الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لِسان التسامح.. فصيح!

لِسان التسامح.. فصيح!
20 ابريل 2016 03:17
نبيل سليمان بينما راحت الحرب العالمية الثانية تلملم ذيولها، كان خطاب التسامح يزداد جهارة وثراء وصلابة، في الثقافة، بينما ظل خافتاً ومتلجلجاً، بل ومنافقاً، في السياسة، كما تدلل الحروب التي لم تكد تتوقف. وكلما كان القرن العشرون يقترب من نهايته، كان الخطاب النقيض لخطاب التسامح يضطرم، وليس في السياسة وحدها، بل في الثقافة أيضاً، حتى بلغ الأمر ما بلغه فيما نحن عليه الآن. في سنة 1993، أعلنت الأمم المتحدة أن سنة 1995 ستكون سنتها للتسامح. وبناءً على مبادرة اليونسكو تقرر في 16/‏‏11/‏‏1995 أن يكون اليوم العالمي للتسامح في هذا التاريخ من كل عام. وقد قالت المدير العام لليونسكو إيرينا بوكوفا في احتفالية العام الماضي إن التسامح فكرة جديدة نحتاج إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى، وهذا القول غير صحيح. ففكرة التسامح عريقة، إنْ في التراث الأوروبي أم العربي أم العالمي، كما سيتبين فيما يلي، وإن تكن الفكرة قد تطورت، بما أنها فكرة في التاريخ. ومن هنا سيتبين أيضاً مدى التقاطع والتطوير في الفكرة بين ما كانت وما تقول فيها بوكوفا، حيث شددت على أن التسامح شرط من شروط السلام، وركيزة المواطنة المستدامة في عالم تسود فيه العولمة، ونداء لاعتماد نظرة ناقدة تجاه الأفكار المسبقة، وعامل مسرع للإبداع. والأمر نفسه هو أيضاً بصدد ما تضمنته المادة الأولى من إعلان مبادئ التسامح، حيث جاء أن التسامح هو الوئام في سياق الاختلاف، وهو واجب سياسي وقانوني وأخلاقي، ويسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب. وكما جاء أن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير الثري لثقافات العالم وأشكال التعبير، وهو ممارسة فردية وجماعية ودولية، وينطوي على نبذ الدوغمائية والاستبدادية، ولا يعني تقبل الظلم أو تخلي الإنسان عن معتقداته، بل يعني أن البشر المختلفين لهم الحق في السلام، ولا ينبغي أن تفرض آراء الفرد على سواه... ومن اللافت هنا أن هذه المادة من إعلان مبادئ التسامح تنص على أنه لا يعني المساواة أو التنازل أو التساهل، بينما ينص (لسان العرب) على التساهل كواحد من معاني التسامح، كما سنرى. تأثيل التسامح عربياً رداً على تأثيل الخطاب العنفي المتأسلم جاء تأثيل التسامح في التراث العربي الإسلامي، فهذا يعود إلى زهير بن أبي سلمى، وذاك إلى أبي الطيب المتنبي، وآخر إلى النصوص الشرعية و... وحسبي الإشارة هنا إلى كتاب الصديق عبد الحسين شعبان (فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي) الذي قدم لبحثه بما للتسامح في الفقه الدولي المعاصر، ثم درس التسامح في الإسلام السياسي، ابتداءً مما عده جذر التسامح في الوثائق العربية الإسلامية، من خلال حلف الفضول ودستور المدينة والعهدة العمرية وصلح الحديبية وفتح القسطنطينية، وصولاً إلى أفكار المصلحين العرب والمسلمين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وعلى المستوى الأدبي تذهب الإشارة إلى كتاب راشد عيسى (وساطة الشعر في التسامح الديني والمثاقفة). وقد عدّ المؤلف التسامح الديني بوابة كبرى لدخول أشكال التواصل الثقافي والتجاري والعلمي والأخلاقي