الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لا توجد أمة أو حضارة نشأت صماء خرساء الروايـة فعـل مـاضٍ ومضـارع مستمـر

لا توجد أمة أو حضارة نشأت صماء خرساء الروايـة فعـل مـاضٍ ومضـارع مستمـر
6 ديسمبر 2007 04:08
الإمارات لم تكن في يوم من الأيام في معزل عن فعل التاريخ، بل هي في صلبه ومن أتونه، ولا يمكن للتنظير الشفهي أن يقدم فكرة تتفاعل مع الذهن، اذا لم يشتغل أصحابه على فعل التفاصيل، ومشاهد التاريخ وفكرة الحاضر، هي فكرة لا تزال في طور التكوين ولم تنضج بعد، فثلاثة عقود من الزمن لا تعني الكثير في عمر الإنسان الذي يختزن في ذاكرة القرون، لذلك الكتابة عن الحاضر بحذافيره بمعزل عن التاريخ هي تحليق في الفضاء الخارجي، ونحن بشر نعيش على الأرض، ولابد لنا أن نتفاعل مع تضاريسها، وننشغل بالصخرة قبل مركبة الفضاء الطائرة· والتاريخ، يحمل هم الإنسان وهاجس وجوده، والوجود البشري لا يرتبط بشكل إيجابي بالموضة·· هناك فرق بين المنشغل بالوجود والمنشغل باليومي·· فاليومي لا يصلح إلا لأغاني ''الهشك بيشك''، أما الوجود فهو منغرس في اللاشعور الجمعي، منغمس بدورة الدم وحركة التاريخ، والرواية لم تأت لتواكب موضة، أشبه بالقذفة، ولا هي مرحلة ما بعد الفراغ·· الرواية حلم، والحلم كتابة التاريخ الحقيقي، دون تشويه أو تسويق، أو تدخل لمنتفع، لا حس لبقايا مستنقع·· الرواية ليست نقلا لواقع طارئ بقدر ما هي إعادة صياغة لواقع، وتهذيب وترتيب الزجاج المتكسر·· الرواية معالجة الحلم، لا ترويج لوهم يكاد يطفو على السطح كأنه الفقاعة· هذا العالم الفظيع، في الكائن الواحد، والتراكم الكمي والكيفي في النفس البشرية لا يبسطها تنظير سريع، ولا يقاربها مفردات منقولة، محفوظة عن ظهر قلب·· الرواية وحدها التي تستطيع أن تقترب من هذا الجحيم اللذيذ، اذا استطاعت أن تتحرر من صهد التأطير والقوالب الجاهزة·· الرواية جاءت مع مجيء الإنسان وتطورت بتطوره، ومع النشوء والارتقاء يستقر التاريخ كشاهد وراصد، ومن يسخر من التاريخ فإنه يلغي فقرات من العمود الفقري· والراهن قشة بائسة، اذا لم يضع عند الخاصرة حزاماً اسمه التاريخ، يشد أزره ويحمي وجوده·· حركة الكائنات لم تأت فجأة، بفعل فاعل مجهول دائماً، هي الذرات المتراكمة التي تصنع الانفجار الكوني، وتكون الجديد المستند إلى قديم، وهكذا·· أما الاعفاء فهو عبث، وهرطقة تفرغ الأشياء من معانيها، وتعيد الفكرة إلى نقطة الصفر· نحن حداثيون إلى درجة التمسك بالماضي، متجددون إلى حد الاعتراف بالبناء الاجتماعي، الذي هو مجموعة أحداث تراكمت وتشكلت كما هي الرواية· فلاشيء يبدأ من لاشيء· الاجتزاء والتشويه المدينة الجديدة الراقصة لم تأتِ من فراغ، إلا أنها نمت وترعرعت ناشئة ومتصلة من حي وقرية· فالمجتمع كائن حي يبدأ من قذفة ثم مضغة، إلى أن يصبح يافعاً· واجتزاء الأشياء يعني تشويهها، وإقلال مروع لتكون الكائن الحي· هذا موجز لمداخلة أردت أن أتواصل بها مع من أدلوا بدلوهم في