الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عوالم شيخ التشكيليين السودانيين

عوالم شيخ التشكيليين السودانيين
16 فبراير 2012
صار إبراهيم الصلحي شيخ التشكيليين السودانيين الأوسع شهرة وشعبية بين جيل الرواد بفضل إنجازين: أحدهما وصوله بـ”النَفَس السوداني” الى صالات العرض العالمية من لاغوس وكمبالا الى باريس ونيويورك، ومن كالكتا والدوحة الى بايرويث وسيدني (أكثر من 60 معرضا إضافة الى معروضات دائمة في قرابة 20 من الغاليريهات والمتاحف الفنية العالمية الشهيرة). والثاني هو مسعاه المتصل لإدخال مفردات التشكيل الحديث في قاموس الحياة السودانية نفسها سواء بأعماله التشكيلية المتفردة، أو دروسه كمعلّم رائد في كلية الفنون الجميلة، أو مساهماته الغنيّة في توعية العامة فنيا واجتماعيا وفكريا، وفوق هذا طريقته السلسة الساحرة في إيصال ما لديه الى الآخرين. وباستناده الى هذين العاملين، المحلي والعالمي، صار الصلحي من المؤثرين الفعّالين في تيار الحياة الاجتماعية (والسياسية بالتالي) والإعلامية في بلاده، فتملّك في قلوب أهله مكانة خاصة قلما وصل اليها آخرون. ولهذا كله فهو يستحق بجدارة أن يقال إنه من رموز الثقافة السودانية المعاصرة وكنز قومي يسير على قدمين ويستحق كل ما من شأنه أن يبقي أثره العميق باقيا للأجيال المقبلة. الحديث عن ابراهيم الصلحي الذي احتفل في سبتمبر الماضي بعيد ميلاده الحادي والثمانين ويواصل حياته النشطة على تعدد أصعدتها وبدون أدنى إبطاء في وتيرتها أو إرخاء لزمامها، يدخلك إلى عوالم قلّ مثيلها في حياة فنان وسيرته العامرة. وعندما أصدر التشكيلي والكاتب السوداني فتحي عثمان كتابه “بيت الجاك” عن حياة هذا الرجل المتعدد المواهب والقدرات، سرت في الأجواء الثقافية السودانية رعشة استثارة لأن من شأن عمل كهذا ان يفتح النوافذ الى عوالم عديدة شكلت مسيرته ومساهمته الثرّة منذ بدء حياته الفنية وهو في نحو الثانية عشرة من عمره. أما عنوان “بيت الجاك” الذي اختاره المؤلف فهو اسم أحد ثلاثة برامج تلفزيونيه كان يطل فيها الصلحي في بداية السبعينيات على المشاهدين ويتناول فيها طائفة واسعة من أوجه الحياة والهموم السودانية. وضمن ما يكشفه في هذا الكتاب ما حدث عندما قرر ان يتناول في إحدى حلقاته موضوعا يمس وترا حساسا في المجتمع ويتمثل في الدعارة والشذوذ الجنسي، وردة الفعل التي وجدها من القائمين على أمر التلفزيون ووزارة الثقافة. لكن الموقف بأكمله يلقي ضوءا على نوع التغيير الفكري الواجب حدوثه في المجتمع والذي ظل هذا الفنان يلهث وراءه سواء بريشته أو قلمه أو لسانه. شاهد على عصره الكتاب الواقع في 165 صفحة صقيلة من القطع المتوسط ومطعّم بكمٍّ وافٍ من أعمال الصلحي التشكيلية ومختلف الصور التذكارية، عبارة عن حوار مطوّل أجراه المؤلف مع هذا الفنان في داره بمدينة اوكسفورد، انجلترا. ويتحدث الصلحي في هذا الكتاب عن مختلف مراحل تجربته منذ بداياتها ويتناول تجربته وتجارب بلاده والعالم الثالث بالنقد