جميعاً. والتسامح يعني هنا (ديمقراطية الميدان) اعتقاداً وممارسة. وقد أثّل المؤلف للتسامح في شعر الحلاج وابن عربي والششتري والسهروردي وابن الفارض وسواهم من شعراء المتصوفة، وكذلك لدى جوته وبوشكين وسواهما من أعلام اللسان الغربي. واستطراداً، أشير إلى كتاب الشاعر الراحل حلمي سالم (الحداثة أخت التسامح) والذي جلا مواطن التسامح في شعر البياتي وأدونيس والسياب ونزار قباني وسعدي يوسف وسواهم من المحدثين. أما التأثيل المعجمي فمنه في (لسان العرب) أن المسامحة هي المساهلة، و: تسامحوا تعني تساهلوا، وقولهم: الحنيفية السمحة، أي ليس بها ضيق ولا شدة. وفي المعجم المدرسي السوري نقرأ أن التسامح هو التساهل. وفي اللسان الشعبي ليست المعاجم بالذروة اللسانية الوحيدة، بل ثمة الذروة اللسانية المضاهية: اللسان الشعبي إذ يرسل حكمته – أمثاله، وبالعاميات. ومن بعض ما يرسل هذا اللسان في التسامح، هذا الذي جمعته جمانة طه في موسوعتها التاريخية المقارنة (الجمان في الأمثال)، وأوله (المسامح كريم)، وهو في سوريا واليمن باللفظ نفسه، و(اللي ما يعذر الناس ما هو من الناس) وهو في الكويت وسوريا باللفظ نفسه، وقد جاء في (مجمع الأمثال) للميداني بهذه الصيغة: (تناسَ مساوئ الإخوان يدم لك ودهم). وهذا مثل مشترك بين الإنكليزية والعربية، هو: (سامح وانسَ Forgive and forget). وهذا المثل (باتْ مغلوب ولا تباتْ غالب) هو عينه بلفظه في سوريا ومصر، ولكنه في الجزيرة العربية: (لحية المغلوب للجنة)، وفي الكويت: (لحية المغلوب في الجنة)، وفي اليمن: (بارك الله للمغلوب). وثمة هذا المثل: (الواعة الكبيرة تسع الواعة الصغيرة) والواعة هي الوعاء، وهذا المثل في العراق هو: (ماعون الـچبير (الكبير) يوسع ماعون الزغير (الصغير). أما المثل (من قصدك وجب حقه عليك) فهو في مصر: (اقبلْ عذر اللي يجي لحدّ باب الدار)، وفي العراق: (الجاي عليك حقه عليك)، وفي اليمن: (من قصدك وجب عليك)، وفي الكويت: (من دخل بيتك جاب الحق عليك). وفي الأمثال أيضاً: (البطن يسع دست مخلوطة ما يسع كلمة) والدست مرجل كبير من النحاس، وكذلك: (حط إيدك على عينك متل ما توجعك توجع غيرك). وتعد جمانه طه العفو في باب التسامح، فتذكر المثل: (العفو من شيم الكرام، وهو في اللفظ نفسه في العراق، وتذكر (عفا الله عما مضى) وهو في اللفظ نفسه في الجزيرة العربية، وفي اليمن بلفظ (عفا الله عما سلف)، وأخيراً، وباللفظ نفسه في سوريا والكويت واليمن والعراق هذا المثل: (العفو عند المقدرة)، وهو عند الميداني (خير العفو ما كان عن القدرة)، وفي مصر: (يا بخت من قدر وعفى) وفي الجزيرة العربية: (اعذرْ وسامحْ). وليس يخفى حرص موسوعة (الجمان في الأمثال) على تأثيل الكثير من الأمثال، هنا لدى الميداني، وفي أبواب أخرى لدى الماوردي والسدوسي والضبي والسيوطي والعسكري وابن قتيبة وسواهم. تأسيس فلسفي قدم سعيد بنكراد لترجمته كتاب فولتير (قول في التسامح) بما هو نص في التسامح، يبدأ بالتأثيل المعجمي المختصر، ومنه (السماح رباح) أي مصدر لراحة النفس والعقل. ثم يتدفق نص بنكراد، فإذا بالتسامح تعبير عن محدودية الإنسان، وكشف عن وعي يتأمل الكون في تعدده وغناه. والتسامح حاجة، وليس اختياراً حراً. وقد دفع مبدأ التسامح بالكثير من الأخلاقيين إلى تصنيفه كفاصل أو رابط بين الخير