شأن الرواية في الإمارات، وهو اجتهاد قد نصيب به وقد نخطئ، المهم في الأمر أننا نتواصل، ونفتح الصدور، لينتشر في الحوار ويكون مفيداً·· وقد دارت الآراء حول عدة محاور أساسية، وجوهرية في هذا الموضوع، وأود هنا أن أخوض مع الخائضين، وأجول مع الجائلين، وألوب مع اللائبين، ببعض الأفكار المتواضعة، لعلها تسهم ولو بالجزء اليسير في إضاءة الموضوع· في اعتقادي لا توجد أمة أو حضارة نشأت على وجه الأرض صماء بكماء خرساء، بل إن السؤال بدأ مع بداية الإنسان، ثم ارتقى السؤال، مع نشوئه، وما ورد في القص القرآني، منذ أكثر من أربعة عشر قرناً، يكفي أن تمنحنا ضوءاً أخضر، لأن نمنح السؤال حقه في التوسع، والتشعب، والسؤال ولد هكذا مفتوحاً، منذ الجمع والالتقاط، وحتى الإقطاع، ثم الرأسمالية، وما جاورها، وحذاها، وتلاها، من اشتراكية إلى اشتراكية واقعية، إلى شيوعية بدائية إلى مشاع· بداية لا تستطيع أمة، أن تجزئ التاريخ، كما أنها لاتستطيع أن تختزل الجغرافيا، فالتاريخ حبل سري متصل لا منفصل، وعمل من أعمال الفكر الإنساني، ولا أتصور أن الإمارات أنجزت عملاً حضارياً، منفصلاً عن الماضي، ولا أتصور أن الماضي الذي يعتبره البعض فعلا ماضيا، كان ماضياَ، ينطلق من وادٍ غير ذي زرع ولا ضرع، بل إن هذا الماضي الذي يحاول البعض التبرؤ منه، هو تاريخ للمكان، الذي سكنه الإنسان وعاش إرهاصاته وصراعاته، وقضايا الملحة، والمصيرية، فإذا كنا نؤمن أن الرواية فلسفة الوجود، فإن الوجود على هذه الأرض شهد زمناً فيه الصراع الطبقي، وفيه النسق المجتمعي المتكامل، من نوخذا مضطهد، وبحار يسعى إلى العتق من نار الاضطهاد، وكان الاقطاعي وصاحب الأرض الزراعية، وكان البيدار، هذه شريحة اجتماعية، تشكل قيمة الموضوع، قيمة الفكرة، ومشيمة الإرهاص، أضيف هنا بسؤال: أيهما الطارئ على مجتمع الإمارات الطفرة الراهنة، أم التاريخ الممتد، عبر قرون ونعتبره ماضياً واندثر، ولا يجب العودة إليه· حرق المراحل أتصور أنه من الظلم حرق المراحل، ومن الظلم أيضاً طمس التاريخ، تحت سنابل اللهاث الآن، والدهشة الكاذبة، وإلغاء اللاشعور الجمعي، الذي تشكلت منه كل هذه الصيغ الاجتماعية، وتبلورت القيمة الانسانية لدى إنسان الإمارات، فلا يعقل أن يهم أي كاتب، في كتابة رواية من الإمارات، يلف من الذاكرة تضاريس الصحراء، ويسكت هدير البحر، ثم يتحدث عن قالب اسمنتي، شب فجأة كالفطر، لا علاقة له بوجدان الإنسان، ولا علاقة له بمجموع المفاهيم، التي تكونت عبر عصور وأزمنة· هذا من جانب، أما من جانب آخر، فإننا لو سلمنا جدلاً بأن الرواية بنت المدينة، والمدينة في الإمارات لم تتشكل بعد، فهنا أسوق تناقضاً وقع فيه الأخوة، فهم من جهة يطالبون الرواية بأن تصد عن الماضي وتلتفت إلى الحاضر المتحرك، المتحضر، ومن جهة أخرى يشيرون إلى أن المدينة في الإمارات لم تأخذ سياقها الكامل في النضج، والنمو كذلك· هذا، لا ينتج رواية متكاملة النضج، تقنية وسرداً، فإذاً هم عن أي مدينة يتحدثون، وعن