الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هل انتهت الأدونيسية؟

هل انتهت الأدونيسية؟
12 ديسمبر 2007 23:17
عنوان هذا الاستطلاع يحمل لاحقة واحدة، هي أداة استفهام فقط، بلا أية أدوات أخرى تفيد التعجب أو الاستغراب أو حتى الاستنكار، والاستفهام هو فاتحة حوار ضروري تحتاجه الحياة الثقافية العربية، ولأن الأدونيسية هي ظاهرة راسخة في الثقافة العربية منذ أربعة عقود على الأقل، فإنها تستحق أن تخضع لحوار موضوعي، عما أسسته وأطلقته، وهل مازالت الأدونيسية تتمتع بالوهج نفسه والتأثير عينه الذي كان لها على أجيال من الشعراء والنقاد في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته وحتى الثمانينات، فالتف الكثيرون من هؤلاء حول مؤسسها كمرجعية لهم، حاملين معهم طموحاتهم وعيوبهم· حينما قررنا في ''الاتحاد الثقافي'' فتح هذا الملف، كنا نتوقع أن نتلقى نوعين من الإجابات: نوع يقيم التجربة الأدونيسية من موقع الانتماء إليها، وآخر يعبر عن موقف ضدي منها، لكننا لم نتوقع أن تأتينا اعتذارات عن الإجابة من موقع النأي عما يمكن أن يثيره الكلام على ظاهرة ثقافية، وللمعتذرين اعتباراتهم، التي تعطي مبررا إضافيا لتناول مشروع الشاعر والمفكر الكبير أدونيس (علي أحمد سعيد)، بما له وما عليه· عصفور: الأدونيسية موضة يذهب د· جابر عصفور إلى أن ''الأدونيسية'' توقفت وذلك أمر طبيعي فهي كانت أقرب إلى الموضة وليست اتجاها متجددا والموضة التي يقبل عليها الشعراء والكتاب الشبان الآن تتمثل في اشعار محمود درويش· ويقول: لقد أقبل الشباب على أشعار وأفكار أدونيس بعد نكسة يونيو 1967 حيث وجدوا فيه عنف الثورة على التقاليد، وكان الشباب وقتها في حالة انهيار وتمردوا على كل شيء وكان لابد أن تعجبهم سوريالية ادونيس ورغبته التجريبية في كل شيء، وفي تلك الفترة نلاحظ انتشار تيار اللامعقول في الأدب المصري خاصة حيث كتب توفيق الحكيم مسرح اللامعقول، وكتب نجيب محفوظ ''تحت المظلة'' و''خمارة القط الأسود'' وهي تعكس حالة من اللاعقلانية، وفي ''تحت المظلة'' نجد شخصا يجلس تحت مظلة محطة نقل عام ويتراءى له أن جريمة قتل تقع أمامه، وربما كانت تلك حالة من ''التقية السياسية'' لدى الشعراء والكتاب وحين نقرأ اليوم مسرحية ''يا طالع الشجرة'' للحكيم نكتشف ذلك بوضوح، وقتها أخذ الشباب بأفكار أدونيس المتمردة والثائرة، ثم هدأت الأمور وأدرك الجميع أن الهزيمة تحققت بالفعل وتم استيعابها· ويضيف عصفور: نجد اليوم أن الشبان والناس عموما زهقوا من الثورة واتجهوا إلى حالة جديدة يناسبها محمود درويش· حمودة: حلول مغرية الشاعر والناقد د· حسين حمودة (استاذ الأدب بجامعة القاهرة) يذهب إلى أن ظاهرة أدونيس وجدت لتبقى لأنه قدم مجموعة من الحلول الفنية التي كانت مغرية بالنسبة للكثير من الشعراء بالإضافة إلى أنه قدم مجموعة من المقولات النقدية التي صاغت وبلورت تصوراً