الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ســـوق السمك بحرٌ في ســـلال

ســـوق السمك بحرٌ في ســـلال
8 ديسمبر 2007 23:28
الساعة الرابعة فجرا، وأبوظبي ما زالت تغط في نوم عميق وراحة تامة·· الشوارع خالية مفرغة من روادها، وصدى الهدوء يدوّي في قلب العاصمة الجميلة وأحيائها، حتى ناطحات السحب والمباني الشامخة نامت هي الأخرى بمن فيها إلا من داعٍ أو متهجد يناجي ربه آناء الليل·· لكن ذلك الهدوء الذي يلف المدينة لا يصل صداه إلى الميناء، فهناك وفي هذا الوقت بالتحديد، تبدأ الحياة وتدب الحركة في أوصال سوق السمك حيث تصل ثمار البحر إلى رصيف الميناء، لتعلن افتتاح النهار وتنشره في كافة أرجاء المدينة· قبل صلاة الفجر، يبدأ العمال والصيادون بترتيب سلال السمك، كلٌّ يعرض بضاعته في الساحة، ثم يذهبون إلى الصلاة في المسجد القريب من السوق، وبعد انتهاءها مباشرة يعودون إلى مواقعهم حيث تمتلئ الساحة بشتى أنواع الثمار البحرية، ويعلن الدّلالون بدء مزاد السمك· مئات السلال تصطف جنبا إلى جنب بانتظار مشترٍ سخيّ يقدر ثمنها وعظيم فائدتها، والدّلال ينتقل من سلة إلى أخرى يعطي سعرها الأدنى ويترقب المزاودة ليمنحها لأعلى سعر، الهامور ،260 ،270 280 درهما·· وهكذا يستمر المزاد لمدة ساعتين، أو أكثر قليلا، من البيع والشراء، حتى تنتهي البضاعة ويضع المزاد أوزاره، فيعود رصيف الميناء إلى سابق عهده من الهدوء والسكينة وكأن شيئا لم يحدث فيه، لتنتقل الجلبة والحركة إلى داخل سوق السمك· باعة ومشترون يقفون في مواجهة بعضهم البعض والدّلال بينهم ليضع الحدّ الفاصل في السعر ويميز بين أنواع السمك ومصادره· في المزاد ثلاثة دلالين، كل في موقع مختلف، يحدّدون الأسعار وينظمون عملية البيع، كل دلال يتبعه اثنين من العاملين واحد يسجل اسم البائع والمشتري وسعر البضاعة والآخر يستلم النقود· يقول الدلال عامر سالم الزرعي، وهو صياد قديم: نحدّد الأسعار بعد إلقاء نظرة على السوق لمعرفة كمية الأسماك المتوفرة، بالإضافة إلى حالة الطقس ودرجة الحرارة، فإذا كان الجو حارا ترتفع الأسعار وذلك لقلة الكمية المتوفرة من الأسماك وقلة الصيد صيفاً، ولهذا نجد أسعار الأسماك مرتفعة في الصيف وتصل في بعض الأحيان إلى أرقام عالية جدا، وأغلى الأنواع هي الهامور والكنعد· ويقول سيف السويدي، مراقب عام الأسواق في سوق السمك من جمعية الصيادين، والذي يتواجد يوميا في السوق لمراقبة سير عملية البيع وحلّ المشاكل إن وجدت: بالنسبة للأسماك المتوفرة في المزاد تقسم إلى قسمين: سمك ''الطرّادات'' وسمك ''اللنشات''، و''الطرّاد'' هو القارب الصغير الذي يصيد في المياه المحلية وذلك بواسطة الخيط أو الشبك، وهو يخرج من الصباح الباكر ويعود في نفس اليوم ليلا، أما ''اللنش'' فأكبر حجما ويتسع لحوالي ثمانية أشخاص وهو يبحر في المياه الدولية ويمضي في البحر من 3 إلى 5 أيام ويتم الصيد