والشر في النفس (الفرد) والمجتمع. ويمضي هذا المفكر والناقد المغربي إلى أن الإنسان استطاع أن يحمي نفسه بالتسامح من الاندفاع الأهوج داخله، ومن رغباته المجنونة في أن يكون قوياً وجباراً، وأن يحقق كل نزواته، ويمارس ما يحلو له في فضاء عمومي، هو لكل الناس. وبما أنه لا يمكن أن نقتل كل المدمنين والمنحرفين والضالين، ولا يمكن أن نزج بهم في السجون، فهذا يعني قبولنا للمختلف عنا، أو للخارج عن المألوف، مما يجعل التسامح سلوكاً يصنف ضمن محددات العيش المشترك. والتسامح أيضاً هو الأساس الأولي الذي قاد الإنسان إلى بناء التجمعات السكنية قبل أن يتخلى داخلها، وطوعاً، عن جزء من حريته، ليعيش في طمأنينة وسط آخرين يتقاسمون معه وحشة الوجود على الأرض. في التأسيس الفلسفي للتسامح يرى بنكراد أن الحاجة إلى الآداب والأخلاق والمشاعر الخاصة هي الحاجة إلى ضوابط تحد من فوضى الانفعالات والأهواء. وليس ذلك تضييقاً على الحرية التي هي الأصل في الوجود الإنساني. بل إن ذلك تحديد لمساحات خاصة بـ (المحظور). والمحظور مبدأ يقوم عليه الانتماء الطوعي إلى فضاء قيمي، يستوعب الأنا ضمن دوائر النحن، ويقي الأنا من شر حيوانيتها، وهذا ما يثبت أن الإنسان ليس عدوانياً بطبعه. والتسامح بالتالي أصلي في الإنسان. فالإنسان لا يحمل بذور عنف أصلي، طبيعي، سابق في الوجود على الممارسة. وقد تعلم الإنسان منذ لحظات وعيه الأولى في الوجود كيف يشكم عدوانيته ويروضها، فكان تبادل السلع والخبرات والمعارف قبل التبادل اللساني والثقافي الصريح. يميز بنكراد بين التسامح والاختلاف. فالحق في الاختلاف من إفرازات شروط العيش الجديد المعاصر، حيث الفرد (مواطن) في الاختلاف، لكنه (مؤمن) في التسامح الديني. وبينما يتأسس الاختلاف داخل الفضاء العمومي، يكون هذا الفضاء ملكاً للمتسامح. والتسامح مفهوم أخلاقي لأن عاطفة الناس ومزاجهم يحميانه. أما الاختلاف فهو مفهوم سياسي يحميه القانون. وإذا كان القانون المدني هو ما يضمن الاختلاف، فالتسامح هو تربية وتنشئة على التعدد والتنوع في النفوس والوجود. بهذا المنظور الرحب والسمح والدقيق في آن معاً، لا يعني التسامح القبول بكل الآراء، بما فيها تلك الداعية إلى العنصرية والكراهية والأنانية. إنه على العكس: حماية من كل هذه الأمراض. وهو مبني على مبادئ القانون الإنساني الذي يعترف بحق الناس في التعدد في العقائد والأفكار والرؤى وأنماط الوجود على الأرض، دون أن يقود ذلك إلى المس بكرامة الناس وحريتهم، أو التضييق على قناعاتهم الدينية أو الأيديولوجية. التسامح والدين بالوصول إلى ما بين التسامح والدين، يمضي بنكراد إلى أن الإنسان كائن متدين كما هو عاقل ورامز وسياسي، لأن الإيمان جزء من وعي جمعي، ويتعلق بمزيج غريب من قلق مصدره الخوف من المجهول ومن جبروت القوى الطبيعية والاجتماعية. وهكذا يتوارث الناس الإيمان كما يتوارثون الانتماء الثقافي واللغوي، وكما يتوارثون القرابات. وهكذا يكون التسامح ضرورة هي الضمانة على وجود الدين والتدين والمتدين معاً. لذلك لن تختفي الأديان من الوجود، ولن يطالها النسيان. وفي الآن نفسه، لاجدوى من الحروب الدينية، فهي ليست ممراً إلى ملكوت الله، بل هي انحدار إلى الكراهية والعبث بحياة الناس. على النقيض من خطاب التسامح هو الخطاب الذي يرهن الإيمان بأن تقتل