الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نَردُ المسافات

نَردُ المسافات
20 ابريل 2016 03:20
أمل إسماعيل لم يعد أحد يلعب المونوبولي (1) الآن، هذا الشيطان الصغير خسرَ قواهُ السّحرية في عالمٍ لم يَعد طعمُ المسافات فيه شهياً، وصارتْ اللعبة ملكاً للأحمر القاني، للأحمر المتخثّرِ في الطرقات، وللبحر الذي ملّ غسل عارنا صباحَ مَساء، وابتلاعَهُ متى ما دَعتِ الحاجَة إلى ذلك! المونوبولي، اللعبة التي اخترعتها «إليزابيث ماغي» دون أن تدري أنّ «تشالز دارو» سيُشيطنها ويُمطِر العالمَ بهَوَسٍ يمتدّ ليالي وأياماً، مُنزلاً سَكينة زائفةً على بيوت لاعبيها كي يحافظ كلّ واحدٍ منهم على ممتلكاته الثمينة، والبطاقات التي تثبتُ ملكيتَهُ للأرضِ، والشارع، والسكَكِ والحارات. آه! إنها أموالهم الصفراء والخضراء والحمراء، وحظهم الذي يُمكن قراءَته من بطاقة. نجتمِعُ على كلمةٍ، وعدٍ، شغفٍ، عنادٍ، دهشةٍ، تحدٍ، وَعِيد. تفرّقنا مصالحنا ويسودنا جَشعٌ ينبتُ في أصابعنا لينثر بذوره السامة على الأرض الخضراء، ويُنبتَ فيها قرى وبيوتاً من صنعنا، فنتحول إلى أسياد، ومُلّاك. وعندما تتقيأ الأرض جشعنا، ينقلبُ ذلك البساط المربع رأسا على عقب مبعثراً حمولته في أرجاء الغرفة. الكائنات تقاتل بعضها بعضاً، طعمُ الحياة صار مُرا، ونكهة الموت تدوسُ كل ما عَمّرناه، لكن واحداً منا فقط يُصرّ على البقاء، ويُعمّر الأرض من جديد، إنه الذي يعرفُ أننا سنلعبُ مرة أخرى. وكنتُ دائما.. ذلك «المتبقّي»(2). فردوس المونوبولي تنطفئ حياة المونوبولي لتبدأ حياة أخرى، حينَ يتحوّل بساطها الكرتوني الأخضر – ويا لسخرية القدر – إلى مروحةٍ تتناقلها الأيادي إذا انقطعت الكهرباء وتسرّبت نسمة الهواء خارجة من قفص الإسمنت الميت. إنه احتكارٌ مِن نوع آخر، يتكدّسُ الهواء الرّطِبُ في رئاتنا كأن لا نسمة تأتينا إلا عَبرها، ويولد الحظ في يَد مَن يحملُ المستطيل الأخضر لينعمَ برائحة الجنة ونسمتها الباردة. كنتُ أتساءل كثيراً عن سِر هوائها المنعش، هوائها الذي ليس إلا قطعة صغيرة من ذلك القيظ الذي يذيب لحمنا الصغير على مهل. إنه فردوس المونوبولي بلا شك! إنك الآن تملك قطعة من الجنة، تحركها يمنة ويسرة، تتشابك نسائم الحرية مع وعودٍ تقطعها لنفسك بغدٍ لا تؤرجح أحلامَهُ أسلاكٌ كهربائيةٌ تَسرقها من مُولّد الشارع الرئيسي، وبرودةٌ تسري في جَسدكَ الغضّ وأنت تخشى على نفسكَ من صعقةٍ كهربائية تحملُ جسدكَ المنكمشَ إلى النار لأنكَ لصٌّ صغيرٌ لم ينتهِ الشيطان بعدُ من صقلِ مهاراته كما فعلَ مع اللصوص الكبار الذين يتفلُ أبوكَ على شاشة التلفاز كلما رآهم يتشدقون بحديثٍ لا تفهَمه. سوف تكبرُ، وتشتري تلك البيوت الخضراء والحمراء لا على أرض المونوبولي فقط، بل على أرضك أيضا. سوف تعبر كما عبروا، وستجتاز الحاجز إلى غير رجعة. ستُلقي النردَ، كالكبار، وستصلُ إلى فردوسك. لاعب النرد «منْ أَنا لأقولَ لكم ما أقولُ لكم، مَنْ أنا؟ كان يمكن أن لا يحالفني الوحيُ والوحي حظُّ الوحيدين إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ على رُقْعَةٍ من ظلامْ تشعُّ، وقد لا تشعُّ فيهوي الكلامْ كريش على الرملِ» (3) مسافة المونوبولي محطات القطار كانت خياري المفَضّل في الاستثمار، أربعُ سككٍ وتملكُ خطوطَ عالمكَ الأخضر ومسافاته. هناكَ، حيث لا بُدّ أن يمُرّ عليكَ مسافر ما، في رحلةٍ خَطّها له القَدَر. هناكَ، كنتُ أنتظر وأنتظر، وكانوا يأتون فرادى، أو في جماعات. بعضهم يكتشفُ رحلته، ويسعى إليها سعياً، وآخرون، تفاجئهم الرحلة، لكنْ ينتهي بهم المطافُ إلى الاستسلام، أما المتعبونَ الذين كنتُ أكرهُ أن أقلّهم على مَتنِ قطاراتي فهمْ أولئك الذين يدفعون ثمنَ رحلتهم آجلاً، يخسرون، فلا هم استمتعوا بالرحلة، ولا هم سَلّموا مصائِرَهم لإشارات القدر. بينما كان أخي يصطادُ الأحياء الراقية، ويستمتعُ بتقليبِ صكوكِ ملكيتها بين يديه راسماً ملامح الطبقة الأرستقراطية ممررا قبعته (4) الباذخة بين ممتلكاته، متلذذا بامتطاء صهوة جواد أبيض مسرج بعناية، ليحيي جمهورنا المتحلّق حوله في زَهو، كنتُ أهرولُ نحو الريف، ذلك البعيد الذي تصل إليه مسافراً كلما جَرجَرَكَ الحنين، مستعداً للتنازل عما أملك مقابلَ مزرعةٍ، أو ربما فكِّ رهن بيتٍ أخضر وحيد. جرّب أن يلعبَ أطفالك المونوبولي، ستعرفُ حتما أين سينتهي بهم الطريق! حيث أخي الذي هاجر داساً في جَيبه جواز سفر أجنبي، تذوقتْ شفتاه طَعم تلكَ اللكنة الأجنبية التي تقيه ذلّ ترحيلات الحدود، في ذلك الصقيع، عَرَف كيف يُجمّد قلبه، ويُعلّبَ حَياته. أما أختي، فكانت تلاعبُ القدَر كما يلاعبُ صغيرٌ أسرابَ الحمام المحلقة في الفضاء، ترفعُ كفها عالياً، تخضّ النرد في يدها كَمَنْ يخضّ اللبن، تتمتم ببضع كلمات تُسرّ بها إلى باطن يدها كأن الحظ علمها تعويذته، ثم تلقي بالنرد فيتراقصُ أمام أعيننا، ويمنحها بنكُ الحظ دفعة تلو أخرى من العطايا المجانية، فندفع لها في كل مرة ما شاءت من خزائننا، ندفع بالأحمر والأخضر والأصفر. كانت محظوظة، وكنا نحسدها! أحبها الحظ، فأحبته، واختارته ليهبها نرد الحياة فرصة أو اثنتين، ثم يتركها تدور وتدور دافعةً ضرائب خياراتها دون أن تدركَ أيّ هاوية تنجرف إليها، يربتُ على كتفها، أو يدفعها دفعاً إلى زنزانة تاء التأنيث، ثم يعود فيجود عليها بفرصةٍ أخرى، فإذا فكرتْ في أن تندبَ حَظها لعنتنا ولعنتْ كل ما اتصل بها: تباً.. لأنني امرأة! وفي المسافة ما بينهما وقفتُ أنا، أبحث عن تلك السكك الحديدية، أكاد أسمع صفارة القطار الذي سيحملني بعيداً ويمضي، قطارٌ عرفته في رسوم الكرتون التي رسمتْ لنا جبالاً وسهولاً لم نرها، لكننا حلمنا بها كل يوم، وبسطتْ أمامنا رحلات أبطالها في ثيابهم البسيطة وحروفهم العربية الخالصة. كانت جبال الألب وساحات لندن وقنوات البندقية وأزقة باريس كلها تنبسط على خريطة واحدة، اسمها «عالمنا الجميل». عالم نصف ساعة من البهجة والحرية والعفوية. كيف لي أن أعرف حينها أنهم لم يكونوا حقيقيين؟ وأن دموعهم وابتساماتهم لم تكن حلوة ولا مالحة! ذلك الطعم الذي ذابَ في فمي شهياً كلما حرّك جد «هايدي» (5) حساء البطاطس باللحم بالملعقة الخشبية.. كيف لي أن أنكره الآن! بكارة الحقول الخضراء على مدى البصر، رحلة يقطعها الماعز كل يوم على قمم الجبال. إنهم لا يهاجرون، بل يرتحلون من حلمٍ إلى حلم، وأنا كنتُ أفعل الشيء نفسه، أسافرُ في عالمي، فلا ينعتني أحد بالغريبِ، ولا يطلبُ مني جواز سفر. الحياة حين تلعب المونوبولي صدّقتُ مرةً أن الغابات تبتلع الأطفال في العتم، لكنني في هذه الصحراء المقفرة لم أجد غابة تبتلعني، فاكتفيت بالمسافة. لكل واحدٍ منا دوره، وعندما حان دوري هذه المرة لم أجد سكة قطار واحدة لأشتريها، بيعت كلها، وبيعت كل الأراضي الأخرى، قضبان السجن وحدها رحبت بي، وبعض الحواجز والفخاخ التي نصبت هنا وهناك. تحولتُ إلى طائرٍ مسكونٍ بالقلق، يخاف الوقوع في شرك النرد. صرتُ أحلّق في الفراغ، لا مستقرّ ولا عودة، واللعبة مدت جذورها في الأرض وابتلعتنا جميعاً. هل كانت غاباتنا عمياء مثلها؟ وهل تحول كل الأطفال الذين تجاذبتهم أغصانها إلى ملائكة حقاً! وأنا، متى سيأتي دوري؟ حجر النرد الأخير لو أنك ترانا الآن، نلعب المونوبولي يا أبي، ستدرك أي شرخٍ أحدثتهُ فينا يوم جلبتها إلى بيتنا أول مرة، أيّ فتنة أحدثتها بين أبنائك! أيّ نهاية رسمتها لهم على الخريطة! أيّ هوية ألبستها كل واحد منهم! أنتَ طيبٌ لأنكَ لمْ تكنْ تعلم، كنا نلعب، أليس كذلك! أما نحن، فكنا نلعب مع الشيطان الذي دسّ في جيب كل واحد منا رشوة تقينا غضبة القدر، وظننا أننا كسِبنا، كلٌّ حسب وُجهته التي اختارها. سواء حملتنا بلدٌ غريبة أو حظٌ أعمى أو قطار يلتهم السكك.. نحن رحلنا، لتقفَ هناك.. النقيّ الوحيد، الذي لم يُجرّب خطيئة المونوبولي، ولم تسرقه المسافة. --------- (1) المونوبولي: أو «بنك الحظ» هي أكثر ألعاب الألواح مبيعاً في العالم. تقوم فكرة اللعبة على تنافس اللاعبين لمحاولة جمع ثروة تبعاً لقواعد معينة عن طريق بيع وشراء العقارات وتأجيرها أثناء تحرك اللاعبين على اللوحة، حسب نتيجة رمي النرد. (2) المتبقي: فيلم المتبقي، مقتبس عن قصة الأديب الفلسطيني غسان كنفاني، صدر العام 1995، من إخراج سيف الله داد، وبطولة جمال سليمان، وجيانا عيد. (3) مقتطف من قصيدة «لاعب النرد» للشاعر الفلسطيني محمود درويش. (4) القبعة هي إحدى القطع التي يستخدمها لاعبو المونوبولي للتحرك على الرقعة، ومن القطع الأخرى السيارة، والقطار، والمكواة، والحذاء. (5) هايدي: مسلسل كرتوني شهير للأطفال، مأخوذ عن رواية للمؤلفة السويسرية يوهانا شبيري بالاسم نفسه، حولت لمسلسل كرتوني بوساطة نيبون أنيميشن اليابانية العام 1974.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©