الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طرزان ظل شاباً بعد موت مؤلفه

طرزان ظل شاباً بعد موت مؤلفه
6 ديسمبر 2007 04:13
قد يبدو سؤالنا مَنْ هو طرزان؟ سؤالاً ساذجا مع علامة تعجب كبيرة!·· ولكن سؤالنا مَنْ هو مؤلف روايات طرزان ليس كذلك·· فالمؤلف هو الأميركي أدجار رايس بوروز المولود سنة ·1875 رجل متوسط الطول، خشن البنية ومحب للحياة العسكرية بتأثر من والده، عاش حياةً كلها إخفاقات وفشل·· فشل يلاحقه في كل عمل· ثم أصبح أدغار مندوباً للكولا، وهي وسيلة لتشجيع مدمني الخمر على الإقلاع عنها، وراح ينشر الإعلانات في الصحف الرخيصة، وهنا اهتم بقراءة الروايات والقصص المنشورة في هذه الصحف، فتبين له أن الكتابة يمكن أن تكون وسيلة للكسب مع كل هذا التهريج الذي يقرأه في الصحف من تفاهات يسمونها ''روايات''، ولكنه كان يفتقر إلى الوسيلة لإدراكه أن تعليمه البسيط لا يؤهله للكتابة، خاصة أنه يجهل قواعد لغته، على الرغم من اختزان ذاكرته لتلك القصص التي كان يحكيها له أبوه العسكري برتبة ميجور عن الحرب الأهلية الأميركية التي عاشها يوماً بيوم زمن الحرب من سنة 1861 إلى ·1865 بلغ مجموع المهن التي امتهنها بوروز 18 مهنة انتهت كلها إلى الفشل لعل أطرفها أنه كان يراسل بعض التجار ليرشدهم إلى أفضل الطرق للوصول إلى المشاريع الناجحة التي يفتقر إليها هو· وحين تزوج وأصبح أباً لثلاثة، راح يتساءل لم لا يجرب الكتابة عن عوالم بعيدة ومجهولة حتى لا يُوقع نفسه في دائرة المساءلة التي تقلقه على الدوام، عوالم تدور في خياله وحده وتعيش في داخله هو ولتكن عن مخلوقات ليس لها مثيل في عالمنا الأرضي، بل لا يجب أن تنتسب إلى عالم الأرض فكانت ''دياتورس ملكة المريخ''· رواية كتب نصفها ثم عدل عنها لأنه اعتقد ألاّ أحد سيهتم بمثل هذه التفاهات، ولكن عائلته ومتطلباتها حتمت عليه المحاولة، محاولة الارتزاق من الكتابة· أرسلها إلى إحدى دور النشر ليأتيه الجواب أن ابعث ببقية الرواية وهو ما لم يصّدقه· حصل أدغار على 400 دولار عن هذه الصفقة وهو مبلغ كبير قبل قرن من اليوم تقريباً· هذه الحادثة جعلته يشحذ ذهنه للبحث عن عوالم جديدة يكتب عنها، تذكر كتاب ستانلي الذي طبع منه 500 نسخة فقط ويتحدث عن إفريقيا، ذلك الكتاب الذي أحبه يوماً وألهب خياله، استعان به ليتعرف على الحياة في إفريقيا التي لم يزرها حتى وفاته· رسم عالماً متخيلاً عن بطل يترعرع ويعيش في الغابة، بطل تربيه القردة، اختار له اسما يتناسب والمكان الذي يعيش فيه، اسما قصيراً وسهلاً، اسماً وكأن القردة اختارته له·· ''طرزان'' شفْف فَ شاب في الخامسة والعشرين· يمتلك صوتاً أو قل صرخة مميزةً يوحي من خلالها بامتلاك الغابة ويُخضع حيواناتها بها· وكانت تلك الصرخة المتصلة المميزة والمكونة من خمسة مقاطع تتفاوت في الطبقات والحدة حتى لنكاد نسمع صداها في أعماقنا: صرخة إنسان حادة ممزوجة بصرخة حيوان مكتومة مع طبقة صوتية مرتجفة تصدر نغمة طويلة تحاكي صرخة حيوان مفترس·· تلك هي الصرخة التي يجب أن تنطلق لتسمعها حيوانات الغابة لبطلها الذي ربته القردة فيها ليصبح سيدها· ولا تزال صرخة طرزان مدّوية في عالمنا اليوم نكاد نسمع صداها حتى عند صمتنا وتخيلنا صورة طرزان! ولادة صعبة في هذا العالم