الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«مستقبل الماء» يحذر من أزمات تخلفها الانفجارات السكانية

«مستقبل الماء» يحذر من أزمات تخلفها الانفجارات السكانية
20 مارس 2010 22:11
يتطرق إريك أورسينا في كتابه “مستقبل الماء: وجيز في العولمة” الذي نقله إلى العربية محمد عبود السعدي إلى واحد من أكثر الموضوعات حيوية، ألا وهو الماء، الذي أضحى يشكل رهاناً استراتيجياً وتنموياً هائلاً، وهذا الرهان سيتضخم حجماً وأهمية خلال العقود المقبلة، ولذا عقد الكاتب العزم على “التنزه” مثلما يقول في أرجاء الأرض بهدف استشفاف ما قد يؤول إليه مصير الماء، وأتت الرحلة أُكلها في صفحات هذا الكتاب. يرصد إريك أورسينا من خلال كتابه “مستقبل الماء: وجيز في العولمة” في كل لحظة معطيات أساسية ويعمل على جدولتها من أجل فهم أفضل لآلية دورة الماء، في الطبيعة وفي الحياة البشرية، وتضمنت طريقته: جرد موارد الماء، وتدوين وسائل تخزينه وطرق إعادة تدويره في حالة وجودها، ودراسة ظواهر الفيضانات والجفاف وتحديد شدة التلوث والتطرق إلى إمكانية تحلية مياه البحر، ورصد تضاؤل الماء، وربما نضوبه تماماً في أماكن معينة. ناتج مركب في البداية يعمد الكاتب إلى وضع رسم لشخصية الماء من خلال رصد الطبيعة الحقة للماء، موضحاً أن الماء بخلاف المظاهر وعلى عكس الاعتقاد الذي كان سائداً منذ آلاف السنين، ليس مادة بسيطة إنما ناتج مركب، متأتٍ من اتحاد الهيدروجين والأوكسجين، وهو ما توصل إليه العالم الفرنسي لافوازييه (1743-1794) أحد الكيميائيين الأوائل والذي تمكن من تحليل الماء لعناصره الأولية عندما عهد إليه بتقويم مشروع من أنبوب ماء نهر ايفيت إلى باريس في العام 1768، حيث استفاد من دراسته للمشروع، ما أتاح له تطوير وسائل الرصد، بالتالي عرض طرق تحليل جديدة، فتوصل إلى حقيقة تركيب الماء. كما كان له استنتاج سياسي إذ قال:”البعض قد ينشغل بنوعية المياه الطبية لكن لا شيء يجاري أهمية مياه الشرب، فعلى نوعية مياه الشرب تتوقف قوة المواطنين وصحتهم، وإذ أعادت المياه الطبية، أحياناً بعض رؤوس الدولة الثمينة إلى الحياة، فإن مياه الشرب عبر إعادة التوازن والنظام بشكل مستمر في الاقتصاد الحيواني، تحافظ يومياً على حياة عدد أكبر من البشر، إذاً لا يخص فحص المياه المعدنية سوى فئة لاهثة من المجتمع، في المقابل يخص فحص المياه العمومية المجتمع بأكمله، لاسيما أولئك العاملين النشطين، الذين تشكل أذرعهم قوة الدولة وثراءها في آن”. أنهار مزاجية من توصيل مياه الشرب إلى باريس في أواخر القرن الثامن عشر ينتقل أورسينا إلى الجفاف الذي تعانيه أستراليا في القرن الحالي، والأسباب المختلفة التي آلت إليه، وهو ما نتبينه عبر محاوراته مع ويندي كريج، التي ترأس الوكالة الوطنية المسؤولة عن إدارة شؤون حوض أكبر نهرين في البلادين “دارلنج” بطول 2740 كيلومتراً، ويصب بدوره في “موراي” بطول 2530 كيلومتراً، ومساحة الحوض أكثر من مليون كيلومتر مربع، توازي أكثر من ضعف مساحة فرنسا، وأهميته جوهرية، إذ يشكل القلب النابض للزراعة في أستراليا، وتحدثت كريج عن هذين النهرين مشيرة إلى ما يعانيانه من المزاجية، حيث أن منسوبيهما متقلب المزاج بشكل جليّ، مؤكدة على ذلك بالقول: “بين عام وآخر لا يتغير الدفق العام لنهر الأمازون البتة، أما دفق نهر يانجتسي في الصين مثلاً أو الراين، فيمكن أن يتضاعف أو يتناصف، لكن دفق نهر دارلنج، يمكن أن يزيد أو ينقص بنسبة 1 إلى 4700. وترجع كريج هذه النسبة المخيفة إلى أسباب عدة، منها: - كثرة السدود التي يبنيها الفلاحون. - ارتفاع نسبة الملوحة، حيث يزاح من نهر موراي 500 ألف طن ملح سنوياً. - التخلص من الرماد الناجم عن حرائق الغابات. مناجم شرهة بعيداً عن الأخطار المحدقة بأهم مصدر للماء في أستراليا والمتمثلة في نهر دارلنج، وسوء المعاملة التي يلقاها، يدلف