في كتابة شعرية جديدة· ويضيف د· حمودة: أدونيس هو ادونيس بمعنى أن ما كتبه وما نظر إليه يتفق وتجربته هو، وهناك مشكلة تخص الكثيرين الذين تبنوا طريقته في الكتابة، اذ لم يضيفوا إليها شيئاً، وتلك مشكلتهم هم وليست مشكلة أدونيس· سعيد: بلا روح ويقترب الروائي والشاعر مكاوي سعيد من رأي د· حسين حمودة حيث يصف كتابات الأدونيسيين بأنها تفتقد الروح وفارغة من المضمون، وأن كانت أسلوبية وجميلة، فقد اهتموا بالشكل فقط وادونيس نفسه لديه رؤية واضحة وموقف في قراءة وفهم التراث الشعري خاصة، ويظل هو الأصل، وهم مجرد تقليد له وهؤلاء الشعراء مثل اشباه الروائين الجدد الذين يقلدون توماس مان والبير كامي· قنديل: الظواهر لا تستمر الشاعرة د· فاطمة قنديل تتحفظ على مصطلح الأدونيسية وإن لم تعترض عليه، وترى أن الأدونيسية كانت ظاهرة في وقت ما، وأثرت على الشعراء السبعينيين تحديدا، ووضح ذلك في كتاباتهم، ولكن هذه الظاهرة تراجعت وصارت في تاريخ الأدب مثل ظواهر عديدة في الأدب العربي والآداب الإنسانية عموما، والظواهر الأدبية ليس مطلوبا منها أن تستمر متصدرة الساحة، فلابد أن تفسح للجديد، وقد تميز ادونيس بهذا التأثير ليس بسبب اشعاره فقط ولكن لقدرته على التنظير في بعض كتبه مثل ''الثابت والمتحول'' و''الصوفية والسوريالية''، وهذا ما افتقده شعراء كبار مثل محمد عفيفي مطر وصلاح عبدالصبور لذا لم يحدثوا نفس الأثر الذي أحدثه هو وسوف يبقى ادونيس كشاعر كبير في تاريخ الأدب، ولكل الشعراء الكبار يظل تأثيرهم مرتبطاً برغبة القارئ وحاجة الشعر الجديد في الرجوع إليهم وليس لأدونيس تأثير على شعراء اليوم، خاصة شعراء قصيدة النثر· الوهايبي: صورة معقّدة أما الشاعر التونسي المنصف الوهايبي فيعبر عن رأيه في الظاهرة الأدونيسية على النحو التالي: تستوجب قراءة أدونيس ثقافة شعرية وأدبية وفلسفية واسعة وإلماما كبيراً بخلفية النص الأدبي، وهذا ليس بالمتيسّر للقارئ العربي عادة، بحكم تعامله مع النص الشعري من منظور معياري، فقد لا يخفى أنّ أدونيس عقّد الصورة حتّى جعلها عزيزة الإدراك، وهو بقدر ما عقّدها أغناها، وجرى بها شوطا أبعد، ولا يشبهه في هذا المنحى من القدماء سوى أبي تمّام· والقارئ العادي لا يزال يعتقد في أنّ المعنى يكون في المشابهة القائمة بين طرفي الصّورة أي بين الظاهر وقد استأنف الشاعر معناه وبين المضمر، أو بين ما يقوله وما لا يقوله· والإقرار بالمشابهة ليس له من معنى سوى القول بأنّ ''وضعا واقعيّا'' ما يمكن أن يدرك بطريقة غير مباشرة أي بواسطة ''وضع غير واقعي'' هو صورة متصنّعة تخلقها الكلمات· والذي يترتّب على ذلك أنّ النص أو الصورة لا يعدو زخرفة واقع معطى خارج اللغة أو تهذيبه أو تخليصه ممّا يعيبه، وهو يلوي بالكلمات ويخالف بها عن جهات الاستعمال المعهودة، وأقدّر أنّ مثل هذه النظرة هي التي تحول دون قراءة أدونيس أو تجعل قارئه يقف مدفوعا مصدودا