الجديد، عالم غابات إفريقيا يستطيع بوروز أن يطلق العنان لخياله الخصب، ذلك العالم المجهول الذي يضيف مشكلة جديدة بوجوده إلى مشاكله المتأصلة من جهلة بقواعد اللغة وتقنيات السرد الروائي، مع جهله بالجغرافيا والتاريخ وغيرها من الأمور التي يمكن أن تساعده بدل أن تُعقد الأمور· طرزان ينحدر من أبوين انجليزيين هما اللورد جون جرايستوك والأم أليس، أبحرا في مهمة تجسسية على نظام استعماري أوربي ثانٍ في إفريقيا، حصل تمرد على ظهر الباخرة وخشي قبطانها إعادة اللورد إلى لندن تجنباً للمحاكمة فأنزلهما على ساحل إفريقيا مع بعض الأمتعة· هناك بنيا لهما كوخاً ورزقا بولد هو ''طرزان'' تموت أمه بعد ولادته، يجاور ذلك الكوخ قطيع من القردة الضخمة بقيادة كرشوك الذي يحوم حول الكوخ لحماية منطقته من الدخلاء متحيناً الفرصة للهجوم· وهذه الفصيلة من القردة التي وصفها بوروز بأضخم من الغوريلا فصيلة لا وجود لها في الواقع اليوم وهي وليدة خيال بوروز نفسه· كرشوك يهاجم ويقتل اللورد جرايستوك ولكن كالا زوجة كرشوك والتي توفي صغيرها قبل فترة قصيرة تنقذ الطفل من بطش كرشوك ظناً أنه ابنها فتربيه وتسميه ''طرزان''· هكذا ينمو طرزان في الغابة مع القردة، إلا أنه يدرك أنه مختلف عنها فخَلقه ليس كخَلقهم، فمه صغير وشعره قصير وصورته التي تظهر في الماء تؤكد ذلك· تلك كانت بداية محفوفة بالمخاطر لكاتب مبتدئ لم يزر إفريقيا ولم يعش حياة المغامرات رغم حبه لها·· تصدر الرواية سنة 1914 وتُنشر مسلسلة في إحدى الصحف، يتحمس لها الجمهور الذي يطالب بمعرفة النهاية ويرفد الجريدة بمعلومات عن إفريقيا وعالم الحيوان، جمهور يبلغ به الحماس أن يختلق العذر لهفوات الكاتب نفسه· فعندما يتحدث الكاتب عن النمر الإفريقي يغيب عن علمه أن النمر لا يعيش في إفريقيا وإنما في آسيا، ولكن الجمهور المتحمس للرواية وكاتبها يبرر ذلك بأن الكاتب يعني بالنمر هنا الفهد وهو حيوان يعيش بكثرة في إفريقيا· استمر بوروز بإصدار رواياته المربحة عن طرزان بمعدل رواية واحدة سنوياً· حيوانات طرزان ،1916 ابن طرزان ،1917 طرزان وكنوز أوبار ،1918 طرزان وحكايات الأدغال ،1919 طرزان الجبار 1920 ، طرزان المخيف ،192 طرزان والأسد الذهبي ،1923 طرزان ورجال النمل ،1925 توأم طرزان 1927 ·· وهكذا فروايات طرزان ومغامراته بدأت ولن تنتهي عند حد على الأقل في ظل حياة بوروز· ثم جاء دور السينما خاصة مع بداية السينما الناطقة فكانت صرخة طرزان تُسمع وتُرى من خلال الشاشة الفضية عندما قام الممثل والبطل الأولمبي في السباحة جوني ويسملر بتمثيل دور طرزان في أول الأفلام المنتجة لروايات طرزان سنة ،1918 حينها أخذ الفيلم طابع الشهرة الشعبية ممهداً لنجاح أفلام طرزان اللاحقة حتى أصبح مجموع أفلام طرزان حتى نهاية القرن العشرين 47 فيلماً، عدا المسلسلات في الإذاعات والتلفزيونات والصحف والمجلات وبكل لغات العالم، فضلاً عن عمل كارتوني ضخم أنتجته شركة والت ديزني العملاقة· كل ذلك يعطينا تصوراً لعدد ملايين النسخ التي بيعت ولا تزال من روايات طرزان أثناء وبعد وفاة مؤلفها أدغار رايس بوروز سنة ·1950 نجاح بعد الفشل بوروز الذي كان غارقاً في الفشل والديون أصبح إنساناً ناجحاً وغنياً بعد نشر روايات طرزان، ثم حقق أحلام شبابه