الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في تفكير الفصام

في تفكير الفصام
16 فبراير 2012
الفصام الذي بين الروح والجسد هو فصام ومردّه (أي الطبيعي)، وهو أيضاً فصام بين الروح ومدارها (أي الفلك). حين تدور الأرض تدورُ في روحها أما حينما لا تدور روح الإنسان فإن جسده ينضب، ولا يتفتح كسريرة طبيعة لأنه لا يحدس كموسيقى فلك. وفي تفكير الفصام أيضاَ يحدثُ فراغ بين الإنسان روحاً وجسداً وبين الغير من بني جنسه روحاً وجسداً. بل يحدث فراغ فاصم بين الإنسان والعالم جسداً وروحاً. وككل فراغ يبحثُ فراغ كهذا عمَّا يملؤه، فيزدحم حتى “الجنون السلبي” بالسكاكين والمدافع والراجمات والمنجنيقات. إذ أن كل جماد موفق في حياته لأنّ الجماد اندغام تام واندماج بين الجسد فيه والروح. لا فرق عنده. لا فرق عند الجماد. لا فرق عند حديد الجماد إلا العلاج الجديد، أما البشر أولئك القائمة أعماقهم على المفارقة فلا علاج لهم. كما ولا علاج للبشر في تفكير الوقفة العليا ولا في تفكير النقطة الكبرى إلا أن “عين الجمع: جمع الجمع” هذا حسب المتصوفة. إلا أنّ هذا اللقاء المرعب (والجمال مرعب) بين الجسد والروح هو سفر ونور وإسراء ومعراج. الأسراء كما أفهمه قطع لهوّة المكان. قفز على ظلامها. المعراج أيضاً كما أفهمه قطع لهوة الزمان. قفز في ظلامها. كان الاسراء معجزة في الإسلام لأنه تجاوز للجغرافيا الروحية التي سطرتها القصيدة البدوية (الجاهلية). تلك الجاهلية التي هي طفولة العرب. وكان المعراج معجزة محمدية لأنه تجاوز للتاريخ الروحي لكل الأديان (طفولة العالم). التجاوز والقفز من هُنا لا يسترد الإنسان طفولته. لا طفولة جغرافياه ولا طفولة تاريخه إلا إذا تجاوز الجغرافيا والتاريخ معاً، إلا إذا قفز خارج حدوده. في ظلام الوجود، ما بين العتمة، من خلال كل ما هو ملتبس. إلا إذا أنار عتمة كل ما هو مغلق وسحق المفزع خلف باب الحشد (كما عبر ذات مرّة الشاعر جلال الدين الرومي). وسيكون استهلاكاً هذا التجاوز. هذا القفز. اجلاء الظلام هذا إلا إذا كان كما الصلاة يحدث بدمٍ وآه. قفز الاستهلاك ليس كقفز الهلاك وإنارة العتمة. يعود قفز الاستهلاك إلى الفصام. أما قفز الهلاك والاستشراف فيعود إلى إسراء النفس في جغرافيا الجسد ومعراج الجسد في سماء الروح حتى اللوح. حتى النقطة. حتى الظهيرة. ظهيرة كل شيء. ظهيرته. وظهيرتي الكبرى. الصلاة وقفه. وحين السجود يستدير الجسد ويدور في المدار ولا تعود الجغرافيا إلا “تاريخاً ساكناً” أما حدوث اللوح ولمس الشجرة الكبرى وقيام العرش فما ذلك إلا لأنّ المدار “توقف” كصلاة. إلا لأن كواكب “النفس” انبعثت بأجسادها في المجرّات موسيقى. أنزل. أنزلي أيتها التفاصيل ذات هجعة. انزلي وانصتي إلى صنج الكون. أمَّا لماذا أذاب تفكير الفصام جسدي “حتى غدوتُ أنا والمثال على انشقاق”، فذلك ما يحتاج إلى نظر هنا: المثال يوتوبيا الإنسان وحلمه، وذات حينما / حيثما كان الإنسان بدائياً / طفلاً كان الحلم فيه ويوتوبياه ليست بمنفصلة عن جسده المكان وعن إسرائه الجغرافيا. كان تفتح الجسد في المكان واسراء الروح ـ التي لم تُسد إلى يومها بحصون وأسوار “الثقافة” ـ في الجغرافيا هي يوتوبيا