أي رواية يدور نقاشهم· ثانياً: أنا متأكد، وعلى يقين أنه ليس في الإمارات فحسب، وإنما في العالم العربي، من مشرقه إلى مغربه، لا توجد مدينة بالمعنى الحقيقي للمدينة· فالمدينة مرتبطة بالثورة الصناعية، ونحن والحمد لله في وطننا العربي الكبير، لا زلنا نستورد من الإبرة حتى العقال، ومع ذلك برز في هذا الوطن الكبير، كُتّاب كبار، ونجيب محفوظ المعترف به دولياً، وكذلك ابراهيم الكوني، وعبدالرحمن منيف، وحنا مينا والطاهر وطار، وغيرهم· هؤلاء نشأوا وبرزوا في مجتمعات لا علاقة لها بالمدينة، وإن ما نصفها بالمدن، هي مجرد مجمع أرياف، أو قرى كبيرة· المطلوب ليس روائياً متحركاً في مجتمع ''متحضر'' بقدر ما هو ملح وجوهري وجود الناقد الذي لا يعتمد على ثوابت ونظريات جاهزة حفظها عن ظهر قلب·· فالناقد المطلوب هو الناقد الفطن، القادر على قراءة ما بين السطور لأنني والحقيقة لم أقرأ رواية في الإمارات تقلب الماضي، كما هو وبحذافيره دون أن يكون هناك الاسقاط والترميز وهذا في رأيي انطلاق من الماضي إلى الحاضر بامتداداته دون اختزال أو إلغاء· إذا لم يلتفت الروائي إلى التاريخ وتضمينه بعمل فني، فمن يستطيع أن يرصد كل هذا الزمن المتزاحم بالأحداث والمشاهد· ونحن في الإمارات أحوج من غيرنا إلى هذا بسبب أن الطفرة جاءت مباغتة وبقفزات سريعة وعنيفة طمست الكثير من الملامح سواء على صعيد المكان أو الإنسان وبالتالي، فإن الجيل القادم سوف يخرج إلى العالم بلا ذاكرة، أي أنه سيخرج إلى العالم بثوبه الأبيض وما تحته خواء وفراغ مريع· الحديث، عن عدم وجود رواية في الإمارات لا أدري من أين يأتي هذا الجزم والحسم ولماذا نفرغ الأشياء من محتواها، وننصب أنفسنا أوصياء على الإبداع ونطلق الأحكام، جزافاً ولماذا نتصور أن هذه الأرض بِئر للنفط فقط، ولا يمكن أن تنبت فيها شجرة خضراء؟· لماذا الاعتقاد دائماً، بالمركز والماضي في الوقت الذي أصبح فيه العالم خيمة كونية واحدة يستظل تحت أغصانها كل من على هذه الأرض، ولماذا الفصل بين التضاريس الواحدة في العملية الابداعية في حين أن كل من يدب على الأرض العربية يُؤمن بوجود القاسم المشترك بين أبناء الوطن الواحد، من المحيط إلى الخليج ولا أتصور أن الثقافة بالذات يمكن في يوم من الأيام أن (تكون) لمركز جمارك أو مخفر شرطة أو حدود سياسية· الوعي بالمكان يستدعي، معرفتنا بالتضاريس الثقافية قبل السياسية، وإلا أصبحت الدويلات الثقافية، أفظع وانكأ من الدويلات السياسية· إضافة إلى ذلك فإنني أتمنى على إخواني النقاد أن يضعوا أنفسهم داخل النص الإبداعي، ليفهموا ما يدور من فعل داخل هذا النسيج، وألا يقعوا من فوق ثم يبدأون في إطلاق الأوصاف والنعوت فهم بذلك يفعلون كما يفعل من يقف عند حافة البحر فلا يرى إلا صورته·· فالمطلوب من الداخل أن يقرأ النص الذي يريد تكوين وجهة نظر حوله، لا أن يسرد ما قرأه من نظريات ثم يسقطها على النص· ازدواجية المواقف من الغريب جداً، أن تستنكر وجود رواية في