واشترى مزرعة يكتب فيها ويستمتع ويمارس هواياته ثم قام ببناء مدينة أسماها ''طرزان''، وضاعف جهوده في نشر عدد أكبر من روايات طرزان حتى وصلت إلى ثلاث روايات سنوياً· وبعد أن تقدم العمر ببوروز كان حب العسكرية لا يزال يعيش في دمه، ولما لم يتمكن من الالتحاق بالخدمة العسكرية فقد فضلَّ أن يعمل مراسلاً حربيا خلال فترة الحرب العالمية الثانية· ولكن بوروز وقبل وفاته طلب ضمانات كافية، على أن تستمر بعد موته، بألا يصيب طرزان أي مكروه كأن يموت أو يُكسر أو يُجرح وأن يبقى مفعماً بالحيوية والشباب والقوة والجمال، حتى أن بوروز اعترض بشدة على مشهد يظهر فيه طرزان ضاحكاُ· وبعد وفاة بوروز زاد الاقبال على كتب طرازان وأسست شركة أدغار رايس بوروز لإدارة تركته وحاولت إيجاد اهتمامات جديدة حول مؤلفات بوروز طالما أن كتبه المطبوعة مربحة· ولكن بوروز لم يسلم من النقد اللاذع وإن كانت كتبه أصبحت مجالاً للبحوث الاكاديمية، فهو نفسه لم يكن راضياً عن أعماله كل الرضا وقد اعترف مرة قائلاً: ''أنا لا أعتقد أن عملي من الأدب ولن أخدع نفسي حول هذا''· ومن هذا المنطلق حاول كتابة روايات عن حياة السكان الأصليين لأميركا ما بين سنة 1912 - ·7391 غير أن سيرة حياة بوروز ورواياته كانت ولا تزال تنتشر وستنشر أكثر، كما تُرجمت أعماله إلى أكثر من 50 لغة عالمية· ولكن لماذا كل ذلك الحماس من جمهور القراء وكل ذلك النجاح لروايات طرزان؟ الجواب عائد إلى أن البطل طرزان موجود أصلاً في أعماق كل إنسان، طرزان الذي يمكن أن يفاجئك في اللحظة المناسبة والحرجة ويخّلصك من موت محقق على يد حيوان مفترس أو أفعى سامة أو خطر محيط بك، إنها قضية الخير الفطري الموجود في أعماق كل إنسان· ويرى البعض الآخر أن طرزان يمثل قمة تكوين الإنسان لنفسه وتعليمه لذاته والذي يتحدى بذلك الحضارة الحديثة وسحق الآلة، ويُظهر أجوبته الخاصة لأزمات الرجولة وهو مفهوم يوازن به الإنسان رغباته الدفينة أمام موجات التكنولوجيا المتطورة· طرزان الذي طوّر نفسه وعلّم ذاته ونّمى قواه العقلية يذّكرنا بقصة ''حي بن يقظان'' لابن حيان على الرغم من أن القصة الأخيرة هي الأقدم· واليوم أصبح مجرد ذكر كلمة طرزان كافٍ لكي تقفز إلى أذهاننا صورة ذلك الإنسان شبه العاري، الفتى الشجاع، ابن الغابة العارف بطرقها ومسالكها والمستعد دائماً لمواجهة المخاطر أو تفاديها·· طرزان القادر على التنقل بين أرجاء الغابة من خلال مجموعة من الحبال ثبتها في أعالي الأشجار تمكنه من التأرجح عليها والانتقال من شجرة إلى أخرى، حتى أصبح عالمنا اليوم عالماً فرض فيه طرزان وجوده صوتاً وصورة وبات حقيقة ''خيالية''· وقد نقلت وكالات الأنباء مؤخراً خبراً مفاده أن أحد الأشخاص اتخذ من إحدى الغابات موطناً له وحاكى فيها حياة طرزان في المأكل والملبس، متنقلا بين أشجارها على مجموعة من الحبال ثبتها في أعالي الأشجار مقلداً لخيال بوروز في خلق هذه الشخصية، وقامت الكاميرات بتوثيق ذلك وعرضه في وسائل الإعلام المختلفة· هل تذكر عزيزي القارئ أول فيلم شاهدته عن طرزان؟··· وهل تتذكر رفيقته الشمبانزي الذكية شيتا؟··· ثم السؤال الأهم بعد كل ذلك: هل تشعر حقاً أن طرزان موجود في أعماقك؟!!····
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©