الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشريشة.. مقبرة المنبوذين.. ظل المتضورين

الشريشة.. مقبرة المنبوذين.. ظل المتضورين
16 فبراير 2012
عند أطراف الجغرافيا، بجوار مأدبة التاريخ، تستجم البقعة الأسطورية محتفية بخرافة الذاكرة الأبدية.. مكان للذين أناخوا بعير العمر، واستراحت أرواحهم من شقاء التحديق في خلاء وخواء تتجلى هناك، في الأرض السبخة، عند ناقلة الغبار المتهاوي على رؤوس المسربلين بالأحلام الموؤودة، هناك يحلق طائر الألم، يطلق نعيقه وزعيقه يحاور فراغات تشوّهت بفعل انعتاق العشاق من صولة التساقي، هناك تتذكر امرأة، فجعت ذات لحظة مباغتة بإصابة بعلها بالجدري، حيث لفّته الجموع بخرقة بالية، ونأت به حيث يرقد المنبوذون، وتستريح أجسادهم على الرمل العاري.. تتذكر السيدة الوقور كيف حدّق البعل الوفي بالنظرة الأخيرة، وكيف غسل محيّاها المكفهر بضوء خافت مبعثه الانكسار المريع، وكيف لوَّح بيد معروقة، ذوى جلدها، وتنافرت الشعرات البيض، ثم أغمض العينين مستسلماً للفاجعة، بقلب مخضوض بالحسرة، وبعد الغياب حاولت السيدة أن تقترب من العينين الذابلتين، بيد أن الناس قالوا لها لا تقترب من المكان، فالجدري داء الموت، ولا دواء له غير الصبر.. ولكن في ليلة ظلماء، ترعرع عشب القلب، ونبت في وجدان السيدة حلم ليلي، استفزها، فاستشاط العقل، ولمحت من بعد يد البعل، تشير ببنان مرتعش، أيتها النائمة على مهاد الوحدة، الروح تطلبك والقلب ينشد قربك، والنفس تستجديك لعلك تأتين لنظرة أخيرة تطهَّرت من لعنة الغياب.. تقوم السيدة، تنهض، تتسلل كسم الخياط في جسد الليل، وتمتطي جناح الرغبة الجامحة، وبسرعة الطير الملهوف تحط عند الحفرة الغبراء، تقف مبهوتة وعيناها تجلدان الجسد المُنهك، بنظرات طوت سجل الأيام، واحتوت ما كان في منافي الليل البهيم، وأجلت غشاوة حتى تعرى الجسد، وانبرى عن مراحل ما قبل الذبول، قالت في شغف: شبيك لبيك، خادمتك بين يديك، بينما البعل يغط في سلام أبدي، وعيناه مفتوحتان للسماء، ويده اليمنى مغروسة في تراب “الشريشة”، واليد اليسرى تضم صدراً خضه خضيض التعب.. تقهقرت السيدة، عادت أدراجها تلف خطوات مهزومة، ونفس مكلومة، وروح مهضومة، والباقيات الصالحات من ذكريات توغل في النحيب المريب، وبصوت عجيب صرخت السيدة احتجاجاً وارتجاجاً على نهايات أشبه بسقوط الأجرام السماوية ثم أردفت كم من الأجساد تنام هنا، وكم من الأرواح تلاقحت هنا وجداً إنسانياً تحتفي بميلاد النخيل، وتفرع العذوق، وتورد خدود النساء عند كل مطلع كائن بشري، يلقي النظرة ثم يشيح منسجاً مبتهلاً لروعة المخلوقات الأنثوية، عندما تمارس ذروة النقاء والصفاء بكل اشتهاء. رحلات في الجبال تعود السيدة، تتذكر كيف كان البعل ينعتها بالغزالة، وكيف كان يتشهى ابتسامتها الخجولة، وكيف كان عندما يعود من الشريشة بعد إيواء شخص مجدور، ويقول هذه الشريشة خلقت للمرضى والأموات، بينما الناس يأوون إليها بحثاً عن ظلال تضيئنا وتهيئنا لرحلات أطول، إلى أعالي الجبال أو عند السفوح القريبة من المقايض.. تتذكر السيدة ساعدي البعل المفتولين، والسمرة اليافعة، ثم تصوم على اندحار يكسر النفس، ويختطف من بياض القلب لُبه.. تعود أدراجها وقد ابتعدت الشريشة، المكان المتحالف