والتعليق من منطلق العارف المحيط. وعلى هذا النحو فهو شاهد على عصره وحامل مفتاح الباب الى تفاصيل مهمة في تاريخه (تشمل نوع “لتشكيل” الناتج عن الصناعات المحلية والمؤثّر عليها)، والى “الحالة السودانية” عموما وأوجهها العديدة من وجهة نظر أحد الأوائل الذين جمعوا بين التعليمين والتجربتين في السودان والغرب. مما يسوقه الصلحي موضوع مهم في فلسفته الفنيّة بحيث ان المؤلف أبرزه على غلاف الكتاب الخلفي. فهو يجادل بأن الفن والحرفة صفتان متلازمتان لا يمكن الفصل بينهما، وأن بعض الناس يعتقد ان الأفكار الرفيعة هي الفن، بينما الفن هو نفسه لا يكتمل الا عندما تكون الحرفة الجزء المكمل لخليطه. ويضيف قوله: “لو ان العمل غير متقن وضعيف الصنعة فهو لا يرقى الى مستوى (اعتباره فنا). وهما فرسا رهان متسابقان دوما. لو سبقت الفكرة الصنعة تعرج وإذا ما سبقت الصنعة الفكرة تعرج. لا بد من ان يكون الاثنان فرسيْ رهان... لا استطيع ان أفصل بينهما إطلاقا”. دوافع يتحدث فتحي عن دوافعه الى إصدار كتابه هذا فيلخصها في أشياء أبرزها التقصير الرسمي في حق الفنانين عموما وفي حق عمالقة من أمثال الصلحي واختيار السلطة لمن تعلّيه شأنا ومن تهمله... ومنها أن الصلحي، الذي يجد اهتماما دوليا لم تحظ به الا قلة قليلة من الفنانين الأفارقة (من باب “لا كرامة لنبي في وطنه”) لم تتح الظروف لقطاع هائل من السودانيين أنفسهم مشاهدة أعماله رؤية العين. ويقول المؤلف هنا: “لو ان فنانا تشكيليا في مقام ابراهيم الصلحي كان ينتمي لأي بلد آخر حتى ما يسمى “بلدان العالم الثالث” لأقيم له متحف خاص يضم أعماله، احتفاء بمساهمته الكبيرة المتميزة التي تضعه على قدم المساواة مع مشاهير الفنانين التشكيليين في مختلف البلدان والمراحل التاريخية”. المفتاح يحكي الصلحي عن بدايات دراساته الجادة للفنون التشكيلية في لندن فيقول إنه، بجانب الرسم والتلوين، كان مهتما كثيرا بدراسة الخطوط ومستندا في ذلك الى الخط العربي. ويقول “درست الخط الروماني المستدير والخط القوطي، وتعرفت على الخطوط المصرية القديمة ـ الهيروغلوفية ـ وهذه كلها كانت خامات جيدة بالنسبة لنا في مسيرة العمل”. ويحكي عن توقه وقتها للتعرف على حياة “هؤلاء الناس” (يقصد الغربيين عموما والبريطانيين خصوصا كونه في بلادهم). فلم يستبعد شيئا من أنماط حياتهم حتى أنه تعلم رقص الدايفينغ diving على أنغام أغاني الروك آند رول الذي كان في أسلوبا موسيقيا جديدا في ذلك الحين. ويقول إن اهتمامه بالتعرف على حياة الانجليز “ليس لأنهم استعمرونا فترة طويلة من الوقت فهذه مسألة ما كانت تشغلني كثيرا. لكنني كنت مهتما بالجانب الإنساني فيهم كبشر. هل هم بشر أم مستعمرون فقط؟ فوجدت انهم بشر مثلنا فيهم الذكي وفيهم الغبي، فيهم الإنسان المتفتح وفيهم العنصري، عندهم الميزات وعندهم ايضا المثالب. هذا كان مفتاحا وكأنه اكتشاف... إلي أن وصلت المرحلة التي تزوجت فيها منهم”. ويقر بأن إحساسه وقتها كان أن اولئك الناس “سبقونا بالكثير (...) ونعم جئت كطالب كي اتعلم ولكن شعرت بأن عندي شيئا في صدري هنا أحمله عن أهلي وعن حضارة بأكملها.. وهذا ما استطيع منحه لهم وهم لا يملكونه. أنا عندي ما أقدمه لهذا الماعون الدولي. لم آت كفقير يستجدي، أو كإنسان أقل منهم شأنا، وإنما آخذ عنهم ما احتاج وأعطيهم ما يحتاجون عندي”. مدرسة الخرطوم كان ما يُسمى “مدرسة الخرطوم” تيارا تشكيليا اشتد خصوصا في الستينيات والسبعينيات وتصدره الصلحي مع نخبة من ابناء جيله وزملائه. وفي مختصر التعريف السائد به فقد كان هذا التيار محاولة من هذه النخبة لصب ما اكتسبتها من علم وخبرة بصريين في “وعاء سوداني”. وبهذا صارت “مدرسة الخرطوم” المقابل التشكيلي لما يعرف باسم “الغابة والصحراء” التي اشتغلت ـ عبر الشعر في الستينات والسبعينات ـ بالهوية السودانية وانتمائها المزدوج للعنصرين العربي والأفريقي. على أن الصلحي نفسه يقول إن ثمة فهما خاطئا لسبب وجود مدرسة الخرطوم نفسها. وعلى حد قوله فقد كانت “مرتبطة بتجربة ناس درسوا في أوروبا، وحينما حاولوا نقل شيء أوروبي بحت وأقلمته في السودان لم تنجح المحاولة”. ويعتقد الصلحي أن السبب في هذا هو افتقار هذه المحاولة للاستمرارية والأرضية المحلية والقيم السائدة وسط الناس. وتبعا له فلم يكن لها أن تكون عملية “سودنة” (بمعني التناول والتأويل المحليين لمواضيع غربية)، وإنما كانت محاولة لاستخدام العناصر المحلية باستقراء صحيح للخلق الصلة والاستمرارية التي بدأت منذ حضارة وادي النيل القديمة وتعاقبت أزمانها حتى قطع الاستعمار الانجليزي تيارها ليقيم مؤسساته الخاصة على أنقاضها. مساهمة تستحق الاحتفاء يستمد كتاب “بيت الجاك” أهميته من عدة نواح منها التوثيق، في وقت تعاني فيه المكتبة العربية من شح حاد في هذا المجال الحيوي لأي أمة تعلم أن مستقبلها يبدأ مما كان. ولأن الكتاب نفسه عبارة عن إجابات الصلحي وتعليقاته على ما يطرحه أمامه المؤلف، فيمكن القول إن هذا الفنان موضوع الكتاب هو ايضا مؤلفه المشارك. وهذا بالطبع هو ما يضفي المصداقية بأكملها على ما يرد فيه لأنه رواية بلسان المُتحدَّث عنه، ومن هذه الزاوية فيمكن اعتباره “سيرة ذاتية”. ولا نستطيع، في عجالة هذا العرض، مقاومة رمي المؤلف ـ فتحي عثمان ـ بما نعلم أنه لا ذنب له فيه. ويتمثل هذا في أن القارئ يجد، بنهاية الكتاب، أنه لا يزال جائعا برغم الوجبة الدسمة التي تناولها لتوه. وهذا لأن الصلحي نفسه بحر من التجربة والمعرفة ومرآة صافية لزمنه. واليقين هو لو ان الكتاب كان يقع في ألف صفحة لخرج القارئ في ختامه بالإحساس نفسه. هذا عمل يستحق الاحتفاء به وإضافة مهمة للمكتبتين السودانية والعربية ويتوقع المرء ان يتخاطفه السودانيون. لكن الأمل أن يصل هذا الكتاب الى الجماهير العربية العريضة أيضا، لأنه نافذة الى عالم جميل وجزء منها له خصوصية ستدهشها ولا شك. الكتاب: بيت الجاك/ حوار مع ابراهيم الصلحي المؤلف: فتحي عثمان الناشر: مجموعة دال
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©