الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أجراس

أجراس
28 نوفمبر 2007 21:29
خمسون حولاً دقت أجراسها قبل لحظة، بين صخب جرس وآخر تقبع ارتعاشة مرهفة داخل مسرحية طويلة، يشدها قضيبان، هزلي وتراجيدي· كان في تلك الليلة ضجراً، رغب لو تمطر السماء وتبلل الأرض وتنقر بزخّاتها هياكل السيارات التالفة وبقايا الأخشاب المهملة وكميات العلب الفارغة المتناثرة على جنبات الشوارع· كان يحلم بأن تمطر السماء وتثير في مشاعره عبق الذكريات الآفل· قاد سيارته باتجاه جنوب المدينة، كانت منظومة من النجوم مصطفة في السماء وقد نسجت عقداً ضوئياً تلاشى سريعاً وسط غيوم بيضاء تمزقت كنتف القطن وسمحت لشفافية ضوء بعيد بالتسرب بين فجواتها الباردة· الأحياء القديمة جنوب المدينة، تلتصق في بعضها كالتلال الرملية الصغيرة، وتشيع عبقها الطيب الممزوج بالسكينة والاستكانة· للأمكنة في هذه الأحياء المتصلة بغوابر الأزمنة حضور متألق في ذاكرته· عبر شارع ضيق، أفضى به إلى حيه القديم، ها هو مسجد الحي عند بوابته الخشبية نعشان متقابلان لم يتغير مكانهما ثم مقهى (عبده اليماني) الذي رحل إلى اليمن قبل سنوات وباع المقهى لأحد الهنود· توغل داخل الحي إلى أن وصل لمنزله الصغير الذي تركه قبل ثلاثين عاماً بسبب عجزه عن دفع أجره الشهري، مالك المنزل أمهله يومين للبحث عن منزل آخر - آنذاك - جلب عشرات الكراتين من مرمى مستودعات الأغذية لشحن كتبه، أما باقي الأمتعة فأمكن شحنها بكيس صغير، إبريق شاي من النحاس الأصفر، سخان كهربائي عتيق، كوب من الزجاج الباهت، فراش من الإسفنج الهابط، أقلام، ناي، شريط غنائي لـ(فيروز)، وآخر لـ(فوزي محسون)· أخذ يشحن الكتب ذات الحجم الأكبر· ''الوجود والعدم'' يحتاج بمفرده لكرتون (الحرية سابقة للوجود، العدم خارج الوجود) سارتر أديب وفنان أكثر من أنه فيلسوف ومنظر· ''تدهور حضارة الغرب'' لاشبنغلر، ثلاثة أجزاء، تحتاج لأكثر من كرتونة (المدينة ليست نواة حضارة، سكان المدن يكررون الحياة والموت بطريقة رتيبة وليس لهم علاقة بصنع الحضارة البتة)، كيف؟· ستنتهي مهلة اليومين وأنت تقرأ قبل أن يجيبك هذا الموسوعي الجبار على سؤالك، أما ''هكذا تكلم زاردشت'' فأقل حجماً ويمكن شحنه مع بقية الكتب (على كل سائر أن يكون جسراً للمتقدمين وقدوة للمتأخرين) نيتشه·· فيلسوف عظيم لا يتكرر· أقلع عن همهماته وانهمك في ترتيب الكتب، ذات الحجم الأكبر، ثم الأوسط، فالأصغر· حمل كراتينه المدهشة وكيس متاعه الصغير، ورحل عن هذا الحي قبل ثلاثين عاماً· إيقاعات حزينة وشجية، تناغمت في فضاء روحه، شعر أن ذاكرته تشتعل وتصهر المكان والزمان، وكأنها تحيل حقبة توارت إلى دقائق معدودات· قاد سيارته متجهاً إلى الشارع العام، ثم سلك الطريق المؤدي إلى البحر هناك وقف على الشاطئ منصتاً لدمدمة البحر·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©