الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لبيب يعرف كل شيء

لبيب يعرف كل شيء
6 ابريل 2008 02:21
ليس الموت من الأمور التي يمكن أن تجد فيها دعابة ما، ولو وجدت فأنت على الأرجح عبقري من عينة مارك توين وأوسكار وايلد أو أنت مجنون، لكن ما يثير الضحك فعلاً هو التصرفات السخيفة للناس في تلك المواقف· في أحد مقالات أحمد رجب الساخرة حكى عن ذلك الرجل الذي جلس جواره في سرادق عزاء، وراح يحكي له قصة تخريفية لا أول لها ولا آخر عن علاقته بالملك فؤاد ملك مصر الأسبق، وكيف أن الملكة كانت تحب الرجل راوي القصة بشدة، لهذا فتح بابه ذات مرة ليجد الملك فؤاد واقفًا حافي القدمين، وهو يحمل رغيفين وقرطاساً به ''طعمية'' وحزمة فجل، ويقول له: ''جئت آكل معك عيش وملح حتى لا تخونني!''· عند هذا الحد من القصة انتهت قدرة أحمد رجب على التحمل وانفجر ضاحكًا في سرادق العزاء الوقور، ليطرد شر طردة· هذه القصة حكاها أحمد رجب وانتهى الأمر، لكنها ظلت كالهاجس يطاردني في كل عزاء أحضره· إنه وسواس قهري رهيب يجعلني أتخيل الملك فؤاد حافياً وهو يحمل قرطاساً مليئاً ''بالطعمية'' فأبذل جهداً كبيراً وأضغط على أسناني وأبتلع ريقي كي لا أنفجر بالضحك، عالماً أنني في الحقيقة أنقذ حياتي نفسها لأنني لو ضحكت بصوت عال لانتهى أمري· ليس هذا فقط ما يضحكني· هناك اللحظات الأولى بعد الوفاة عندما يتصايح الناس: لا تفعلوا شيئًا، إن (لبيب) قادم· (لبيب) هذا قد يكون مسلماً أو مسيحياً، المهم أنه رجل في الخمسين، وهو من الطراز الذي يعرف ما ينبغي عمله· دعك من أنه يستمتع بهذه الأمور بشكل واضح· سرعان ما يصل وقد بدا عليه الحزم وقلب شفته السفلى في قرف ولسان حاله يقول: انتهى المزاح، لقد جاء الخبير· يجلس في مكان الصدارة ويصدر تعليماته في حزم: ـ ''لا نريد تخبطًا· سوف يتم الغسل هنا، وبعد هذا ننقل الجثمان إلى مسجد (السرجاني) حيث تتم الصلاة عليه··· صه! لا أريد معارضة وتخبط رأي· العزاء سيكون في قاعة المناسبات بعد صلاة العشاء··· ش ش ش!··· أعطوني ورقة وقلمًا!''· هكذا يصدر الأمر وعيناه تطلقان الشرر، ويهرع الجالسون مرتجفين ليحضروا له ما طلب· يمسك بالقلم ويبدأ الكتابة في فخر: ـ ''بقلوب يملؤها الأسى ننعي فقيد عائلة (الشماشرجي) المهندس (الشماشرجي عبده الشماشرجي) المدير السابق لشركة الشماشرجية ووالد كل من ··· ونسيب أسرة وأسرة··· الخ···''· ويملأ النعي في كبرياء وفخر· أسعد لحظة في حياته هي اللحظة التي يموت فيها شخص يعرفه ليسعد باستعراض كل الأسماء المهمة التي تضمها أسرته· يوشك أن يبكي تأثرًا عندما يكتب: ''ونسيب اللواء محمد الشماشرجي بجهاز أمن الدولة، والعميد محمد الشماشرجي برئاسة الجمهورية·· و···''· يسمع صوت بكاء من ابن الفقيد فتتسع عيناه وينظر له نظرة مرعبة: ـ''شريف!··· تماسك وإلا···''· ثم يواصل اللحظات الممتعة حتى يوشك على التأوه من فرط النشوة وهو يكتب أسماء كل السادة الذين تضمهم القائمة، ثم يناول الورقة لأحدهم ويأمره في حزم أن يحملها إلى الصحف· ـ ''لو قالوا إنه لا مكان لهذا النعي في صحف الغد، فلتقل لهم إن العميد محمد الشماشرجي برئاسة الجمهورية يأمرهم بإفساح مكان له···هه؟ أنا لن افعل كل شيء بنفسي· أنتم مجرد أطفال لا تستطيعون عمل شيء· اخرس يا شريف!''· ثم تشيع الجنازة التي يتقدمها لبيب وهو يضع نظارة سوداء وقد رسم التأثر على وجهه، لكنه لا ينسى توبيخ حملة النعش· يغيبون الجثة في القبر، ويقف ابن الفقيد وهو متماسك راض بقضاء الله راغبًا في قراءة بعض آيات القرآن على قبر أبيه، هنا تحدث الظاهرة التي لا أفهمها وهي أن كل واحد من الواقفين يشخط في الفتى ويجرونه جرًا بعيدًا عن القبر بدعوى حمايته من الانهيار· الفتى يقسم بالله العظيم أنه متماسك وأنه يريد أن يترك وشأنه لحظة، لكن (لبيب) لا يرحمه· رأيت أبناء متوفين يتلقون علقة ساخنة على قبور آبائهم· الكل يجرهم··· الكل يدفعهم··· الكل يلكمهم في أكتافهم مع ترديد: يلّله··· يلّله! هيا!··· انتهينا· وسرعان ما يجد ابن الفقيد نفسه خارج المدافن كلها مبعثر الثياب مغبرًا، ولربما نزف الدم من أنفه من كثرة ما تلقى من لكمات، ثم يظهر الأخ لبيب من مكان ما ليشخط فيه وهو يرمقه بنظرة نارية: ـ ''ما لعب العيال هذا! ألا تتماسك وتكون رجلاً؟'' نعم، لا أستطيع في أحيان كثيرة أن أشهد طقوس الدفن والعزاء من دون أن أضغط على أسناني بقوة كي لا أضحك··· لو ضحكت لكانت نهايتي خاصة لو كان الأخ (لبيب) قريباً· قتلت في مراهقتي نصف أفراد أسرتي، فكنت كلما تشاجرت مع أحد إخوتي أو نهرني من هو أكبر مني، وكلهم كانوا أكبر لأنني الأصغر، رفعت يدي نحو السماء وقلت: اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر·· وبأسرع وقت ممكن· ولحسن الحظ، أن الله لم يستجب لأنني كنت شيطاناً بلا ذيل· بعد انقضاء تلك الفترة الغبية من حياتي، انقلبت مشاعري مائة وثمانين درجة، ورحت أبكي حين أتخيّل أن أحد أفراد أسرتي سيرحل عني، وكان البكاء يتحول إلى نحيب لو كانت أمي، ويصبح عويلاً ونزيف دموع وسوائل أنفية قد تستمر ساعة كاملة لو كان المتخيّل هو أبي، أطال الله في عمره وجعله يدفنني بيديه الحنونتين· وقد حصل أن بكيت بكاءً مريراً في المقبرة حين رأيت أبي يقرأ الفاتحة على روح أحد معارفنا، ولم يكن البكاء حزناً على الميت وإنما حسداً له، لأن أبي يقرأ عليه الفاتحة لكنه ربما لن يشهد موتي ولن يقف على قبري· وكانت أمنيتي في فترة من فترات شبابي أن أموت قبل الجميع، فلا أشهد رحيل أحدٍ منهم· ثم صار أن فكّرت مرة في الأنانية ''الموتيّة'' التي أتصف بها، فكما أنني لا أتمنى أن أشهد رحيلهم، فهم كذلك لا يتمنون أن يشهدوا رحيلي·· يا لها من مصيبة! كان المخرج الذي توصلت إليه مأساوياً لدرجة غريبة، هو أن نموت جميعنا في لحظة واحدة، كأن نركب طائرة وتسقط في المحيط، أو يقع زلزال يدمر بيوتنا على أم رؤوسنا، أو نتسمّم في اجتماع عائلي بعد تناول أكل المطعم، وغيرها من أفكار غريبة· لكن كان هذا الحل، بالإضافة إلى أنه خيالي وبشع، يؤلم كثيراً من سيتبقى من أفراد العائلة، فلأبي وأمي أخوان وأخوات، ولإخواني وأخواتي زوجات وأزواج وأولاد، فهل من الإنسانية أن يفقدوهم لأن خالهم أو عمهم أو نسيبهم لديه أفكار غبية؟ وإذا كان هؤلاء أيضاً معنا في الطائرة أو شاركونا السمّ ''المطعمي''، فلزوجات إخواني، وأزواج أخواتي، أهل وأسر، فما ذنبهم؟ لم أتوقف عن التفكير في كيفية الخلاص من هذه المشكلة، وبقيت حائراً في الحل الأنجع إلى أن حصل ما يحصل منذ آدم وحواء: تزوجت وأنجبت قرّة عيني وعدسة نظارتي، أعني ولدي وحبيبي· ومنذ ساعة ولادته، بل وحتى حين كان نائماً ويشخر في بطن أمه، وأنا أفكّر في هذا المخلوق وأقول في نفسي: كيف ترحل عنه ومن سيربيه ويعطف عليه ويغدق عليه الحنان والمحبة؟ يا لها من مصيبة كبرى لا حلّ لها· فإذا ما رحلت قبل الآخرين، سيبقى هذا الولد، الذي رزقه الله بأخت له، فمن لهذين الطفلين البريئين؟ وإذا لم أرحل وبقيت سنداً لهما، فإنني لا محالة سأشهد رحيل أحد أفراد أسرتي· إنني أنتظر قضاء الله، وقد فاتحت أختي بهذا الموضوع فضحكت على غبائي كثيراً وقالت إذا لا قدّر الله حصل هذا وكنت المُعزى فينا، فسيعطيك الله طاقة الصبر· يوميات عباس وشقية وين السمك وينه ؟!! ؟ عباس: ''اتصال من الدوام الساعة 9,30 صباحا''·· هااا بعدك راقدة؟ يالله نشي··· شو غدانا اليوم؟ مشتهي ''صالون هامور ومشخول''· ؟؟ شقية: يالله بصباح الخير! شو فيك متصل فيني من الصبح ''تتنسى'' عليه؟ ما شَيْ لا هامور ولا حتى نيسر· انت تحلم، غير صالونة اللحم ماشيْ واسترالي بعد مب محلي· ؟ عباس: شو شو شو!؟ تأكلينا على كيفك··· لا! أنا قلت صالونة هامور هذا هو، شوفي شغلك حبوبة! ؟؟ شقية: لا إله إلا الله، انقوله تيس قال حْلبوه! يا ريال ماشيْ سمك في السوق· اتراهن؟! ييب انت السمك وفالك طيب ''بو العيس'' مرة ما يهمك، بس تراني بسوي مرق اللحم للطواري بعدين بتاكلني· ؟ عباس: ليش نحن وين عايشين· نحن هل السمك ونتحسر عليه· لو ما يحاوطنا البحر من كل صوب بعد قلنا ما عليه؟! ؟؟ شقية: بسك من الهذر بان واترخص من دوامك· خبرهم المدام بتربي ولّه الوالدة مريضة بوديها الدختر، صيد السمك وتعال· ؟ عباس: صدقك أم العيس من عقب الهيكلة اليديدة ماشيْ كاني ماني· عباس: ''في سوق السمك المركزي''، كم هذا رفيق؟ هذا مَنْ واحد 260 درهم، زين ما في هامور؟ هامور من متى أنا ما يشوف هامور واحد داخل سوق ما يعرف وين يروح؟! زين شعري، زبيدي، صافي، جش، بياح، قباب، زين نيسر ما في؟ ؟؟ كوتي نصاب 1: شوف بابا انت يمكن من زمان ماييجي سوق مال سمك· الهين سمك ما في سيم سيم اول· هذا نفرات مال جمعية يشيل كلش سمك ما يعرف وين ودي؟ ؟عباس: كوتي، شو انت يفكر انا هندي ما يعرف؟ بابا مال انا في نوخذة اول، وكان عنده محمل يشيلك ويشيل نص كالكتا بعد· كوتي انت نذل!! ؟؟ شقية: هاااا·· حصلت شي زين؟ ؟ عباس: شو عندك متصلة؟ مب متفيج لك احينه· يالس ادور سمك اللي حصلته بايت مب ''فرش''، يالله جالو كاروه! ؟؟ كوتي نصاب 2: بابا تعال منيه انا في منيي سمك واجد زين ''لونج اكسبايري''· ؟ عباس: شو بعد هذا ''لونج اكسبايري''؟ نوع يديد مستورد؟ مال وين هذا رفيق؟ ؟؟ كوتي نصاب 2: انت بابا ما يشوف؟ شوف شوف هذا كلش نفرات يشيل··· 2 درزن··· 7 درزن· ؟ عباس: درزن، ليش انت تبيع موز وبرتقال وهمبا؟ ؟؟ كوتي نصاب 2: شو موز شو تفاح؟ بابا هذا سمك مال ''علالي'' مال ''كاليفورنيا'' قول كم يريد ''جلدي كاروه''· ؟ عباس: شو تونه قواطي؟ حتى قواطي التونه يمَّعتوها من الجمعية واحتكرتوها وبعتوها علينا يا قوطي! يا كوتي! ؟؟ كوتي نصاب 2: ايوه·· يريد وله ما يريد؟ نفرات تاني في موجود يريد يشيل يالله! ؟ عباس: لا عمي كوتي بشيل بشيل· جيب اثنين درزن الله يخليك بس لا تنظفهم!! ؟؟ شقية: هااااا··· سبع ولا ضبع بوالعيس؟! ؟ عباس: لا·· قوطي! تقترب السيارة ''الرولز رويس'' من بوابة الفيلا، ينزل ''الشوفير'' وبيده الملفوفة بالقفاز الأبيض يمسك مقبض باب السيارة ويفتحه ثم ينحني لي باسماً، أمد قدمي اليمنى فيتلألأ حذائي الأسود اللامع تحت الضوء، أنزل بهدوء، فتومض في وجهي فلاشات عدسات المصورين، تتجه كوكبة من البشر باتجاهي، لكني لا أكترث لهم وأشق طريقي نحو بوابة الفيلا· أدخل فأرى أناسا كثيرين، هناك حفل صاخب ترقص فيه أجمل الفتيات التي يمكن أن يراهم المرء مجتمعات في بقعة واحدة، وما إن أتخطى الباب حتى تتجه أنظار كل الفتيات إلي، وتقترب مني بعضهن ويلمسن طرف بذلتي السوداء الناعمة، لكنني أتحاشاهن وأستمر في طريقي وفي رأسي موسيقى حزينة حالمة، أما عيني المتلهفة بكبرياء فتتلفت في الأرجاء بحثا عن امرأة واحدة، هي حبيبة الروح التي شغلتني عن كل هذا الضجيج الذي يدور في بيتي، بعد أن ظن طاقمي وخدمي وحشمي وحراسي الشخصيين أنهم قادرون على إخراجي مما أنا فيه بترتيب هذا الحفل، ظنا منهم أنهم قادرون على مفاجأتي، ولكن···!· أمشي ببطء والموسيقى الناعمة ترافقني كشالات الحرير وهالات الضوء، تنفلت من عيني دمعة بيضاء صافية متلألئة، تلتمع في الضوء وتنحدر عن خدي على مهل متخذة طريقها نحو الأسفل (ستصل للأرض بعد نصف ساعة)، أتجه إلى كرسي مخملي أحمر في زاوية قصية من بيتي الواسع وأجلس عليه، يدور الأثاث والناس والأشياء من حولي دورانا باردا، والفتيات الفاتنات يتساءلن: ''ما الذي يشغل بال الفارس النبيل ذي الوجه الفاتن''؟ ولا يطول الأمر طويلا حتى تطل امرأة الأحلام، جميلة الجميلات، حبيبة العمر المنتظرة على أرصفة الحنين، تشق طريقها نحوي بكل ما أوتيت من قوة وقد غلبها الشوق إلي، جاءت نادمة آسفة معتذرة لهجرانها لي، أفتح عيني في عينيها كما يفتح المسافر الغريب نافذة القطار الأخير، فتجهش ببكاء هادئ لم تستطع كتمانه ومغالبته، فتقترب مني وترمي برأسها على كتفي، أمد يدي فأحتضنها حتى كادت يدي تغيب في شعرها الأملس كخيوط سالت توا من حرير الشمس، يلتف حولنا الجميع ويصفقون بحرارة مطلقين صيحات الترحيب والفرح، ويصفقون وينثرون علينا قصاصات الأوراق الملونة الزاهية، ويصفقون، ثم··· أ··· ثم··· ويصفقون، أأأ، ثم، أوف يا إلهي!؟· لقد سرحت بخيالي المريض كالعادة، كان يفترض بي أن أكتب مقالة لهذه الزاوية، وإذا بي أتخيل نفسي مغنيا في فيديو كليب، مغنياً غارقاً في عالم الشهرة والمجد، بدلا من الغرق في تعب مهنة المتاعب صاحبة الجلالة، ''صحيح، تعال···، أنا شو الّلي خلاني أصير صحفي؟ يا ربي شو اللي ورطني في ''الساخرون'' أصلا؟ شو اللي رماني هذي الرمية السودة؟''·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©