على عتبة نصّه، إنّ الصورة عند أدونيس أشدّ إشكالا من ذلك، فهي لا تنقاد إلى المشابهة، ولا نأتيها من أيّ جهة من المشابهة إلاّ صدّت عنها، فهي قارّة في ذاتها لا تبرح بنيتها حتّى ليمكن القول إنّها صورة من اعتباطيّة اللغة أو هي تكوّن نظاما في نظام اللغة وتنطوي على تنظيم داخلي وغرابة غير متوقّعة، بل هي كسر في اللغة لا يختزل وشرخ لا يجبر، وربّما كان علينا أن ندرك أنّ الصورة يمكن أن تكون تمرّسا باللغة واستكشافا لمدى استجابتها للخيال أو استجابة الخيال لها بحيث لا تقول إلاّ نفسها أو أنّ المعنى فيها ـ إذا كان لابدّ من اعتبار القراءة نتاج المعنى ـ لا يعدو أن يكون حالة أو موقفا من اللغة وافتتانا بقوّة الكلمة على خلق الصورة، وربّما تعذّرت، بسبب من ذلك، على الإدراك· نحن لم نقرأ بعد أدونيس حتّى نتجنّى عليه، ونقطع متعجّلين غير متريّثين بأنّ الأدونيسية انتهت، بل لا بدّ في تقديري من رهان على أنّ نظريّة علميّة في شعر أدونيس تكون وقفا عليه أمر ممكن، إنّ تأسيس علم شعر يلمّ بمدوّنته يبدو مطلبا ملحّا ونحن نستحضر هذا الجدل الدائر حول نصّه، وذلك لما نأنسه في شعره كما هو الشأن عند أبي تمام، من شروط يقتضيها العلم، ومنها كونه شعرا يتداخل من جهات عدّة مع الجانب المعرفي الذي يفترض أنّه أساس في شعريّة القصيدة أو في إنقاذها على الأقلّ من سذاجة التعريف الذي يعتبرها صدورا عن خلجات النفس واهتزازات العاطفة، ومنها أنّ نصوص أدونيس تنتظم داخليا بحبل سرّي يصل بينها حتّى على تراخيها في الزّمن، وهذا لا تهتدي إليه قراءة تكتفي باعتماد ''الحساسيّة''، وإنّما ذلك أمر موكول إلى قراءة تعتمد بالإضافة إلى الحساسيّة العقل الحسابي، لأنّ الأمر لا يتعلّق بمجرّد انطباع، كما فهمت من سؤالكم، وإنّما بتقدير كميّ للصورة والمعنى في القصيدة، ونحن لا نأتي بدعة بتأسيس علم بشعريّة أدونيس فقد استحدث هذا العلم في ما يخصّ أكثر من شاعر في الغرب، ويكفي في هذا المقام أن نستحضر هولدرلين وكيف خصّه النقد الألماني بنظريّة علميّة في الشعر· معتوق: ظاهرة صوتية ويقول الشاعر الإماراتي كريم معتوق: الظاهرة الأدونيسية، أو الحالة الأدونيسية، أو سمها ما شئت، ألا ترى أن بعدا إعلاميا، وصوتا دعائيا يحفر خلف هذا المصطلح؟ أعرف أن قول الشاعر: ومكائد السفهاء واقعة بهم/ وعداوة الشعراء بئس المقتنى، فلست ممن يشتري أو يسعى لعداوة أي شاعر، وعلي أحمد سعيد هو من هؤلاء الشعراء، ولكننا بصدد الحديث عن تجربة هذا الشاعر· أتوقف أولا عند قول أدونيس في جريدة ''الشروق'' الإماراتية ''أنا لا أملك جمهورا، ولا أريد جمهورا''، فها نحن أمام رجل يصرح بشيء لا يريده رغم أنه جزء أصيل في المشهد الشعري، ولحديثنا هنا صلة مباشرة به· حالة أدونيس هي حالة إعلامية بامتياز، فلم تكن له ريادة بأي شكل من أشكال الشعر، ولم تكن له أسبقية بالحالة الشعرية بعموم توجهاتها، ومشاربها، ورغم