فيه بواسطة ''القرقور''، والمعروف أن سمك الطرّاد أغلى سعرا لأنه طازج أكثر، وأغلب أنواع الأسماك التي يتم اصطيادها ''بالطرّاد'' هي الكنعد، الهامور، الشعري، والجش· مزاد السمك - كما يقول السويدي - موجود في المدينة منذ 30 عاما ولم يتغير كثيرا عن تلك الأيام الماضية، فهو ما زال يشكل نبض المدينة وأحد مواردها الهامة، وهو جزء من التراث الإماراتي الذي يجب المحافظة عليه·· ولكن الشيء الوحيد الذ تغير فيه، هو عدد المواطنين الذين يعملون ويتواجدون فيه فهم في تناقص مستمر، ورغم تشجيع الحكومة لمهنة الصيد بين المواطنين وإصدارها عددا من القوانين التي تشجع على ذلك، إلا أن المواطنين يعزفون عن العمل في الصيد، وتجد التجار في السوق كلهم من الآسيويين، وهو أمر محزن· أما جاسم أحمد الحوسني، الذي أمضى 20 سنة من حياته في الصيد وفي سوق السمك، فلم يعد يخرج إلى البحر للصيد وجلب الأسماك كما في السابق، بل يأتي اليوم لمتابعة أعماله حيث يمتلك بعض الطرادات ويؤجرها للعمال، حين صادفناه كان يضع في سيارته بعض الأسماك التي جلبها له عماله، أما الأسماك الباقية فاشتراها من المزاد لأن عائلته كبيرة، يقول الحوسني: ''السمك اليوم غالٍ، وهنالك نقص في عدد ''اللنشات'' بسبب عزوف المواطنين عن الصيد، وأنا لديّ عشرين ولدا لا أحد منهم يرتاد البحر فكلهم متعلمون ولم يرغب أحد منهم بتعلم الصيد مثلي، أما بالنسبة لي فمهنتي لا أستطيع أن أتركها لذلك أشغل فيها عمالا، لا سيما وأن المهنة رابحة ومربحة''· ومثله سلطان محمد الزعابي، فقد عمل 40 سنة بالصيد، وهو يأتي إلى السوق للإشراف على ممتلكاته من ''اللنشات''، يقول الزعابي: ''أسعار السوق متقلبة تبعا للطقس وأحواله، ولكنها عموما غالية وذلك بسبب ارتفاع تكاليف الحياة وارتفاع أسعار البترول، كما أن قلة وجود ''النواخذ'' بسبب عدم إقبال المواطنين على هذه المهنة وتحديد عدد ''اللنشات'' في أبوظبي يحدد من كمية الصيد ويرفع الأسعار''· ترتفع الشمس قليلاً لتلقي بنورها البهي على السوق وأهله، وتبدأ الجلبة تأخذ طريقها الى المكان، يأتي المشترون وتنطلق الأصوات في عمليات فصال طويلة·· نترك السوق خلفنا ونستقل السيارة عائدين إلى المدينة التي رمت عنها غلالة النوم وبدأت في الصحو، بينما الصباح يملأ الشوارع والطرقات· صباح جديد يداعب المدينة··· شمس أخرى تشرق على الناس··· يوم آخر من أيام أبوظبي يخرج فيه الناس إلى أرزاقهم وهم يرددون: يا رزاق يا كريم، فيما يدي تحتضن رزق ساعات الفجر، وتتحسس الصيد الثمين الذي عدت به من هذه الرحلة الفجرية في قلب المدينة··· رزق لا يعدو أن يكون بضع كلمات سجلتها على ورقة بيضاء سوف تصبح بعد سويعات قليلة موضوعاً يصافح عيونكم، وينقل لكم إيقاعاً ربما غفلنا عنه في زحمة الحياة، فتركنا للكاميرا أن تحضره لكم طازجاً ومفاجئاً في سلال من الفضة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©