أورسينا إلى الحديث عن مناجم أستراليا التي تحوي أول احتياطي لليورانيوم في العالم، ورابع احتياطي للنحاس، وخامس احتياطي للذهب، فيشير إلى أن أكبر هذه المناجم والملقب بـ”أولمبك دام” يستهلك وحده 35 مليون لتر ماء يومياً، ولذا فإن المناجم تعد شرهة بدرجة كبيرة للماء، وبما أن المعادن في أستراليا تمثل 15 في المئة من الناتج الداخلي الإجمالي لأستراليا، فإنه ومع ارتفاع أسعار المواد الأولية مؤخراً باتت الثروة المعدنية تستأثر بـ55 في المئة من صادرات البلد، ولذا يمكن المراهنة على أن الطلب على الماء سيظل من الأولويات هناك، وهو ما يؤكد على تفاقم أزمة المياه وحدوث مزيد من الجفاف في قارة أستراليا. كما يتعرض الكاتب للسياسة الأسترالية الزراعية التي أدت لمزيد من الجفاف بعد الإسراف في استخدام مياه الأنهار في زراعة محاصيل الأرز، تغافلاً عن مكانة وكلفة الماء، قياساً إلى بلدان أخرى تزرع الأرز اعتماداً على مياه الأمطار مثل تايلاند وماليزيا. ومع الجفاف الذي بدأت آثاره تظهر بوضوح في أنحاء القارة الأسترالية ومع حجم الأمطار الناجم عن الاحتباس الحراري بدأت مشاكل اقتصادية كثيرة تثقل كاهل الفلاحين هناك، ومن ثم بدأت حالات الانتحار في الريف الأسترالي، وهو ما دفع الحكومة إلى أخذ بعض الإجراءات الاحترازية لمواجهة ما يتعرض له الفلاحون، إلا أنها لم تعط ثمارها بالشكل المرجو حتى الآن. الماء والذهب بالانتقال إلى سنغافورة المحطة التالية للكاتب، فيوضح كيف أن سنغافورة التي وجدت نفسها في مواجهة عجز كبير للمياه، واجهت هذا العجز بأربع طرق، وهي الاعتماد على ماء المطر، الماء المستعمل المعالج، الماء الناجم عن تحلية مياه البحر، الماء الذي تشتريه من ماليزيا. ويتحدث عن مستودعات الماء هناك التي أقامتها إنجلترا إبان الاحتلال، وكيف أن هذه المستودعات مازالت تُوسع وتُرمم وتُصلح وتُطور، وتُضاف إليها مستودعات وخزانات جديدة، وتوضع الأزهار حولها ويعتني بمظهرها وجمالها إلى حد الهوس، وهم محقون في عدّها فخراً وطنياً، فهي في آن مخازن مائية وحدائق خلابة وأماكن ليس لها نظير لممارسة الركض والرياضات المائية، ورموز هادئة للسيطرة، ومن خلالها تؤكد سنغافورة مقدرتها الفريدة على السيطرة على الطبيعة والمستقبل معاً، بحيث تعتبر المخزون المائي لديها لا يقل أهمية ولا قيمة عن مخزون الذهب. الماء الجديد يفيض الكاتب في الحديث عن أكبر موقع شيدته سنغافورة لمعالجة المليون ونصف المليون لتر ماء يومياً ويقع في جنوب شرق الجزيرة، وتباع مياهه بعد غسلها وتصفيتها بضع مرات، بالاسم التجاري “نيو ووتر” (الماء الجديد) وهو واحد من أهم المشروعات التي أنجزتها سنغافورة لمواجهة احتياجاتها المتزايدة من الماء ولحمايتها من أخطار الجفاف، وقحط الماء الذي تتهيب منه. ويتعرض أورسينا للدعاية التي تقوم بها حكومة سنغافورة في وسائل الإعلام المختلفة لتعزيز أهمية الماء والمحافظة عليه في نفوس أبناء الجزيرة، إلى الحد الذي جعل ترديد مفردة “ماء” وكأنها ترنيمات طقوس دينية تجعل من الاحتفاء بالماء تمجيدا للمجتمع، ونذر النفس للماء يعني إثبات التمسك بالتربية المدنية، ومن يحب الماء، يحب سنغافورة، إلى درجة أن أصبح حب الماء لدى السنغافوريين يعبر عن بيعة للوطن وإعلان للانتماء. فيضانات متوحشة في محطة أخرى توقف فيها أورسينا عبر سبره لأغوار الماء في أنحاء العالم، توقف في بنجلاديش وآثار الفيضانات الناجمة عن الاحتباس الحراري بما يؤدي إلى غرق عديد من الجزر المأهولة بالسكان بلغوا من الفقر، ما يتعدى أقرانهم من المعوذين في قارات العالم القديم والحديث. وينقل الكاتب مقولات لبعض سكان هذه الجزر ممن التقاهم في رحلته، فيقول أحدهم:”ألا أعرف كم أبلغ من العمر، زوجوني في سن 10 سنوات، غيرت مسكني 15 مرة بسبب الفيضانات، وفي 1988 اضطررنا إلى العوم لإنقاذ أرواحنا، أخذ الماء كل شيء، كان عندي سبعة أولاد، مات اثنان منهم”. وتقول أخرى:”لا أعرف القراءة والكتابة، غطت الفيضانات بيوتنا 20 مرة، وزوجي لم يكن قوياً يوماً، هو الآن مفقود”. أما الثالث فيعبر هكذا عن مأساته:”لم أشأ قط العيش في تلك الجزر بسبب التعرية، فبقيت على اليابسة، ومع ذلك ابتلع فيضان أرضي منذ 5 سنوات”. ومن توحش الفيضانات على سكان بنجلاديش، يعرج الكاتب على توحش واستئساد الجارتين القويتين الهند والصين على أهم مقدرات دولة بنجلاديش والمتمثلة في مساحات الأراضي الصالحة هناك. ذلك أن كلاً من الهنود وأيضاً الصينيون يعكفون على دراسة مشاريع سدود كثيرة، على نهري الجانج وبراهما بوترا اللذان يمثلان عصب الحياة في بنجلاديش، وإذا رأت تلك السدود النور ستتقلص مساحة أراضي بنجلاديش المفيدة ربما إلى النصف، لأن دفق الماء العذب الآتي من النهرين لن يكفي آنذاك لمقاومة سيل المياه المالحة الصاعدة من خليج البنغال، والتي تحمل آثاراً سيئة على نبتة “الأرز” وهي الغذاء الرئيسي لسكان تلك الدولة. أشكال الغضب يخلص أورسينا إلى أن بنجلاديش يعد أكثر بلدا في العالم يغضب فيه الماء، من فيضانات، أعاصير، وتسرب ماء البحر، الجفاف، زحف الملح، خطر الزرنيخ، وهو ما يستدعي وضع سياسات آنية وطويلة الأجل لحماية بنجلاديش من أخطار المياه (سواء نقصها أو زيادتها) والتي تترك أسوأ الأثر على المدن البائسة، بما تحتويه من منكوبي مصائب مائية ما فتنت تتكأ كأعلى سكان هذه الدولة الفقيرة. وبمصاحبة أورسينا في رحلاته حول العالم لمعرفة كل ما يتعلق بالماء وآثاره على العولمة وأثر العولمة عليه، تتكشف كثير من الحقائق حول الآثار المختلفة والمتوقعة لشح الماء في مناطق معينة في العالم، وزيادتها إلى حد الهلاك في مناطق أخرى، خاصة مع ذوبان الأنهار الجليدية التي تمثل أكبر مستودعات للماء العذب لدى البشرية، حيث سيؤدي ذوبان الأنهار الجليدية المتسارع إلى مفاقمة الظواهر غير الحميدة، فبادئ ذي بدء، سيولد الذوبان الزائد فيضانات لا تحمد عقباها. ثم تجثم بعدها، عقب نفاذ المخزون، فترات جفاف طويلة. المؤلف في سطور ولد إريك أورسينا ERIK ORSENNA (لقبه الأصلي آرنو) في باريس في 22 مارس 1947. دراساته المتنوعة والتي شملت الفلسفة والعلوم السياسية والاقتصاد أهَّلته للعمل كباحث اقتصادي مرموق، ثم كأستاذ في اقتصاديات التنمية في جامعات فرنسية وبريطانية. لكن مؤلفاته، الأكثر من ثلاثين، تتعدى الشؤون الاقتصادية والتنموية، إذ تشمل أيضاً الآداب؛ ففي عام 1988، حاز جائزة “غونكور”، أرفع جائزة أدبية في فرنسا، عن رواية “المعرض الاستعماري”، وبعد عقد، في عام 1998، انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية، أرفع مجمع علمي وأدبي في بلاده. ومن أجل كتابه “مستقبل الماء” جاب العالم لسنتين بغية دراسة معطيات أساسية عن هذا المورد الحيوي. انعدام المساواة “هل سيكون الماء كافياً على الأرض؟ كافياً لإرواء البشر واغتسالهم؟ كافياً لإرواء الزرع، مصدر غذائهم؟ كافياً لتفادي أن يُضاف شحُّه إلى الأسباب العديدة الأخرى للاقتتال والحروب؟ بالنسبة لإريك أورسينا لن تحصل أزمة مائية شاملة تطال العالم بأسره بصورة متزامنة، إنما أزمات محلية وإقليمية متفرقة. فالاحتباس الحراري سيؤدي بالأحرى إلى رفع كمية الماء الإجمالية على الأرض. لكنه سيفاقم بشكل مأساوي انعدام المساواة على صعيد مناطق العالم. وبعضها سيواجه فيضانات عارمة، وبعضها سيعاني من جفاف متزايد، وسيزداد عدد النزاعات المحلية بسبب الانفجارات السكانية. فمثلاً، اعتباراً من العام 2025، كيف سيمكن لنهر النيل ذاته، إرواء 120 مليون إثيوبي و70 مليون سوداني و150 مليون مصري، وفي الوقت نفسه تزويد الفلاحين بما يكفي من ماء لزرع ما يكفي من غلال لإطعام تلك النفوس كلها؟”.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©