الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

المتنبِّي·· ذلك المثقَّف الشُّجاع

30 نوفمبر 2007 00:13
كان المتنبِّي شاعراً، والشِّعراء نخبة مثقَّفة في أوطانهم، بل النُّخبة الأكثر إثارة للتجاذب السياسي والجمالي والمجتمعي كما هو الحال مع شاعرنا أبي الطيِّب المتنبِّي الذي عاش حياته بصوت عالٍ منذ ولادته بالكوفة سنة 303 هـ حتى مقتله في مدينة النُّعمانية سنة 354 هـ· عاش المتنبِّي مع جدّته بعد موت أبيه الذي فارقه ولم يرتو من أبوَّته الكثير لأن أبا الطيِّب الشاب كان كثير الترحال بين البوادي والأمصار حتى إنه قال دامعاً بسبب الوداع المتكرِّر بينه وأبيه: فافترقنا حولاً فلمّا التقينا كان تسليمهُ عليَّ وداعا مضى الأب، وقبله الأم، ولم يبق له سوى الجدَّة التي كانت أنفاسها ملازمة لأنفاس حفيدها الثائر والمتمرِّد على بقية وجودٍ مزاحم ما ذاق منه سوى الهروب من سطوة العتاة والحسّاد والمفسدين، فناكدهم مناكدة النِّد للنِّد، وقارعهم وهم أصحاب خواء روحيٍّ وجدب إبداعيٍّ بما للمتنبِّي من سموٍّ في العطاء الإبداعي وشجاعة في المواجهة· قال الشِّعر مادحاً بعض أمراء عصره مثل سيف الدولة الحمداني (ت 356 هـ)، وقاله أيضاً ذامَّاً بعضهم الآخر مثل كافور الإخشيدي (ت 356 هـ)، وضبَّة بن يزيد الأسدي· ولكن لا المدح ولا الذَّم جاءا على هوى شعراء عصره ولا على مسطرة المعتاد من القول الشِّعري كما يسمعه الأمراء من الشِّعراء المادحين أو الذَّامين؛ فلقد وضع أبو الطيِّب ذاته الإنسانية بإزاء ذوات الأمراء على نحو واضح في نديته لأنه يعتقد أنه مثلما للأمير ذات مركزية في المجتمع كذلك للشِّاعر ذات مركزية في المجتمع نفسه· بل كانت ذات المتنبِّي الشِّعرية أكثر قوة وغلبة وشأناً ليس بإزاء الأمراء فقط إنما بإزاء الشِّعراء أيضاً، ومن هناك جاء حسدهم له موازياً لحسد الأمراء الذين كانوا يحلمون بحرفٍ شعريٍّ يقوله المتنبِّي بحق شخوصهم وأنظمتهم السياسية· في سنة 337 هـ قال المتنبِّي مادحاً سيف الدَّولة الحمداني: فالخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفيني والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ لم يقلها أي شاعر عربي من قبلُ وهو يخاطب رأس السُّلطة في إمارة عربية ما، لكن المتنبِّي قالها مفاخراً بذاته الشِّعرية وبكينونته الوجودية وعلى نحو نديٍّ متحدياً كل ما تدور في رأس الحمداني من نماذج لشِّعراء طرقوا بابه طلباً لمال وعزِّ وجاه وهم فارغون من الروح الإبداعية العالية التي يتمتع بها المتنبِّي، بل نراه متحدياً سيف الدُّولة الحمداني ذاته عندما يعرض المتنبِّي عليه ذاته الشِّعرية بوصفها ''أنا مركزية'' لا تقل هيبة ومزيَّة ومكانة مقارنة بما لذات الحمداني من الصفات نفسها· عاش المتنبِّي حياته فارساً بحق وهو الذي جرَّب الترحال في الليالي مسافراً بين الأمصار منذ صباه، ومروِّضا الخيل حدَّ تطويعها، وقاطعاً المسافات في البوادي شرقاً وغرباً حتى ألفتهُ وصارت لا تفارقه إلا على مضض، حاملاً سيفه الكوفيِّ ورماحه العلوية مقارعاً بها ظلم الظالمين، شاهراً بقلمه وقرطاس رسالته الإبداعية ـ الكونية بوجه الجهل البشري واللؤم الآدمي والخواء الروحي· إنه بالفعل ابن كل تلك القيم التي جرَّبها في حياته، فهو مثقَّف من طراز خاص؛ لأنه قال ما فعل، وفعل ما قال، قارع ظلم السَّلاطين فاكتسب شرف المواجهة، واعتلى ناصية الشِّعر فاكتسب روحها الإبداعية بجدارة فائقة· مات المتنبِّي وولده ''مُحسَّد'' وغلامه ''مفلح'' شهيداً في نعمانية العراق إثر معركة شرسة خاضها مع سرية مقاتلة أرسلها ''ضبَّة بن يزيد الأسدي'' العيني بقيادة خاله ''فاتك الأسدي العيني'' بعد شهر جمادى الآخرة من سنة 353 هـ إثر هجاء المتنبِّي ضبة بقصيدة مشهودة أثار خلالها حمقه حتى قتله ونال منه ليقضي على واحد من أكثر المثقَّفين العرب أصالة وبسالة وفروسية وشجاعة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©