ذلك استطاع أن يخلق لنفسه حالة اعلامية ريادية متفردة، دون أن يقدم لنا إحدى مواصفات هذه الريادة· كتب ادونيس الشعر الكلاسيكي، ولم يكن به متفردا بوقته، وكتب التفعيلة ولم يكن كذلك، حيث أنه لم يستطع أن يضيف شيئا جوهريا لما سبقه له السياب ونازك والبياتي، وكتب ما يعرف بقصيدة النثر، ولم يضف لتجربة الماغوط ولا لمن عاصروه، ورغم كل هذه الاسبقيات المستحقة في الشعر العربي المعاصر، إلا أن أدونيس ومن خلال مريدين باحثين عن التميز استطاع أن يصبح علامة فارقة بالشعر العربي، دون شواهد شعرية على ذلك· الجميع يعرف شكل البايب الذي يستعمله ادونيس، ولكنه لا يحفظ شيئا من شعره، والشعر العربي دلالته الحضور، فحين تعرف صديقا لك على شاعر فإنه سرعان ما يطلب أن يسمع شيئا، إلا في حالة ادونيس، فإن من يشيد به لا يقدم لك نموذجا يدعم تلك المقولة، فحين يقول لك إن أدونيس قام بعملية تفجير للغة، ويعجبك الكلام فتقول مثل ماذا، أو أنك تطلب مشاهدة عملية تفجير للغة لم تكن تعرف عنها، تجد هذا المريد يبتعد عن تقديم المشهد التفجيري· إن ظاهرة أدونيس في المشهد الشعري العربي هي ظاهرة صوتية اعلامية نقدية تنظيرية ولكنها لم تكن شعرية في يوم ما، وهذا لا يقلل من شأن أي شاعر ولكنه لا يجعل أي شاعر في مقدمة ركب الشعر العربي دون تفاعل وتجاوب حقيقي من الشعراء معها، الشعر لم يكن يوما ما فنا انعزاليا، ولم يكن فنا تنظيريا، لم ينشغل الشعراء الكبار يوما بتعليل أو تبرير أو نقد أو الانشغال بالمناهج النقدية، كانوا يكتبون ويكتب النقاد من بعدهم ما يشاؤون، إلا أدونيس فقد كان منشغلا بنقد الشعر العربي قديمه وحديثه، حتى أن كتبه النقدية لاقت رواجا أكثر من شعره· قال عنه بعض الشعراء إنه شاعر عظيم وقال آخرون بخلاف ذلك، ولكنني لا أحفظ ولم أتوقف عند أي شيء من أشعار أدونيس، ولا أقبل بعد هذه التجربة الطويلة في الشعر أن يقول قائل إن الخلل بي وليس بشعر أدونيس، فإذا لم يستطع أن يتواصل معه مثقف وشاعر كيف سيتواصل معه متوسط الثقافة· هو حريص على جائزة نوبل لأنها تشعره بالتميز الذي يريده، وقد قام بأعمال كثيرة ليست من الشعر للتقارب بينه وبين الجائزة، وهذا لا يضيف إليه شيئا في التجربة الشعرية ولكنه يضيف اليه الكثير في المجال الإعلامي، ألم أقل لك في البدء أن أدونيس حالة إعلامية وليست شعرية· بزيع: قصيدته لم تعد جذابة ويقول الشاعر اللبناني شوقي بزيع: يكاد النقاد والمتابعون يجمعون على اعتبار أدونيس أحد أكثر الرواد الحداثيين تأثيراً من الشعر العربي المعاصر، حتى أن اسمه بات مقروناً بشكل تلقائي بالحداثة العربية إلى حد أن كل مشتغل بالشعر المعاصر صار يضع اسم أدونيس بوصفه شاهداً على أي رأي أو مقولة ترد في مقالته· واذا كان أدونيس يستحق ذلك ليس بوصفه شاعراً طليعياً فحسب، بل بوصفه مفكراً وباحثاً وداعية تغيير، فإن عاملاً اضافياً يمكننا أن نضعه في الحسبان حين