دوماً مع السكينة المرعبة. قيل للسيدة الوقور: إنه في زمن من الأزمنة، فقدت امرأة زوجها بسبب الجدري، فراحت تبحث عن رائحة الخرقة المبللة بالعرق، وعن بقايا رمل علق بقدميه يوم كان بحاراً ماهراً، وقفت عند المكان، وجدت قبراً مفتوحاً، ودخاناً رمادياً يتطاير، كأنه الانفجار الكوني الرهيب، سألت “المطوع” فحدق الرجل وحملق، وبسمل وحمول، ثم مط بوزه، وفتل شاربيه ماسحاً لحيته ثم نطق قائلاً: زوجك يا سيدتي مستلب من قبل أرواح شريرة، إنه الآن يعيش معذباً بين يدي تلك الأرواح، لأنه كان رجلاً مغالطاً، غليظاً فظاً، لا يراود أحلامك إلا عندما يكون في حالة الذهول، متذكراً امرأة أخرى.. بهتت المرأة، شرقت بريقها وهي تشخص البصر في القبر المفتوح، ثم صرخت.. كذب.. هذا كذب وافتراء، لقد كان يصطحبني إلى الشريشة ممسكاً بيدي، قائلاً: تحاشي التعثر بحجر، فتحت الأحجار هذه تسكن الأرواح الشريرة، وكنت ألبدُ تحت إبطه كأنني الفراشة الخائفة، كان يتأبطني بحب وشفافية، ويضغط على يدي قائلاً بلهجة حانية: يدك دافئة.. وبضة.. أنت أجمل امرأة.. ثم يأخذني في مكان الشريشة تحت ظل النخل ويقول: هل تعرفين عن تاريخ الشريشة.. أهز رأسي في دلال.. قائلة لا أدري.. ثم يمسح على جبيني لاحساً ندى الجسد ثم يطرق.. منذ الأبد.. هذه الشريشة خلقت قبل مجيء الرسل والأنبياء، وقبل أن يخلق الله الأحلام في رؤوس الفقراء، ولما جاؤوا وجدوا الشريشة تعرش في المكان، وتحرس الأرض الطيبة، بجنود مجندة من أشجار النخل وحولها، الغويف والأشخر والقرط، والناس يؤمونها بحثاً عن رضاب الأرض، سعياً لحطب النار، وعندما يشعرون بالخطر لأسباب وحشية من قبل الضواري، فإنهم يؤولون ذلك بسبب الجن. ومنذ ذلك الزمن والشريشة تطارد الناس، بحكايات الجن وروايات لا نهاية لها عن غياب الكثير من مرضى الجدري، في ارتباط شرطي ما بين الجدري ولعنة الجن.. وكان الناس يحكون عن أن الجدري يصيب الناس الممسوسين بالجن، فهذه الكائنات هي التي تنفخ في أجسادهم، فتصيبهم بهذا التقيح المزري، ولا يشفى من العلّة المشؤومة سوى الذين تتطهر أرواحهم من رجس الدنيا. اليوم، تبدو الشريشة، كائناً خفياً، يختلس النظرة من وراء جدر، ومن خلف أسوار وحجب، تمددت كأنها القدر المحتوم، اليوم الشريشة أثر من بعد عين، عين ثمود وعاد التي ترمدت بفعل الشيطان الرجيم ولأسباب الطوفان والقمل والجراد، والرجفة المباغتة.. اليوم الشريشة تغط في سبات الأحياء التي تنامت وتغشّت، وانتفست، وترامت وتورمت واقتحمت الوجدان، بعجرفة وزخرفة باهتة.. اليوم الشريشة كأنها المعجم اللغوي القديم، المنقوع في حواشي مكتبة تاريخية بائسة، اليوم الشريشة، تستحم في المياه العكرة، مزكومة بانفلونزا بكتيرية مداهمة، اليوم الشريشة مكان لا تضاريس، لأن النخلة التي كانت تحرسها خرجت عن الخدمة، وتوارت متقاعسة، ملتوية على جلد التراب.. اليوم الشريشة تمارس غياباً أزلياً، بعد حلم كاذب، ارتكب خطيئته ثم تخلى عن موعده ووعده وعهده.. اليوم الشريشة، تختبئ في الزاوية المعتمة في رأس الخيمة، تفتش عن أوراق ثبوتية، تؤكد فعلاً أنها كانت جزءاً من التاريخ وشيئاً في الجغرافيا.. اليوم الشريشة، أرملة فقدت الزوج والولد، قابعة في نهاية التاريخ، ترضع من الذاكرة ولا تشبع. تنفض يدين خاليتين خاويتين، وترنو إلى الفراغ المتناهي، بحسرة الفاقدين، المنتظرين صحوة البصر والبصيرة.. الآن لو تستقل مركبة وتخرج من براثن أي طريق من أي قرية في رأس الخيمة، وتذهب بحثاً عن المكان الذي كان لن تجد الشريشة، ولن ترى الحمار المستسلم لوداعته متسائلاً عن نبتة تبلل الريق، أو عشبة تطهر الحلق من يباب السنين، سوف تمر في الالتواءات المتحاذية، وتغوص في بحر من الأبجدية المترهلة، ولو تسأل القاطنين بين القارعة والقارعة عن الشريشة سوف يقولون إنها تقطن في القارة البعيدة، بالقرب من المحيطات المتهاوية، ولا شيء يدل على الشريشة غير الرمل المتورم بالاسمنت والحجارة المستلقية على ظهر قبور قديمة، وحشائش جديرة بأن تكون منازل لدواب سعت منذ زمن، لارتكاب فعل البقاء رغم أنف الحضارة. تتوارى أنت في المكان، ويغنيك تهجدك واللوعة، عندما تشعر أن الأمكنة تموت كما يموت الناس، والأمكنة تتعلم الاختيار كما يختبئ الجهلاء خوفاً من المس، أو ورعاً حين لا يجدون ما يلفظون به أنفاس ضعفهم. حشرجة باقية تتمادى أنت بالمكر والخديعة عندما تبحث عن اللاشيء، وعندما تدحض الشك باليقين، بأن هنا شيئاً ما كان ينبض وكان يربض على الأرض، وكان يرفض إفنائه بفعل الأرواح الشريرة، التي سرعان ما تستيقظ وتنهض فجأة، لتقول لك: فعلاً إن ما كانت تحكيه السيدة الوقور عن الجن، فهو كائن حي يمارس غيّه وبغيه، ويتحرك كما تتحرك الدورة الدموية في الجسد.. فتصدق أو لا تصدق، تُحدِّق في المكان، تتلفت يمنة ويسرة، تسلبك هذه الانهيارات الأرضية التي أطاحت بالشريشة ولم تبق غير الحشرجة، المتدحرجة في أوصال المكان، المتعرجة كأنها الانحناءات الجبلية، المتفرجة على الفضاء المتنامي نسلاً بغيضاً، فتنظر وتعلن حضوراً مفاجئاً، وتتلصص وتتفحص، وتشخص هنا، وتمحص هناك، لكنك لا تجد شيئاً، لأنك جئت في الزمن الخطأ، عندما شدَّت الشريشة الرمال، وضربت عهداً ألا تعود، لأن الجدري الذي كان قد مات، ولأن النساء اللاتي كن يتقيأن الظلال، غسلن الشعر بالأصفر والأحمر، واحتمين بالمساحيق، لأن النساء اللاتي كن يبكين الأطلال يغنين الآن مع وائل كفوري لفرح الأيام، وأحلى الأحلام. وفي الآونة الأخيرة، لابد لك من أن تقلب الصفحة، وأن تجلي عن وجهك الصدأ، وأن تخلع جلباب الأمس، فما بين الأمس واليوم، النون وما يسطرون، ووهج يبرق من بعيد، ملوناً لأناك بأن الشريشة لم تزل حبلى لكنها في رأسك أنت فقط، وأنك لو نبشت في القبور النائمة هناك، سوف تستعيد أشياء وتستدعي أشياء، لأن الأشياء تخبو لكن لا تموت هكذا قال بوذا، وهكذا نطقت النخلة منذ الأزل، فإنها إن ذبلت استولدت فحولاً وفصولاً وأصولاً، وامتدت لأزمنة حتى بعد الأبد.. هذه هي الأبدية في الشريشة كما في كل مكان، نبتت فيه نخلة، وتقيَّأت تحت ظلها امرأة، وتنهّدت أنثى لأجل أن يتجدد لحن الخلود الأبدي، ولأجل أن لا تسقط الثمرات من عذوق النخل، ولأجل أن يكون الحب شيئاً من حبة أو نبتة، أو بذرة، تخلق نفسها لكي يزهر الوجود، وتزدهر الأرض، وتورق الأفئدة، وتخضر بالعشب القشيب.. إليك أن تحلم كما نتعلم الأرض كيف تحتوي الجذور، وكما تتهجى الشريشة آثار أقدام الذين حفروا التراب بقلوبهم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©