الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن العتبات والغايات

عن العتبات والغايات
16 فبراير 2012
ليست الثلاثون عمراً هيّنا، كما أنها ليست منطقةَ شِبْهِ العتْمِ التي يلج إليها المرء بعد عمر ما فيتحسس طريقه فيها بأصابع الخبرة والحدوس. إذا كان هذا الأمر يصحّ على الإنسان فإنه أيضا ليس ببعيد عن ذلك النوع من الأنشطة التي يمارسها الإنسان ذاته في سبيل بقاء الحق والخير والجمال التي يقوم عليها أصل الفن كله، هذا الفن الذي حفر على جدار الأبدية: من هنا مرّ الإنسان. بدءاً من المكان ثم الكرسي والطاولة، بدأت جمعية الامارات للفنون الجميلة أولى خطوات رحلة شاقّة في تأصيل “فن تشكيلي” بوصفه ضرورة حضارية وإنسانية وليست ديكورا ناجزا من الممكن أن يوضع في واجهة دولة فتية تريد استكمال عناصر تواجدها، وذلك في بيئة اجتماعية وليدة ناهضة من الشظف والكدح الإنسانيين إلى العمران. هل كان الهدف واضحا؟ هل كانت تغطيه سُحُب من حلم يبدو أنه بعيد المنال؟ أم أن الاخفاقات أحيانا والعثرات في أحيان أخرى تُقصيه وتبعده؟. ما هَمَّ ذلك كله أمام منجز ما زال قيد الاكتمال في مجتمع بات قادرا على المشي وعلى أن يحصي خطاه. هذا ما يمكن تسميته بالحراك؛ أي أن تنجز تطورا دائما في محيط اجتماعي سيبقى يتطور دائما. هذا المنجز لجمعية الامارات للفنون التشكيلية يمكن وصفه كالتالي: أن تُصبح العلاقة بالفنون التشكيلية ممارسة اجتماعية حتى لم يعد من المستغرب، لدى شرائح اجتماعية، أن يكون الفن مزاولة مهنة كالطب والهندسة وسواهما، وهذا هو التأصيل، ثم أن تبقى هذه الممارسة الاجتماعية قائمة، وهذا هو التطور والحراك. ما نجحت به الجمعية أنها قد خلقت عبر ممارستها الفنية المجتمعية جيلا من الفنانين المؤسسين الذين يُعتبرون اليوم من رواد الحركة التشكيلية الفنية الإماراتية ومن كبارها ثم سعيها إلى أن يبقى تطوير الأداء الفني لدى الفنانين عملا لا يسهم في تطوير صنيع الفنانين أنفسهم بل أيضا يسهم في خلق جيل جديد من الفنانين بين فترة وأخرى. هذه الممارسة المجتمعية بنتائجها هي التي تُحسب للجمعية وهي التي أسست لحضورها القوي والمتواصل في المجتمع المحيط بها والذي تتواصل معه دائما. ما كان من الممكن لمتابع قد جاء حديثاً إلى دولة الامارات أن يدرك ذلك المنجز وتراكماته لولا أن المعرض السنوي للجمعية قد بلغ عمره الثلاثين أيضا، هذا المعرض الذي يشكل نواة انطلق منها الحراك التشكيلي في الإمارات متفاعلا مع محيطه ثم ليخرج عن إطار الحدود لتبلغ البعض من تجاربه محيطها العربي وقد تفاعلت مع الأسئلة المطروحة حول الفن وجوهره ودوره والتطورات التقنية وغير التقنية التي تعصف باللوحة أو العمل التشكيلي بين فترة وأخرى. وهذا الأمر لم يكن ليكون على ما هو عليه اليوم لولا تلك البدايات التي ترسخت فيها مؤسسة الجمعية بوصفها داعية لفن حقيقي ينسجم مع تطلعات فردية وجمعية بحسب ما تمخض حراكها عن نتائج. ذكريات يقول الفنان السوداني عبد القادر المبارك الذي بدأ مشاركاً في هذا المعرض منذ العام 1982 وبوصفه شاهداً على حراك جمعية الإمارات للفنون التشكيلية منذ البدايات: “الجمعية منذ البدايات وبهذا المعرض حاولت أن تضع الفن الاماراتي على طريق تفاعله مع محيطه الاجتماعي أسوة بالفن في كل أنحاء العالم، بمعنى أن هذا المعرض السنوي العام هو مسعى للجمعية حاولت من خلاله أن تجعل من فكرة المعرض ظاهرة اجتماعية وتجربة أصيلة في المجتمع الإماراتي بحيث يرتاد الجمهور المعرض ـ أي معرض ـ دون دعوة خاصة بل بمجرد القراءة عنه في وسائل الإعلام”. ويستذكر: “كانت الجمعية تمنح جوائز للمراكز الثلاثة الأولى التي تحظى بها أعمال المشاركين في معرضها السنوي العام من أعضائها، في حين كانت تتراوح هذه الجوائز، التي هي مبالغ مالية مقابل حيازة العمل، بين ألفي درهم إماراتي وألفين ونصف الدرهم من باب التشجيع على المشاركة والسعي إلى لفت نظر المجتمع إلى التجارب الفائزة وأصحابها عبر وسائل الإعلام المتاحة من جهة والتأكيد على فكرة الاقتناء من جهة أخرى وهي فكرة في أهميتها توازي تماما فكرة المعرض في حدّ ذاتها”. تجربة إنما هل أسهم المعرض نفسه، إذ يتأمل الفنانون المشاركون تجارب بعضهم البعض، في تطوير أداء الفنانين التشكيليين الإماراتيين ومن ثَمَّ تطوير الحراك التشكيلي الإماراتي؟ عن سؤال بهذا التعقيد يجيب الفنان التشكيلي الاماراتي البارز عبد الرحيم سالم بالقول: “أتحدث هنا عن تجربة الفن التشكيلي في الإمارات.. عما كان يمور فيها وعما باتت عليه الآن، فبعد ثلاثين من السنوات باتت هذه التجربة التشكيلية الآن قادرة على الوقوف والمشي وقد تجاوزت مرحلة البدايات الأولى. يكفي أن تتأمل في الأعمال التشكيلية الموجودة في هذا المعرض وتجعلها توحي لك بتلك البدايات لتدرك كم من التطور قد راكمته التجربة وأي مستوى فني متقدم بلغه الفنان التشكيلي الاماراتي”. وأكد: “حسن شريف، الفنان الاماراتي الذي بدأ من هذا المعرض قد بلغ مستوى عالميا الآن، وهناك سواه من التجارب الفنية التي بلغت المستوى ذاته، ألا يشير هذا الأمر إلى أننا بعد ثلاثين سنة قد بدأنا نقطف ثمار جهد هذا المعرض وبات بوسع التجربة التشكيلية الاماراتية أن تمشي بشكل جيد نحو الأفضل؟” وأضاف: “إنه قياسا بالدول الخليجية وكذلك بالدول العربية فإننا ندرك الفرق الذي صنعه إصرار الفنان الاماراتي على سرعة التجاوز وعلى الحضور المميز بين زملائه. لقد بدأنا في الجمعية بطاولة وكرسي وانشطة وفعاليات بدأت بسيطة لكنها في نهاية الأمر قد أوصلت الفنان الاماراتي إلى مستوى عربي وعالمي متميز”. تطور وعلى نحو ما هذا ما بدأت به القول الفنانة التشكيلية الاماراتية الدكتورة نجاة مكي: “تطور المعرض على نحو طبيعي لكنه تطور بشكل حثيث وسريع. ففي كل سنة إثر أخرى سوف تلمس تطورا ما سواء على صعيد مستوى التنظيم من قبل الجمعية والمؤسسات التي تتعاون معها وكذلك على مستوى الأعمال التي يتضمنها المعرض، الأمر الذي يبشر دائما بوجود فنان إماراتي يواكب التقنيات الحديثة تبعا لما هي موجودة عليه في أرقى التجارب التشكيلية في العالم وأكثرها إثارة للجدل، بل لا مبالغة في القول بأنها تبدع في طرائق إبراز صنيعها الفني عبر هذه التقنية”. ثم أشارت بشاهدها إلى ركن من أركان المعرض في الجناح الشرقي للمتحف: “ألا تلاحظ أن هناك دائما وجوها جديدة في المعرض. هذه التجارب التي بدأت وجوه جديدة انطلقوا من هذا المعرض ليشاركوا بمعارض دولية” وأضافت: “بالتأكيد كان لوجود فنانين قادمين من مرجعيات ثقافية عربية وغير عربية أثر في المعرض وفي تطوره إذ كانت أعمالهم دائما تطرح على الفنان التشكيلي الاماراتي أسئلة متنوعة تخص الشكل والمضمون والتقنية التي يعالج عبرها الفنان أفكاره الخاصة”. تنوع وبعيدا عن ذلك، لا يذهب الفنان ناصر نصر الله نائب رئيس مجلس إدارة الجمعية، فأكد أن التجربة التشكيلية الاماراتية قد دخلت بالفعل سن النضج وقال: “عبر السنوات العشر الأخيرة من عمر المعرض يمكنك أن تتلمس مدى التنوع والاختلاف في الاتجاهات وتنوعها وأثرها في صنيع الفنان التشكيلي الاماراتي الذي استطاع على نحو شخصي أن يطور من قدراته وأدواته الفنية بما يجعل المعرض مختلفا على نحو أفضل في كل سنة عن التي سبقتها”. وأكد: “فضلا عن التطور في تجربة المعرض ككل وكمنجز فني، علينا أن نتتبع في أحيان كثيرة ما يعرضه الفنان في كل معرض كي نلمس الفارق بين عمله لهذا العام وأعماله خلال ما سبق من تجربته، وأعتقد أننا سوف نلمس تنوعا واختلافا عن كل ما سبق أن قدمه سواء على صعيد الموضوعات أم على صعيد الأفكار التي يريد التعبير عنها والتقنيات المستخدمة في هذا التعبير، دون أن يعني ذلك أن هناك غيابا لما يربط مرحلة سابقة بأخرى حاضرة وناجزة، وهذا