتخصصة في العلوم السياسية، على أن تؤكد لي قناعتها القائلة بحتمية تفكــك بلجيكــا في نهايــة المطاف· أما في حال استمرارها موحدة ومتماسكــة كمــا هي عليه اليوم، فما ذلك إلا بسبب أن العاصمة بروكسل، التي لها كثافــة سكانيــة تعادل نسبة 10 في المائة من إجمالي السكان، بينما تبلغ مساهمتها في إجمالي الناتج المحلي حوالي 20 في المائة، هي من الاختلاط وتعقيد التركيــب، بحيــث يصعـــب تفككهــا· وهــي في هذه الخاصية الشديدة التعقيد والتماســك النزاعي، شأنها شأن عواصم بلدان أخرى مثل بغداد وسراييفو· غير أن بروكسل تختلف عن هاتين العاصمتين الأخيرتين في شيء واحد جوهري، هو تفاديها للعنف وإراقـــة الدماء، كما تتسم أيضاً بكونها مقراً للمفوضية الأوروبية· يذكر أن الاتحاد الأوروبي قد نبذ العنف وقلل مخاطر نشوب الحروب في بلدانه؛ غير أن بلجيكا لا تزال تواصل تمزقها الداخلي، على رغم لقاء القادة الأوربيين الأخير، بهدف التوقيع على معاهدة ''ليزبون'' التي تهدف إلى تنصيب رئيس للاتحاد يتولى إدارة مهامه لمدة تصل إلى خمس سنوات، إلى جانب اختيار وزير خارجية أوروبي، وإنشاء آلية ناجعة لاتخاذ القرارات داخل الاتحاد· على أن استتباب الأمن في الاتحاد يقلل كثيراً من مخاطر الأزمة البلجيكية هذه، بما تشير إليه من زعزعة وعدم استقرار· ومن رأي ''أليكس سالموند''، رئيس وزراء اسكتلندا، أنه ربما كان الحل الأمثل للأزمة البلجيكية الراهنة، هو أن تكون دولة صغيرة، في إطار كيان اقتصادي أوسع نطاقاً، ومنطقة تجارية خاصة· غير أنــه لا يزال صحيحــاً تساؤل البلجيكيين عن مدى حاجتهم لتشكيل حكومة خاصة بهم أصلاً، وهذا ما يدعونا للاعتقاد السريالي بعدم وجــود أزمة سياسية في بلجيكا! كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة نيويورك تايمز
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©