نتحدث عن حضور الشاعر في عصره، هو عامل التسمية على وجه التحديد، فعلي أحمد سعيد حين اختار اسم الإله الفينيقي القديم أدونيس، ربما كان عن عمد أو عن غيره يخطط لبناء أسطورة معاصرة وموازية للأسطورة القديمة، كأنه لم يكن يقبل في صميمه بأن يكون عالة على هذا الاسم، ولعله كان يسعى لاعادة اكتشافه مجدداً· هذا في الاسم أما في التجربة والنتاج الإبداعي فأعتقد بأن جاذبية أدونيس وقيمته تعودان إلى عوامل ثلاثة أولها المغامرة الشعرية التي لم تكتف بكسر النمط السائد من حيث الشكل والايقاع، بل ذهبت إلى قصيدة التفعيلة ثم إلى قصيدة النثر، مستبدلة الكثير من البنى الايقاعية، وعاملة على تقويض الدلالات الأساسية للغة وعلى خلق حساسية مختلفة للذائقة الجمالية، وعلى توسيع مساحة التوتر التي تخدم النص الشعري، كما أنها حاولت الإحاطة بالعالم ورؤيته عن بعد في ما يشبه الرؤية البنيوية إلى المكان والزمان· العامل الثاني هو العامل الفكري الذي حاول أن يخلق مواءمة كاملة بين الشعر والمعرفة وبين القلب والفكر، فأدونيس يعيد الاعتبار للعقل الذي طالما اعتبر آفة على الشعر (وثمة من يأخذ عليه الإسراف والمبالغة في هذا المجال) بحيث ينعكس ذلك سلباً على شعره، لكن الشعر عنده هو نجل معرفي قبل أن يكون عاطفة وانشاء مجردين، لذلك فقد تعمّق في قراءة التراث ودرسه وتحليله، مميزاً بين الجمر والرماد وبين الثابت والمتحوّل بحسب تعبيره· العامل الثالث يتمثل في نزعة المساءلة الدائمة التي لا تسلّم بشيء بل تحوّل الأشياء كلها إلى سؤال مفتوح على اللاإجابة، ثمة نزوع دائم عنده إلى التمرّد والرفض والهدم والتقويض، فيما يعتبره هو ممراً إلزامياً إلى بناء الفردوس الأرضي· والذي يميّز أدونيس في هذا السياق هو أن كوابيسه لا تأتي من الماضي المنقضي، كما هو الحال لدى معظم الكتّاب والشعراء، لكنها تطل من جهة المستقبل حيث الحياة وعد دائم بالأجمل، وليست مجرد مادة للحسرة والتذكر· وقد يكون هذا العامل هو أحد أهم الأسباب التي تجعل من أدونيس موضع جاذبية كبرى للمعارضين السياسيين العرب الذين يعتبرونه واحداً منهم، وإن لم يكتب في السياسة، وأنا أذكر كيف كانت كتبه تهرب باليد من شخص إلى آخر في بعض الدول المحكومة بأنظمة استبداديــــة (العراق على سبيل المثال) وقد سبق له أن حملني بعــــض كتبه الممنوعة لصديقه الكاتب العراقي الراحل هادي العلوي ولآخرين أيضاً· قد لا تكون القصيدة الأدونيسية الآن، وفي السنوات الأخيرة، موضع اجتذاب للأجيال الجديدة من الشعراء، كما كانت عليه في السبعينيات من القرن الماضي، ربما لأن الذائقة الشعرية قد تغيرت ولأن الحساسية في تحوّل مستمر، ولأن قصيدة الكليات البنيوية التي كانت جزءاً من مفهوم الإنبعاث العربي والمشاريع القومية الكبرى قد أخلَت مكانها اليوم لشعرية التفاصيل والجزئيات والحياة اليومية، أو لنوع من الصعلكة الجديدة التي تضج بكل ما هو