الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحياة.. فوق رماد المتنبي

الحياة.. فوق رماد المتنبي
19 ديسمبر 2007 00:26
لا يزال المتنبي مالىء الدنيا وشاغل الناس، إن لم يكن بشخصيته الملغزة فباسمه الذي تحول دلالة على كل ما يؤشر الى الثورة والرفض، منذ أن تخلى الشاعر عن لقبه الأثير لصالح الشارع البغدادي العريق لم تكف المفارقات عن الحدوث: المتنبي محطة المثقفين في أرض الرافدين، المتنبي موئل الكتب الممنوعة التي تكفي حيازتها لاستباحة دماء حامليها، وبعد أن حل الموت ضيفا ثقيل الوطأة على بلاد بابل، صار المكان المضرج بالشعر هدفا لأعداء الحياة، لكأن المتنبي، شاعرا كان ام شارعا، هو مرادف دائم للصخب الواعد والأحلام المؤجلة· مؤخرا رفعت الحكومة العراقية حظر التجوال المفروض على رواد الشارع يوم الجمعة، فمتى يرفع حظر الأحلام عن المخيلة المبدعة؟ يشكل شارع المتنبي الذي يقع في بداية شارع الرشيد رئة ثقافية في العراق وقلباً نابضاً بالمعرفة والعلم والادب، ولا تأتي أهمية الشارع من كونه سوقاً كبيرة للكتب فحسب بل لأنه يمثل تاريخ الثقافة العراقية من العشرينات الى يومنا هذا، ويعتقد الكثيرون أن للشارع خرائط أخرى غير تلك التي يبدو عليها اليوم الا أن تلك الخرائط محفورة في قلوبنا، فهو يربط بين السراي العثماني الذي اتخذته الحكومات المتعاقبة على العراق مركزأ للحكومة من جهة وبين شارع الرشيد الأثير على قلوب العراقيين من الجهة الاخرى· يقول الكتبي زيارة مهدي وهو شاعر ثمانيني معروف وله مجموعتان شعريتان: ''لقد شاهدت بعيني حريق عائلتي التي انتمي اليها دون مبرر سوى أن الظلاميين يكرهون نور العلم والمعرفة ولذا صبوا نار حقدهم الأسود على هذا الشارع الذي يشكل بوصلة الثقافة العراقية خاصة بعد الانفتاح الكبير الذي شهده الشارع بعد ثقافة الاستنساخ''· ويضيف مهدي: ''كنا في زمن الممنوعات نستنسخ الكتب المحظورة على القراء في زمن النظام السابق ونوزعها على اصدقائنا الذين نعرفهم حق المعرفة لئلا يشي بنا أحد ومع ذلك لم تصب نار علينا كالتي صبت علينا يوم 5/3 حيث أعاد الهولاكيون إنتاج الدمار وخلطوا ماء دجلة برماد المعرفة ودم الضحايا''· عداء أزلي في صبيحة الخامس من آذار من عام 2007 تعرض الشارع الى محاولة اغتيال أودت بحياة ما لا يقل عن 70 شخصاً من رواد الشارع وبائعيه تدمير العديد من المكتبات والمباني· حيث تم تدمير المكتبة العصرية بشكل كامل، وهي أقدم مكتبة في الشارع تأسست العام ،1908 ومقهى الشاهبندر· ويقول الناقد فاضل ثامر: ''يمثل مقهى الشاهبندر واحدا من افضل الملتقيات الأدبية التي عادة ما تجمع شمل الأحبة من الشعراء والكتاب والفنانين· ويضيف: كان هذا المقهى واحداً من المقاهي التي احتضنت الصوت الآخر للحكومة العراقية السابقة وملجأ لأدباء وكتاب كثيرين قارعوا النظام الديكتاتوري البغيض· وشهد المقهى نقاشات حامية بين المثقفين كما شهد ولادة مبدعين جدد ايضاً من كافة الفنون والمسارات الثقافية· الدكتور علي المهرج وهو أستاذ الفلسفة في الجامعة المستنصرية وما زال يبيع الكتب في الشارع، يقول: الذي يعرف هذا الشارع يدرك خطورته تماماً فهو منارة من منارات الثقافة العراقية وهو المكان الذي يتزود منه الأدباء والمثقفون والمفكرون بزادهم وهو المعرفة ولذلك لا يمكن لنا أن نؤشر هذا الهجوم البربري الا على أنه عداءٌ أزلي بين المثقف وبين الظلام الذي يريد أن يكون الوجود مثلما يراه· بارقة تفاؤل