من يخالفك في الدين أو الطائفة الدينية أو المذهب الديني أو من ليس متشدداً في تطبيق المبادئ الدينية، حيث يصبح أكبر الناس تقى هو من يقتل كل الناس، إلا الفئة التي ينتمي إليها، لأنها وحدها تملك الحقيقة. في أوروبا، وبعد المعارك خلال قرون، اقتنع الناس طوعاً، وبالتنوير، وبالتربية على العقل، وبالقانون المدني، أنه ما من رابح في المعارك الدينية، وأن الخاسر الوحيد دوماً هو الإنسانية: «اقتتال وتدمير وأحقاد وكراهية وكساد في كل شيء، في الفكر والاقتصاد والمشاعر الإنسانية النبيلة». وحده التسامح ما يمكن أن يضمن التعايش بين ما يمارسه هؤلاء وأولئك من بشر التيارات الدينية المتصارعة، فما من تيار سيقضي على الآخر ويلغيه من الوجود. والأديان جميعاً سمحة، لكن التأويلات هي التي تدفع إلى الشدة أو إلى اللين. وفي هذا الذي تنتهي إليه مقدمة سعيد بنكراد لكتاب فولتير، أو في هذا الذي يتوج المقدمة، يدعو إلى التسامح في القانون، وليس فقط في النفوس، بين الأديان والمذاهب. فالتسامح إحساس بالقوة، وموقف ممن يملك السلطة، ويمارسها بمشيئته وبمزاجه، لذلك قد يتسع فضاؤه ليشمل كل الناس، وقد يضيق حتى لا يستوعب الآخر المختلف عنه في الدين والثقافة واللغة. وفي هذه الحالة يكون التسامح تنازلاً عن حق كان من الممكن ألا يتنازل عنه صاحبه الذي يملك السلطة، وليس حقاً يتمتع به كل المواطنين في ظل قانون يحمي الخصوصيات في الانتماء والسلوك الفردي. أما المضحك المبكي، أو الطريف المقلق، فهو ما يسوقه بنكراد عن التسامح في بلده المغرب: «المغربي متسامح مع كل الأديان إلا مع المغربي»! في اللسان الغربي بفضل الحروب الوحشية المتلفّعة بالدين، طوال قرون، بات للسان الغربي مدونة هائلة من خطاب التسامح. ومن رواد هذا الخطاب وأعلامه الفيلسوف والسياسي والطبيب الإنجليزي جون لوك (1632- 1704) الذي ذهب في البداية عام 1661 إلى أن التسامح مرادف للعصيان والفوضى والخروج على الحاكم، ثم كتب عام 1667 (مقال في التسامح) عقب إقامته القصيرة في ألمانيا، حيث رأى الكاثوليك والبروتستانت يتعايشون بسلام. وفي هذا المقال عارض استخدام القوة القاهرة لإجبار المرء على تغيير معتقده. وبعد سنوات غيّر رأيه من جديد في التسامح، فذهب أبعد، وكتب أن ليس لأحد الحق في أن يفرض على سواه ما عليه أن يؤمن به أو ما يفعله. أما غاية ما بلغه جون لوك من خطاب التسامح فهو (رسالة في التسامح) التي طبعت أول مرة عام 1689 في هولندا عاريةً من اسمه، ورأى فيها أن التسامح واجب على الأفراد وعلى المؤسسة الدينية التي ينبغي أن تمتنع عن قمع الآخرين من رعاياها أو من غيرهم. كما طلب من رجل الدين أن يحث أتباعه على التسامح، واعترض على من يلجأ إلى السلطة من رجال الدين في أمور العقيدة، لأنهم بذلك يغذون نوازع الطغيان عند الحاكم. وطالب جون لوك بالتسامح مع المسيحي الذي يعتنق الإسلام، وبألا يُستبعد أي مسلم أو يهودي أو وثني من الدولة بسبب دينه، لكن جون لوك رفض التسامح مع الكاثوليك ومع الملحدين! في رأس العلامات الفارقة في خطاب التسامح يأتي كتاب فولتير (قول في التسامح). ويذهب سعيد بنكراد إلى أن هذا الكتاب يصف بالحرف ما يجري اليوم في الفضاء الإسلامي، إذ يكفي أن نغير أسماء الفرق والأعلام، ونُحلَّ أسماءنا محلها: «إنه يذكرنا أننا مثلهم في القرن الثامن