هامشي، أو هو من سقط متاع اللغة والخيال· كل ذلك يقع على نقيض المشروع الأدونيسي وخارج اهتماماته، لذلك فإن مرجعية الشعراء الشبان تقع في غالبيتها في مناطق أخرى ومساقط مختلفة للغة، لكن هذا كله لا يقلل من أهمية القصيدة الأدونيسية التي هي مهمة استناداً إلى ذاتها وعناصرها، بمعزل عن تأثيرها بالشعراء اللاحقين أو تحولها إلى نمط يحتذى، كما أن قيمة أدونيس اليوم، وستبقى كذلك على الأرجح لزمن طويل، تتمثل في كونه نموذجاً للمثقف الموسوعي الذي يحاول الإحاطة بالعالم وبقضايا الإنسان بعيداً عن الظرف العابر والاستهلاك الآني، من هنا نفهم سرّ عالميته وانتشاره القياسي وتواطؤ معظم الشعراء المعاصرين على اعتباره واحداً من الكبار الذين يستحقون جائزة نوبل، لأن شعره وفكره يمثلان دعوة دائمة للتخلي عن المنجز ومراجعة النفس بحثاً عن ولادات جديدة، وهو الذي قال في إحدى قصائده: ''لا لست من عصر الأفول/ هي ساعة الهتك العظيم أتت وخلخلة العقول''· زغيب: أحببت مطالعه أكثر ويقول الشاعر اللبناني هنري زغيب: أدونيس لم يعبر حافياً على رؤوس قصائده، منذ جاء الى لبنان، هذا الـ''أدونيس''، وهو يرمي حصاة في البحيرة الآسنة، جاء مغايراً، منذ البدايات ، جاء يحمل به صوتاً من مناخٍ آخر، هو الآتي من خلفية غير مغايرة، لكأنّ الإبداع يخرج دوماً من صف تقليدي ليضع صاحبه في صفٍّ غير تقليدي، وصل بيروت وكانت ''شِعر''، فانتمى، لم يستطع الاصطفاف طويلاً، فأسَّس ''مواقف''، ليخرج من الصف الى التغايُر· شعرياً، بدأ من الخليل، وكان، حتى في تقليدية الخليل العروضية، واعداً بصوت كلاسيكي مختلف، ليته بقي· شخصياً أحببتُ مطالعه أكثر من لاحِقِها، ليته وظّف فرادته الجادة وموهبته الشعرية ليزيد الكلاسيكية نضارةَ تجديد، هي التي لا تجديد خارجها مهما توسَّع أفق الخارجين عليها، سوى أنه خرج عنها، ذهب الى التفعيلة أولاً، وبقي نيوكلاسيكياً مبدعاً، ثم خرج الى اللاتفعيلة، أترى ضاقت به التفعيلة (بعد خروجه على العمود) فتناهى الى حدسه إمكان أن يكون شاعراً متميزاً في ذاك الخروج؟ أتراه رأى في الثقافات الأخرى التي انفتح عليها، أن التفعيلة غير ضرورية (كما في تلك الأُخرى) وتالياً الالتزام بالأصول الكلاسيكية غير ضروري، بل يعيق تحليقه الواسع في الفضاء الشعري الواسع؟ لا نجادل، لا نناقشه· حسبه أنه بلغ العالمية (بعد ترجمات من قصائده تترك بصمات لافتة في كل لغة)، بلغها في شعره الأدونيسي، وفي نثره الذي يعلو حتى يعادل الشعر الراقي (''فهرس لأعمال الريح'' من أروع النثر، على إيجاز ساحر، ومضمون يصدم جديده العميق)، ولا يزال حتى اليوم يثير كلاماً ويسيل حبراً ويقيم نقاشاً كلما طلع بجديد، هذا شاعر مرصود على الجديد في كل ما يكتب، الغبار الذي يثيره جديد منه، يبقى غباراً ثم يتلاشى مع مثيريه بعد حين، ويظل هو مواصلاً نشوبه صوب الأفق الوسيع· من هنا أن سؤال: ''هل ما زال أدونيس على