ويكمل المهرج الذي لا يخفي تفاؤله بعودة الشارع الى الحياة: أعتقد أن الثقافة العراقية التي انتهكت طيلة خمسة وثلاثين عاماً قادرة على أن تنهض من رمادها خلال وقت قياسي· ويعتقد الشاعر العراقي كاظم الحجاج: أن الشارع تحول الى موروث شعبي هائل في ذاكرة المثقف العربي بشكل عام والعراقي بشكل خاص حتى أن تسمية شارع المتنبي هي تسمية عراقية شعبية وليست رسمية ومن هنا فإنه يحمل في رمزيته روح العراق العفوية المحتفية بغد لناظره قريب· اما الناقد العراقي مالك المطلبي فيرى أن أهم أسباب الهجمات التي توالت على هذا الشارع الشاعر هي تسميته المأخوذة من التراث العربي، ويضيف: التفجير الذي حدث في الخامس من آذار الماضي وقطع أوصال ما يربو على خمسين شهيدا شكل حافزا اكبر لمزيد من الإبداع· ويكمل: في اعتقادي أن مشكلة الشارع تكمن في تأريخ التسمية التي حددت مصيره معللا ذلك بأنها تشير للحرية والمعرفة التي استهدفها التدمير· من المتنبي إلى القشلة بعد أن اطفأ المجرمون الكرنفال الاسبوعي في شارع المتنبي الذي خبا وهجه بعد تفجيرات الاثنين الاسود اضطر الكتبيون الذين يعيشون على هذه المهنة الى الارتحال· فانتقلوا الى ساحة القشلة ليؤدوا مراسيم طقوسهم الثقافية التي تتمثل ببيع الكتب وشرائها من قبل المثقفين، حتى إن أحد المسرحيين العراقيين وهو شفيق المهدي قدم مقترحا الى الحكومة العراقية ببناء أكشاك صغيرة توزع على الكتبيين الذين لا يملكون مكانا يعرضون فيه بضاعتهم، إذ يعرض هؤلاء بضاعتهم على الرصيف بعد أن يكسوه بورق الجرائد أو علب الكارتون الفارغة· مسرحية فوق الرماد كان يوم جمعةٍ غائما وحزينا حين تجمعت مجموعة كبيرة من أدباء بغداد ومثقفيها ليمارسوا طقوساً حزينة فوق رماد الشارع ليقرأوا قصائد تدين العمل الإجرامي الذي حاول النيل من كرامة كلماتهم وقدسية المعرفة· فقدم المخرج المسرحي والشاعر جبار محيبس مسرحية من المنودراما تتحدث عن عذابات الشارع كان هو بطلها الوحيد، فاعتلى عمارة لم يسلم منها الا هيكلها، كان هذا الهيكل يعود الى مطبعة ابن عربي الشهيرة، مرتديا صندوقا خشبيا فوق رأسه بمثابة تابوت في إشارة الى انتهاء الحياة الثقافية فى هذا الشارع· بعد ذلك صعد على إحدى السيارات المدمرة وتساءل: ''كيف يصبح شكل ولون وطعم القصائد وسط شلال الدم المتدفق من جسد المعرفة المزركش بالشظايا؟''· أما الشاعر سلمان داوود محمد فقد بدا في ذلك اليوم على غير عادته تماماً فأوقد شموعا لأرواح اصدقائه الذين راحوا ضحية التفجير ثم أحرق قميصه احتجاجا على النار التى التهمت الثقافة· أربعة ايام وفي ذلك اليوم الكئيب قدم الشعراء العراقيون أصبوحة شعرية، لتكون صرخة احتجاج بوجه الظلام فاعتلى عريف الحفل الصحفي توفيق التميمي ظهر إحدى السيارات لتكون منصة الجلسة ليقدم كل من الشعراء كريم شغيدل، احمد عبد الحسين، ماجد موجد، واحمد عبد السادة وحسن عبد راضي ويوسف المحمداوي ليختتم الجلسة الشاعر والاعلامي عبد الزهرة زكي بقصيدة عن المتنبي والحلاج ويقرأ بعد ذلك بيان مثقفي بغداد الذي طالب فيه مثقفي العالم بأن يتضامنوا مع محنة المثقف العراقي· وأضاف عبد الزهرة: ''بين حطام شارع المتنبى وحطام المكتبات ونفائسها ومخطوطاتها وليس بعيدا عن أجساد اصدقائنا تحت الركام يقف شعراء بغداد الثكالى منكسرين بين الخراب وزفير الدخان''· ألوان تضيء السواد وفي صبيحة أخرى من صباحات الشارع الرمادية أقامت مؤسسة عراقية اخرى معرضاً فنيا، حيث اتخذ الفنانون من حيطان الشارع مساند للوحاتهم التي عبرت بمرارة عن فجيعة الثقافة العراقية بفقدانها واحداً من اهم المرافق الحيوية التي كانت تغذي الثقافة على اختلاف مساربها لترتفع بين الجدران المحترقة ألوان الابداع· الفنانون المشاركون في ذلك المعرض كانوا سبعة من مختلف الاجيال وهم فلاح الخطاط، موفق مكي، لؤي امين، مهدي صالح، زياد جسّام، نزار فوزي وفؤاد شاكر· ويقول الفنان موفق مكي عن تلك المبادرة: أردنا من هذا المعرض أن نوصل رسالة سياسية مفادها أننا لن نتخلى عن تراثنا الثقافي مهما حاول الظلاميون أن ينفثوا حقدهم ويصبوا نار جهلهم وغضبهم علينا''· ويضيف مكي: ''حين شطرت السياسة الدولية، مدينة برلين، وانتصب جدار فرق بين الانسان الالماني وأحيائه العريقة، التي خلدها، الادب والفن والموسيقى، اخذ الشعب الالماني الغاضب، يحدث على الجدار خربشاته المشاكسة، ويخط فوق خرسانته الصلبة، كلمات الغضب والشتيمة، ومع بقائه، كواقع يومي، ابتكر الشباب البرليني، فناً جديداً لم يكن يعرفه العالم قبل كارثة جدار برلين''· اما الكتبي محمد هاشم (صاحب مكتبة الدار البيضاء) فقال: ''ما أجمل أن تتلون جدران مكتباتنا المحترقة وتضيف لأرواحنا البهجة لكنني أتأسف بشدة على هذه الجهود المبذولة من أجلنا دون أن تتحول الى رغيف خبز في أيدينا نطعمه لأطفالنا الذين ينتظروننا في آخر النهار''· ويقول سعدون هليل وهو صاحب كشك يبيع فيه الكتب الممنوعة في زمن النظام السابق: '' قد ولى زمن الرقيب الفكري على ما نفكر به، لكن الفاشية الجديدة تحاول جاهدة ان تعيدنا الى المربع الاول، المربع الذي يلغي دور المثقف في عملية البناء والتغيير وهذا المعرض الذي اقيم على أنقاض هذا الشارع وكل الفعاليات التي أقيمت فيه كانت صرخة بوجه الضمير الحكومي لكي يتحرك باتجاه تفعيل إعمار هذا الشارع الذي يعني المثقفين أكثر من غيرهم'' · غائب فرمان في المتنبي وضمن نشاطات مؤسسة المدى التي تسميها ''نهارات'' أقامت المؤسسة نهارها بين أنقاض المكتبات المحترقة، حيث قدم المخرج حيدر منعثر عرضاً مسرحياً شارك فيه اساتذة المسرح العراقي ابتداءً من شذى سالم وانتهاءً بسامي عبد الحميد· المسرحية أعدها الكاتب علي حسين عن بعض روايات الروائي العراقي الكبير غائب طعمة فرمان· وشارك في المسرحية التي استمرت ساعة كاملة ثمانية فنانين وهم رواد المسرح العراقي سامي عبد الحميد وسامي قفطان وشذى سالم وشاركهم في البطولة كل من الفنانين رياض شهيد وزهرة بدن إضافة إلى محمد هاشم وجمال الشاطئ وميلاد سري· بعد كل محاولات المثقفين الجادة والساعية الى لفت نظر الدولة لهذا الشارع واهميته الكبرى في الاوساط الثقافية باعتباره تراثاً عراقياً سياسياً، جاءت استجابة الدولة اخيراً وتنفس المهتمون الصعداء فقد أعلنت وزارة الثقافة العراقية عن نيتها إعادة نصب تمثال المتنبي بعد أن يتم إعادة ترميمه· ولكن لم تكن هذه المبادرة هي الاهم، لأنها على حد تعبير احد الكتبيين في الشارع ''كانت هذه المبادرة شكلية، اما الحقيقة فلا احد من وزارة الثقافة يعنيه أمر الثقافة· لكن مبادرة حكومية اخرى من شأنها ان تعيد الشارع الى ما كان عليه، فقد رفع نائب رئيس الوزراء الستار عن جدارية خاصة بشارع المتنبي ووضع حجر الاساس لمشروع اعادة اعماره فيما خصصت امانة بغداد سبعة مليارات دينار (ما يعادل ستة ملايين دولار امريكي) لانجازه خلال 180 يوما·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©