عشر، لا يمكن أن نستمر في الوجود إلا بالتسامح». فلأسارع هنا إلى سَوْرنة كتاب فولتير، أي جعله سورياً، حيث يرى في الفصل الخامس – وعنوانه: كيف يمكن القبول بالتسامح – إلى أن التنازع مرض وبائي هو الآن في نهايته، وهذا الطاعون الذي شفي الناس منه لا يتطلب سوى نظام معتدل. فلننقلْ هذا القول من زمانه في نهاية القرن الثامن عشر إلى زماننا، ولندع الله إلى أن يصحّ. قول فولتير أما فولتير، فقد تابع القول هنا إلى أن مصلحة الدولة هي في أن يعود أبناؤها المهجرون بهدوء إلى ديار آبائهم، ونقرأ: «إن الإنسانية تقتضي ذلك، والعقل ينصح به، ولا يمكن للسياسة أن تخاف منه»، فآه ثم آوّاه: كم نحن متخلفون اليوم عن فولتير! ألّف فولتير هذا الكتاب إثر انتحار الشاب مارك أنطوان واتهام الجمهور، فالقضاء، لأبيه جان كالاس البروتستانتي بقتل ابنه لأنه كان يعتزم اعتناق الكاثوليكية. وقد حكم على كالاس في مدينة تولوز عام 1762 وعلى ابنه الآخر، وصديق ابنه المنتحر، بالموت، كما حكم على زوجته وابنتيه بالحرق. وفي سردية بديعة يروي فولتير الحادثة والمحاكمة، ونَقْلَ القضية إلى باريس حيث انتصر العقل على التعصب، ونجت الأم والبنتان. وقد ختم فولتير هذه السردية بقوله: ما يقود إليه التشدد كيفما كانت درجة قدسيته هو ارتكاب جريمة. وحده التسامح هو هاجس فولتير، لذلك يرد على السؤال الذي يعنون الفصل الرابع من كتابه (هل يشكل التسامح خطراً؟) بالقول إن بعضهم يرى أننا إذا كنا سنتعامل بحلم أبوي مع الضالين، فهذا معناه أننا نضع السلاح بأيديهم، ولكن – يتساءل فولتير - هل يجب أن نخشى أن تنتج المرونة الثورات ذاتها التي تنتجها الفظاعات؟ ومما يخاطبنا اليوم مرة أخرى من هذا الكتاب أن المبدأ الكوني الأسمى هو: «لا تقم بما لا تود أن يقوم به الآخرون ضدك»، وبالتالي، كيف يمكن لرجل، حسب هذا المبدأ، أن يقول لآخر: «آمنْ بما أؤمن به أو سأعرضك للهلاك»؟ إنها العبارة التي كان الاستعمار البرتغالي يخاطب بها سكان (لغوا) الهندية حتى جلائه عنها عام 1961، وهي عبارة محاكم التفتيش البرتغالية الإسبانية. وهي عينها العبارة التي تغدو في بلد آخر: «آمنْ أو سأحقد عليك. آمن أو سأسيء إليك بما استطعت إليه سبيلا، أيها الوحش أنت لا تؤمن بديني، إذن لا دين لك، ستسيء إلى جيرانك ومدينتك وإقليمك». يتساءل فولتير إن كان قومه سيكونون آخر من يعتنق الأفكار السليمة التي تبنتها الأمم الأخرى التي صححت أخطاءها «فمتى نصحح أخطاءنا؟»: يتساءل وهو يسجل أن فرنسا زمانه لم تبدأ بممارسة المبادئ الحقيقية للإنسانية إلا منذ فترة قصيرة: أليس هذا رسالة أخرى إلينا وفي يومنا هذا؟ يشترط فولتير في فصل (الفضيلة خير من العلم) للسعادة أن تكون عادلاً. ولكي تكون عادلاً وفق طبيعتك المحدودة، يضيف، عليك أن تكون متسامحاً. وفي فصل (التسامح الكوني) من كتابه يطلب من قومه أن ينظروا إلى كل الناس باعتبارهم إخواناً لهم، وبأن الجميع مخلوقات الله. وفي فصل (صلاة لله) يطلب من الناس جميعاً أن يتذكروا أنهم إخوة، وأن عليهم أن يكرهوا التسلط على الأرواح. وإذا كانت الحروب محتومة، فعلينا ألا نكره بعضنا، وألا نمزق بعضنا ونحن في حضن السلم. لكي يجلو فولتير التسامح، يفرد فصولاً للتعصب الذي أجج الحروب الدينية. ومن مدونة ذلك الهائلة يكفي المثال الإيرلندي حيث قدم