وهج ما كانه في الستينات والسبعينات؟'' ليس في مكانه من التساؤل· أدونيس موهوب منذ مطالعه، وموهبته لا تزال تنصقل وتنشحذ بالجديد، له أن يغادر العمودية والتفعيلة، أو أن يعود إليها، أو أن يمتطي موجات الغرب في كتابات له متأخرة (التاريخ سيحكم على سيره أحياناً في موجات الآخرين)، نحن، نرى فيه شاعراً علَماً، رائداً، يمر في أنفاق وعلى قمم، كما يحدث دائماً للكبار· الأنفاق ستغور (وفي كتاباته أنفاق غير قليلة)، لكن قممه ستبقى، طالما هو ينبض دوماً في زخم عطاء لا تتفاوت إبداعاته كثيراً لأن منبعها إبداعي أصيل كل كلام آخر، ذاتي شخصي فردي، كي لا أقول إنه منحاز الى مواقف شخصية لا علاقة لها بشاعرية هذا الشاعر الذي طبع عصراً كاملاً بحضوره (وما فيه من مواقف وتناقضات وجدليات) وبشعره الذي يبقى منه الكثير حين ينجلي في مستقبل السنوات وضوحُ الفارق بين الأصيل والدخيل· عبيدالله: التراث والحداثة ويقول الشاعر والناقد والأكاديمي محمد عبيد الله من جامعة فيلادلفيا الأردنية يقول: أدونيس تجربة مؤثرة على مختلف الأجيال الشعرية حتى مجايليه تأثروا به، فهو يمثل إلى حد كبير صورة الحداثة الشعرية رؤية وتعبيرا، ومن لم يتأثر بأدونيس الشاعر تأثر بطروحاته في قراءة التراث وتشكيل موقف نقدي منه وفي تفاعله الحي مع مكونات الذات ومع مكونات الثقافة الأوروبية لبناء مقترح للحداثة العربية في الثقافة والشعر والوجود· أنا تعلمت من أدونيس، وكانت مؤلفاته وأشعاره إنجيل الحداثة وقرآنها عندي وعند أقراني، ولا أدري اليوم إن كان هناك بديل أو خيارات أخرى للأجيال اللاحقة، تعلمت من أدونيس أن المعرفة تقتضي العمق والاتصال بالمصادر مباشرة ودون أحكام مسبقة أو من خلال الآخرين، أعجبتني معرفته التراثية المتينة دون أن يكون تراثيا كاملا أو سلفيا جامدا،يعرف ثم ينقد ما يعرفه ولا يسقط عليه احكاما من خارجه كما هو حال معظم نقاد التراث العربي، ومنهم شعراء كثيرون يشتمون التراث ويوسعون المتنبي بالشتائم وهم لا يتقنون حتى قراءته قراءة مباشرة بسيطة، أدونيس استعاد المتنبي مثلا في (الكتاب) وبنى سيرة أدونيسية تتقاطع مع المتنبي وغيره في صورة تجريب يعتمد عناصر التراث ومكوناته المتنوعة، أدونيس قدم لنا مفهوم: الثابت والمتحول·· الاتباع والإبداع، وتمكن من تقديم مقترحات واجتهادات كبيرة في مجال تثبيت الحداثة العربية مع الحفاظ على خصوصيتها وأن لا تكون نسخة أوروبية رديئة أو مشوشة· في تجربتي الشعرية أفدت منه ما يمكن تسميته بتثقيف القصيدة دون الوصول بها إلى حدود الفلسفة، فمبدأ الغناء وسيلان اللغة والإيقاع من المبادئ التي عارضتها قصيدة أدونيس لصالح العمق الفكري والرؤيوي، وقد حاولت تطبيق هذا المبدأ لكسر ما اتسمت به قصيدتي من غنائية في بداياتها، أدونيس امتداد للشعراء التأمليين المفكرين، من أبي العلاء المعري وحتى سان جون بيرس، قصيدته أصيلة في تخييلها العميق الذي