بسبب اكتسابه خبرات فنية وأفكارا وموضوعات جديدة وراهنة ناجمة في الأصل عن مقدرته على اكتساب تقنيات جديدة يطرح من خلالها أفكاره بطريقة تعبّر علاقته اليومية بالحراك الاجتماعي – الاقتصادي المحيط به وما يطرأ عليه من تحولات”. نضوج ويعلق الفنان عبد القادر المبارك على ذلك بالقول: “بالفعل لقد نضجت التجربة واستوت بعد ثلاثين سنة من الجهد والمثابرة التي قدمتها الجمعية سنة إثر أخرى بصرف النظر عن تشكيلية مجلس إدارتها، إذ أن هذا الحدث كان وما زال من أبرز الفعاليات الفنية تحديدا والثقافية عموما في دولة الإمارات”. وفيما يتصل بما أحدثه المعرض عبر المشاركات العديدة للفنانين العرب من أثر في تجاربهم الشخصية انعكس على تطورها، قال عبد القادر المبارك: “منذ البدايات فإن مشاركة الفنان العربي في المعرض كانت تغذي المخيلة التشكيلية للفنانين المشاركين الآخرين، حيث لم تكن أغلب تجارب الفنانين العرب قد وصلت إلى نضجها واكتمالها كما هي الآن وما من مبالغة في القول أيضا بأن مشاركة الفنانين الأجانب المقيمين في الدولة كانت تغذي المخيلة التشكيلية أيضا”. وقال أيضا: “لقد سعى الفنانون العرب المقيمون أن لا ينفصلوا عن المحيط الثقافي والفني الاماراتي بالمجمل، لذلك حاول كل منهم بمفرده أن يطور من تجربته التشكيلية الخاصة وأن ينهض بها إلى لغة يستطيع الجمهور أن يتفهما ويذوق العمل بالمعنى الفني للكلمة، إنك تستطيع أن تلاحظ ذلك في مستوى جدية كل فنان إذ يمكنك أن تدرك الفرق بين عمل شارك به في المعرض للسنة الماضية وعمل آخر يشارك به الآن فهو يلاحق النواقص في تجربته ويعالجها بأدواته وأساليبه الخاصة. وبالتأكيد يُضاف إلى هذا الجهد الذي يبذله الفنان أثناء المعرض متابعته ما يحدث عالميا في الفن التشكيلي في مسعى منه لمواكبة كل جديد باستمرار”. غير أن فكرة الاقتناء لم تتمكن الجمعية من تأصيلها أيضا بوصفها ممارسة اجتماعية ويلاحظ الفنانون أن أصحاب البيوت من الذين هم على صلة بالفن التشكيلي الاماراتي ما زالوا يحبذون تلك الأعمال التي ينجزها فنان بعينه وغالبا ما تتناول في موضوعاتها البيئة التراثية إجمالا والبدوية تحديدا خاصة مشاهد الخيول، بل إن مقتنين يأتون من دول الجوار القريب لاقتناء أعمال من هذا النوع. ويبدو جليا أن فكرة الاقتناء من المعرض السنوي لا ترتبط بالجمعية بل بالذائقة الجمعية التي ليس من السهل أن تتقبل أي انحراف جمالي عن المدرسة الواقعية. فهذه الذائقة لم تسر جنبا إلى جنب في تطورها مع التعدد والتنوع والاختلاف الذي حققه العمل التشكيلي الإماراتي. لكن فكرة اقتناء اللوحة من المعرض تعود إلى بداياته أيضا، ففي مطلع الثمانينات كان هناك العديد من الفنانين الإماراتيين والعرب المطلوبة أعمالهم للاقتناء مثل أعمال الفنان الفلسطيني صبحي العيدا وكذلك بعض الفنانين السوريين والعرب الآخرين الذين أعلوا من شأن المقاومة في أعمالهم، ثم في مرحلة أخرى تالية من الثمانينات ومع النضج السريع وغير المتوقع للعديد من التجارب الفنية المحلية باتت أعمال الفنانين حسن شريف وعبد الرحيم سالم وعبد القادر الريس والدكتورة نجاة مكي مطلوبة للاقتناء سواء من قبل الأفراد الذين يستطيعون التعامل مع المستوى الفني المتطور والمختلف لهذه الأعمال أو من قبل المؤسسات الرسمية والخاصة. وبوصف الاقتناء ينتمي إلى الاقتصاد الثقافي، أو اقتصاد صناعة الثقافة بمعنى أدق، والاستثمار فيه فإن هذا الاقتصاد ما يزال ضعيفا على الرغم من تزايد أعداد المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية والخاصة التي تعتني بالثقافة والفنون إجمالا، حيث إن المطلوب في هذا الصدد هو بالتأكيد أكبر من إمكانيات الجمعية ومن قدراتها المالية التي ما تزال هزيلة حتى بالقياس النسبي إلى غيرها من الجمعيات ذات النفع العام.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©