الإمارات ولا تستنكرها في مجتمع آخر، هذا في حد ذاته تمييز عرقي جهنمي التوجه والهدف· فالإمارات كمجتمع لم تأت من فراغ ولا هي وليدة الصدفة، فهذه الصحراء المتسعة وهذا البحر المكتز بالأسرار يكفيان أن يكونا ثيمة أساسية لمئات الروايات واستغرب عندما أقرأ رواية لم تتطرق إلى الصحراء، وفي نفس الوقت يتم التحدث عن الرجوع في الرواية إلى الماضي، فهذه الصحراء ما تعني·· ألا تعني التاريخ بأكمله؟ ألا تعني مجمل القص والسرد في علاقة الإنسان الإماراتي بالأرض والوطن؟· حقيقة تناقض رهيب لا يشجع على التحاور بشكل يؤسس مقاربة ما بين النقد والإبداع، وإن كنت أؤمن بأن الناقد إذا لم يكن مبدعاً فلا يستطيع البتة فهم ما بداخل النص الإبداعي بل يظل يحوم حوله ولا يراه·· فالناقد الحصيف لا يلقي الملاحظات النقدية كما تلقى نوى التمر ولا يستخدم النص الإبداعي كمنشفة يجفف فيها العرق، أتصور ان النقد مهنة شاقة ومضنية والتصدي لها لا يكفي بقراءة النظريات ونقلها بالحرف والكلمة، فهناك وعي نفسي وايديولوجي وبيئي لابد أن تتوفر هذه المعطيات لدى الناقد لتمكـــين الاقــــتراب من أي نص لأنه من السهل جــــداً، أن نقذف بالأحجــــار في البحر لكن من الصعب التقاطها ثانية· فعندما يتصدى الناقد للرواية في الإمارات مثلاً يجب أن يقرأ جيداً تاريخ هذا البلد، وتاريخ الإمارات لا يختزل بالمرحلة الراهنة، بل إن تاريخ الإمارات يمتد منذ جلفار الحضارة التي نشأت قبل الحضارة السومرية في العراق بخمسمائة سنة·· على هذه الأرض عاش بشر وتحركوا وأسسوا مشهدهم الحضاري الخاص، والنخلة التي امتدت جذورها من شعم حتى واحات العين لم تكن عجفاء ولم تتساقط منها الرطب جنياً دون العلاقة الوشيجة مع البيدار الذي واجه جهامة الاقطاعي ببساطة المحب، محب الحياة فكانت الحكاية ولوج الأصابع في الطين المبلل وارتفاع البصر إلى حيث يستقر الغدق الأصفر وما بين الأصفر والرمادي جسد نحيل تصبب عرقاً وانسحل تحت غلظة وفضاضة، وعند البحر رست القوارب الشراعية وسفن الشحن والغوص فهل علم الناقد ما فعلته الصراعات الطبقية بغواص رهن البيت لنوخذا متسلط وظلت عينه معلقة ما بين البحر الأزرق والزوجة المنتظرة عودة الغائب· هل علم الناقد عن حكاية الغواص الذي يصاب بعلة تمنعه من مباشرة المهنة، فإنه كان يلقى في جدف الخليج ملفوفاً بقماشة مهترئة·· هل علم الناقد لماذا استقرت زنوبيا في جبال رأس الخيمة، وما شكل هذه العلاقة فهل يا ترى كل هذه الارهاصات والمادة الاجتماعية الفنية بتفاعلاتها تلف وتتلف في تابوت نظري تنظيري لا يحمل صدر شحنات الفعل الداخلي غير القشور والمزامير الجاهزة· هل يا ترى يمكن ان نختزل الزمن المديد في فترة راهنة أشبه بالرصاصة الطائشة وهل يمكن لهذه الفترة التي لا تتجاوز ثلاثة عقود من الزمن أن تشكل وجدان إنسان الإمارات بتاريخه المديد واللاشعور الجمعي المكتنز بذاكرة خصبة وثرية بالمزن والمحن·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©