لا يركض وراء الصورة بمقدار ما يصنع صورا تتسع لرؤيته، كذلك اكتشف أدونيس قيمة التجربة الصوفية ضمن توجهات الحداثة العربية، فتحول التصوف من اتجاه ديني مرتبط بالدراويش إلى اتجاه حداثي يتداخل مع القصية ويؤثثها بعيدا عن التصوف بمعناه الديني، قدم أدونيس النفري مبكرا، وقدم في التسعينات (الصوفية والسوريالية) في قراءة جديدة كليا للتصوف، وما زال يواصل مشاغله باحثا عن اسمه، أدونيس ليس موضة نغادرها أنى شئنا وإنما هو أحد ضرورات الثقافة العربية المعاصرة· أنا شخصيا لم أزل معجبا به، وبإنتاجه وما زلت أتعلم من قديمه وجديده، وعندما قابلته في عمان في السنوات الأخيرة ودعوته إلى الجامعة عشت معه يوما مميزا تعرفت فيه إلى جوانب من أدونيس الإنسان المتواضع البسيط، الذي يبدو أكثر تواضعا من معظم الطواويس الذين فكوا أميتهم الشعرية عبر قراءته ثم ولوا وجوهم عنه ليتوهموا أنهم صانعو الحداثة وأربابها· ناصر: الشعر والنقد ويقول الشاعر أمجد ناصر: لست ادونيسيا بالمعنى المباشر للكلمة، ولكن من منا، نحن الذين نسمى شعراء الحداثة العرب، ليس ادونيسيا بالمعنى غير المباشر، هناك تأثير مباشر لشاعر على شاعر، وهناك تأثير لشاعر على شعرية، اظن أن ادونيس من الشعراء الذين اثروا على شعراء افراد وكذلك على سياق شعري كامل، وهذا فعل نادر في تاريخ الابداع الشعري العربي، التأثير لا ينحصر في المعجم او في المجازات او الرؤى، بل في فهم الشعر نفسه ودوره في الذات والعالم، وبصرف النظر عن اشكال التأثير التي مارسها منجز ادونيس الشعري على المدونة الشعرية العربية الحديثة، فيمكن القول إن قلة من الشعراء العرب الذين استطاعوا أن يؤثروا في القصيدة العربية وسؤالها على النحو الذي فعله ادونيس، فهو ليس شاعرا مبدعا فقط، بل ارفق ابداعه الشعري بالسؤال الجمالي والفكري، ولعله الشاعر الوحيد في جيله الذي يمكن مقارنته برواد اتجاهات شعرية كما حدث في الشعريات الغربية· الشعراء الكبار في الغرب (وغير الكبار ايضا) قرنوا الشعر بالسؤال النقدي والفلسفي، معظم شعراء فرنسا الكبار في القرن العشرين هم كذلك، معظم شعراء اللغة الانجليزية في القرن الماضي فعلوا ذلك· انهم شعراء ونقاد او مفكرون في الوقت نفسه، لم يكن هذا الأمر موجودا عربيا قبل ادونيس، لن احصر التأثير بصورته المباشرة التي يوحي بها السؤال، أن يقع شاعر او شعراء في اغواء لغة شاعر آخر وفي رؤاه واستعارته، أرى التأثير من زوايا عديدة قد لا تحلظ على السطح لأول وهلهة، الشعراء الشبان لا يرون، عادة، التأثيرات التي تتسلل الى قصيدتهم من الأجيال السابقة عليهم، هناك طرق في الشعر والتفكير فتحها السابقون، لكن نزق الشباب يفضل أن لا يرى ذلك، أظن أن التأثير في الشعر والفن عموما له يشبه الجينات التي يحملها المرء ولا يعرف ما الذي استحضرته معها من ملامح وسمات واعراض·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©