الإنسان وحلمه. وذات يوم حدثَ الفصام الكوني، ورغم أننا لن نستطيع أن نؤرخه بهبوط آدم من الجنة لأن “قَصَص” هذا الهبوط أوغل بكثير مما أردناه لفظاً منفصلاً ليكون تعبيراً على “وضوء” الاتصال. ورغم ذلك فإن تفكير الفصام استقل باليوتوبيا، بالأمثلة وحتى بالقَصص. وما كان رمزاً ومجازاً وسفراً وطقس عبور أصبح في يد التعميم. في يد التأويل الأوحد والوحيد. لم يحتفظ المجاز والاجتياز والسفر إلا بغموض المصير، بالرعب المرتعب منه، أما التأويل الوحيد (المنطوي على عظامه المتهتكة والنخرانة كل مرّة) فإنه في اليوم الذي يشهق فيه يوتوبياه أو حلمه أو شخصه (مدينته الفاضلة) فإنه وفي ذات الآن يزفر تعميمه الجاف والمأكول. الأمر أمر تنفس إذن. ولعلَّ الهنود أو علم النفس الهندي/ الشرق آسيوي فهم النفس من التنفس على اختلاف مع علم النفس الغربي الذي تفهم النفس من اللوغوس (العقل الفعّال والمطلق)، أو بمعنى آخر فهمه من يوتوبياه التي ككل حلم مشوبة بمرايا الفروق، والفروق غيرة على الهوية والهوية مزرعة وضعت للتفكيك. ان الفصام حين استقل باليوتوبيا (بالحلم الفاضل) جعلها روحاً بلا جسد. جعلها الروح التي لا تتجسد. وجعلها روحاً تتجسد بالتسلط، بقوة أن تكون شعاراً لمن يملك. وفيما سبق أشرنا إلى أن تفكير الفصام الميت لا يحيا إلا أنه يملك، في حين الجسد مملوك ويزداد امتلاكه بتفاقم الفصام. ان الروح التي لا جسد لها ميتة. فالجسد ليس بيتاً تسكنه الروح. إن الروح هي مفارقة الجسد. والمفارقة هنا درامية ولا تعني الموت بل تعني الحياة. المفارقة والسهروردي للمفارقة يلتبس اسم الغرب في العربية بالغرابة والغريب والغربة، وهذه المفارقة اللغوية وتلك الغرابة رغم أنها من حيث هي مفارقة، إلا أنها تحقق كذلك، فنحن كعرب ـ مثلاً ـ لا نغترب في الشرق، في “الوطن” العربي، وإنما نغترب في الغرب الذي هو ليس بوطنٍ، كما أن القادم منه مفارق وغريب يحملُ أفكاراً مستوردة، إلا من رحم ربّك. وكما أن “الغرب” (أوروبا والولايات المتحدة وروسيا) ليس بإمكانه أن يكون وطناً فإنه أيضاً الجهة التي تجيء منها الغرابة. الغرابة الإعلامية والغرابة التكنولوجية والغراب “الثقافية”. وإذا ما كان للجن دور أساسي في مفهوم “الغرابة” العربية ـ الإسلامية، فإن الغرابة “الغربية” لا تخلو هي أيضاً من قدرة “الجن”، وإلا كيف بامكان الإنس، من جهة التصور الشعبي في الأقل، اختراع الطائرة. وإذا ما كان الجن يأتون على الأغلب بما هو معجز ويتجاوزون ما يمكن تسميته بـ “القانون الطبيعي” للكون والأشياء والبشر، فإن “الغرب” هو الآخر يأتي بالمعجز تكنولوجيا ورياضياً. وبما أن الغرابة والغربة باب “شري”، فإن “الجن” الغربي أو جنونه (منتهى عقله وعقلانيته وقوننته الوضعية/ غير الالهية) مدخل لفساد الجماعة لأنه مدخل لفساد القرابة، فالوطن يعني تقابلاً مع النفس وانسجاماً، ويعني كذلك تعارضاً مع الغربة، كما أن المعتاد والمعهود والتقليد، وبالتالي “التقاليد” والتراث تعني بالضرورة تقابلاً وتعارضاً مع الغرابة والاغتراب والتغريب. وإذا ما كان لفظ “التغريب” محمل بفعل يُقام به ـ مَنْ يقوم؟ ـ بسابق الاختيار والترصد، فإن الغرابة وأن تكن عالم في كل ثقافة، فإنها وفي الثقافة العربية على وجه التحديد طرف ثنائية تُقام عليها أسس الأخلاق والاجتماع والهوية، ثم أنه في القرية التي ولدنا فيها (= خورفكان) غربنا كجهة جغرافية ليس البحر كمفتوح كعين الكون، وانما الجبل الذي حتى في النهار يظل يخفي خلفه ليلاً وسحرة (جنّ) وبعداً وغرابة. ضربي، إذن ـ لهذا المثل ـ يعني أن الغرب من هذا الموقع الجغرافي/ التاريخي/ الفلكي/ الكوني يتضمن مع غربيته غرابة كما الجبل يخفي (نهاره وليله) غربة من حيث الجهة التي يقع فيها وغرابته بما يخفي من أقوام ووديان وطوفانات مجهولة ومهددة. كما أن الشمس حين تغربُ في خلفه لا تنطفئ كجمرة عن النظر، وإنما هو قبر مؤقت تنام فيه ولا تموت تحت الجفن، وربما هو كبئر “الوثن” ببابه السري الذي إذا ما فتحته غابت الأشياء كي تطفو وتشرق بعد غيبة، هي غيبة جلجامش ـ على سطح البحر. وحيثما تشرق الشمس على سطح البحر فإنها تولد وتلد، ولهذا فالموت ملتبس والغرب، كما أن الحياة على البحر رحلة وشرق واشراق. ان المرء آفل ومسحوبة منه الأرض حينما تغرب حياته كالشمس، أما حين يشرق ويمارس الاشراق فهو ـ ورغم مقتل السهروردي ـ قريب ومندغم في الجماعة، وتلك مفارقة في الاشراق عجيبة خاصة إذا ما تفكرنا بذلك الغروب المأساوي لاشراقي كالسهروردي. الجسدُ بلا وعاء الغريب في اللغة العربية، وذلك لربما لمعٌ من كريستالها العظيم، ان ما هو حي في المفارقة يأخذ فاءه وراءه وقافه من الفارق (الفاصل) ومن الفروق (التعدد) ومن الفراق (بداية الوعي) ومن الذي لا يموت وكل انفصال موت. ألم يقل المتنبي: خرسٌ إذا نودوا كان لم يعلموا ان الكلام لهم حلال مطلق ولذلك فإن الروح هي اختلاف الجسد عن نفسه، دخوله في مراياه، المرايا تتخارج وتتوالد من البدن بفعل احتكاك الروح به، ويتداخل الجسد حين ترد عليه صُوَره وتصاويره، يتداخل و”هو حسير”. وعلى الاطلاق ليس الجسد وعاء للروح، وليست اللغة بوعاء للفكر، فالوعاء يعني أن تضع مادة منفصلة في جماد، وليست العلاقة هنا (بين الجسد والروح، وبين التفكير واللغة) علاقة جماد يُعالجَ ويوضع ويقام ويشال، خضَّ أم لم يُخَضّ، وهي ليست علاقة طرف منفعل (يفعل) بطرف فاعل (لا يفعل) فحسب. اللغة نظام تفكير. لغتك هي التي تفكرك، أما جسدك فهو الذي يروحك (من الروح)، هو الذي يجعل الروح فيك، أما التفكير، تفكير الروح وروح التفكير، فهما ما يغلق ويفتحا كالمد والجزر لغة الجسد منك وفيك. الغامض جوهرة، وإذا لم يشع لا تشتريه واتركه وابحث عما يشع. لا تتوقف عند الذي لا يشع لأنه أنا منسجمة. لأنه حديد، وأنا لست بحديد، ولست أنت بالتأكيد. الانسجام يعني أن أكون مستخدماً ومستهلكاً ومعالجاً. بل وقابلاً للعلاج، للتقويم، وعلى العكس من الانسجام (الذي هو استلاب) تحدث وتكون الغربة والاغتراب. فإن اغترب يعني اتجدد: “فاني رأيت الشمس زيدت محبة إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد” أو كما يقول أبو تمام. وحين اتجدد لن أكون قابلاً للصهر والطرق (ولن أكون طروقا بالتالي) ولكن أين حياة الأشياء. أليس الحديد حيّا. أليست له حياته، إذن لم هذا التعميم. a.thani@live.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©