الكاثوليك إخوانهم البروتستانت قرباناً إلى الله لمدة شهرين: دفنوا أحياء، ورُبطت الفتاة بعنق أمها كي تموتا معاً، وبُقرت بطون الحوامل، وأُخرجت منها الأجنة لتقدم طعاماً للخنازير والكلاب، ووُضع في يد الأسير الخنجر كي ينفذ لأمر بقطع ثدي أمه أو ابنته، فيكون ذلك جريمة عائلية يستحق عليها القتل! من الخطاب النقيض لخطاب التسامح يذكر فولتير الصوت الذي يصدح بأن هناك تسعة ملايين من النمل على الأرض، لكن عش النمل الخاص بالصوت، هو وحده العزيز على الله، هو وحده سيكون سعيداً، أما ما تبقى فسيصلون سعيراً إلى الأبد. يستعرض فولتير أشكال التسامح في بلدان وحضارات شتى، كالإغريق، على الرغم من قتلهم لسقراط. وكما في الصين، حيث كان اليسوعيون المبشرون هم المتعصبون الذين يلعنون بعضهم، لذلك طردهم الإمبراطور. والصينيون يتبعون حكيمهم كونفوشيوس في قوله أنْ ليس لأحد أن يعتقد أنه يعرف أحسن من الآخرين، وان العقل ليس في مكان آخر سوى في رأسه وحده. وفي اليابان ذات الاثني عشر ديناً، جاء الدين الثالث عشر، عندما أرادت اليسوعية الانفراد، فاشتعلت الحرب الأهلية، وأغلق اليابانيون إمبراطوريتهم في وجه العالم. ومن كارولينا، حيث جون لوك هو المشرع، ينقل فولتير أنه لم يتولد عن حرية الاعتقاد أية فوضى، والغلو في التسامح، بالتالي، لا يؤدي إلى أية فتنة. ويتوقف فولتير مطولاً عند ما يراه التسامح لدى الرومان، وعند ما يراه التعصب لدى اليهود. ومع أولاء يذهب إلى أن الحالة الوحيدة التي يمكن أن يكون فيها التعصب حميداً هي سجن اليهود إن فكروا بتكرار سيرتهم في التعصب. بل يذهب فولتير أبعد، فيرى أنه على الرغم من التسامح مع اليهود (فإنهم لو قدر لهم وحكموا العالم لقتلونا جميعاً عدا فتياتنا). وعلى الرغم من أنه ينفي أن يكون في تاريخ اليهود أية خاصية من خاصيات الكرم والأريحية والإحسان، فإن بصيص تسامح كوني ينبعث من سحاب هذه الهمجية الطويلة والفظيعة، والدليل هو ما في كتاب القضاة من التوراة عن تاريخ ميخا واللاوي. لقد كان فولتير مؤمناً: «هناك إله بعد هذه الحياة العارضة التي ارتكبنا فيها كثيراً من الجرائم باسمه». وفي رأيه أن الملحد العنيف والقوي سيكون آفة مضرة كالمؤمن بالخرافات. لكن إيمان فولتير تعنون بالتسامح الذي خصّه بهذا الكتاب، متمنياً أن يكون بذرة يمكن أن تعطى ذات يوم نبتة. وبما ختم به سعيد بنكراد مقدمته لترجمة هذا الكتاب. أختم: وقد نكون نحن، في عالمنا الإسلامي، أول وآخر من يلتقط النبتة ويعتني بها، فقد تعطي ثماراً تجعل حضارتنا قادرة على احتضان كل أبنائها باختلاف دياناتهم ومذاهبهم وطوائفهم. قانون النمور للحد من تفشي هذا المرض الذهني، أي التعصب، يرى فولتير أن الوسيلة المثلى هي إخضاع التعصب للعقل، فالعقل معتدل، ويدعو إلى الرحمة، ويحجم الخلاف، ويرسخ الفضيلة، ويحبب طاعة القوانين بأكثر مما تفعل القوة. ولئن نظرنا إلى ما ينتجه التعصب، فيمكن القول إن الكثير من الناس عرفوا أشكالاً من الجحيم في الأرض. إن الحق في التعصب عبثي وهمجي، وهو قانون النمور الرهيب، لكن النمور لا تمزق فريستها إلا من أجل الأكل. تسامح معجمي المسامحة هي المساهلة، و: تسامحوا تعني تساهلوا، وقولهم: الحنيفية السمحة، أي ليس بها ضيق ولا شدة. لسان العرب
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©