الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مكائد الصورة وأفول المعنى

مكائد الصورة وأفول المعنى
6 ديسمبر 2007 04:13
في منتصف القرن الماضي وجه أدونيس إلى السياب قصيدة طلب منه رأيه فيها· والراجح أن السياب قد وقف محتارا أمام خيارين: تمجيد القصيدة حرصا على الصداقة أو المجاهرة بموقفه الرافض لظاهرة تحلية النصوص الشعرية بالصور التي لا يقتضيها المعنى ولا حاجة للشعر بها· الراجح أيضا أن السياب إنما اختار الموقف الثاني دفاعا عن الشعر· فلقد كتب مخاطبا أدونيس: ''كانت قصيدتك رائعة بما احتوته من صور، لا أكثر· لكن هل غاية الشاعر أن يرى قرّاءه أنه قادر على الإتيان بمئات الصور· لو لم تُبقِ منها سوى مقطع واحد لما أحسست بنقص فيها· ليس هناك نمو للمعنى وتطوّر له''· (رسائل السياب، ط،2 ،1994 ص135) ليست الصورة الشعرية مجرّد حلية تنضاف إلى المعنى لتحليته وزركشته· إنها الموضع الذي ينكشف فيه الجدل المفترض بين وعي منتج النص والعالم· فإن عطّل ذلك الجدل فقدت الكتابة الإبداعية شرف الاسم، وتحولت إلى استيهامات فردية لا يديرها غير الاتفاق والصدفة· لقد كان المنظرون العرب القدامى على وعي بأن الصورة تنهض في الكلام بمهمتين: مهمة جمالية ذلك أنها تقلب السمع بصرا كما يقول ابن رشيق لاسيما أنها مادّة تقدّم للحسّ وترى في الذهن كأنها مشاهدة في الأعيان؛ ومهمة دلالية ذلك أنها ترفد المعنى الذي ينشد الكلام ابتناءه· إن شعرية الكلام وجماليته لا تنتج عن توليد الصور وتشقيق المجازات، بل هي راجعة إلى التناغم الإيقاعي· فمن عناصره يستلّ النص ما به يبتني إيقاعه· لذلك يتّخذ الإيقاع طابعا انتشاريّا· يطال مستوى الحروف وأجراسها التي تظلّ تستعاد، إن كلاّ أو جزءا، على نحو دوري منتظم· ويتحكّم بالكلمات وصيغها الصرفية وكيفيات تماثلها واختلافها صوتيا ودلاليا وكيفيات تعالقها وابتنائها للصور· ويندسّ في طرائق تجاور تلك الصور وطرائق تشابكها وتحوّلها إلى لوحات أو مشاهد· وينبثق عن العلاقات النصّية التي يقيمها الكلام بين الأزمنة والأبعاد جميعها: الواقعي والخيالي والأسطوري· غير أن الناظر في الراهن الشعري العربي سرعان ما يدرك أن ظاهرة تكديس الصور في النص الشعري الحديث راجت وانتشرت وكثيرا ما أودت بالكتابة إلى خرابها وبالمعنى إلى أفوله· فافتضح الشاعر وافتضح الشعر· يكفي أن نتلفّت إلى دواوين شعراء ما يسمى ''عصرالانحطاط'' وسنلاحظ أن الشعر، في تلك الفترة، قد خرج عن حدّه وتحوّل إلى ألغاز ومعميات وأحاج شعرية· كف عن كونه كتابة وصار مجرد إنشاء وصنعة وإقامة في عالم الدوال، وانتفى الجدل المفترض بين وعي الشاعر ولحظته التاريخية· هل هو العود على البدء؟ أم تلك مكائد اللعب بالصور دون عقل مدبّر وتمرّس بمضايق الشعر؟ طويلا ظلت القصيدة العربية تبحث عما يضمن لها الخروج من دائرة الإنشاء إلى دائرة الكتابة باعتبارها فعل وجود لا مجرّد تشقيق للصور والمجازات التي لا طائل من ورائها· وطويلا ظل المتلقي العربي يشيح بوجهه عن هذه النصوص التي تروج من حوله خالية من المعنى· هل هي مكائد الصورة؟ هل هو العجز عن التمرّس بمضايق الشعر؟ عبثا نبحث عن إجابة مقنعة: إن أفول المعنى أمارة على أن الثقافة التي تهاوى فيها المعنى ثقافة تمرّ بتصدّع تاريخي خطير·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©