الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

على الحافة «كاتين»

30 ابريل 2009 00:51
فوق الجسر راح الآلاف، من النساء والأطفال والشيوخ، يتقدمون ببطء. فقد بلغهم أن النازي عبر الحدود من جهة الغرب واقتحم القرى. ثم جاء من يخبرهم بأن هناك تقدماً من ناحية الشرق تقوم به القوات السوفييتية. بهذا المشهد يفتتح أندريه واجدا، فيلمه «كاتين» (الذي عرض ضمن موسم الأفلام الأوروبية في أبوظبي). يؤرخ المخرج البولندي الأشهر في فيلمه (إنتاج 2007)، بوثائقية روائية مدهشة، للمجزرة التي ارتكبت في غابة «كاتين» وراح ضحيتها ما يزيد على عشرة آلاف ضابط بولندي. كانت بولندا قد اقتسمت للتو بين عملاقين: الألماني من الغرب، والسوفييتي من الشرق، نتيجة اتفاق سري عقده جوزف ستالين وأدولف هتلر. وحينما انقلب الفوهرر النازي على الرفيق الشيوعي، تبدت وقائع المجزرة، وكل نسبها إلى الآخر مستخدما الحجج والبراهين نفسها. ستمضي سنوات الحرب العالمية الثانية، قبل أن يكتشف البولنديون أن الشرطة السرية السوفييتية هي التي ارتكبت المجزرة تخلصا من العناصر «المعادية للثورة». لكن بولندا كانت قد التحقت بالكامل بالمنظومة السوفييتية المنتصرة، ما أسدل ستائر الصمت والنكران على الوقائع والآلام. هنا تبدو حساسية واجدا (وهو فقد والده في المجزرة) في تقديم عمل روائي ـ تسجيلي، يعتصر آلام بلد اغتسل بدمائه، لأن جاريه العملاقين اتفقا مرة وتحاربا أخرى. تتابع كاميرا واجدا، وقائع موت وطن، من خلال اغتيال مواطنيه، بحيادية بليغة. لا تخترع بطولة ولا تدين بمجانية. تدخل إلى اختلاجات النساء المتروكات، المنتظرات، المتألمات، بنفس طريقة الدخول إلى الأماكن التي يلفها الخوف. بواقعية فجة، مستفزة، يصور المخرج عالماً من المقهورين، جنوداً ومدنيين، يعيشون تحت سلطة المجهول بعدما أُزيل وطنهم عن الخارطة. وهي واقعية، تنشب أظافرها في أعصاب المتفرج، حينما تعرض مشاهد الإعدام: تحمل حافلات مقفلة المئات، وعندما تصل إلى الغابة تقف أمام حفرة عملاقة. يخرج الحراس ركابها، فرادى. يفوز «المعدوم» بلحظة واحدة لكي يكتشف مصيره، لا تكفي لكي يعبّر.. لكي تتغضن تقاطيع وجهه.. لكي يخاف.. لكي يصرخ.. لكي يصلي.. لكي تخور قواه.. لا تكفي حتى لكي يستنشق آخر دفقة هواء.. هي لحظة واحدة تكفي فقط لكي تخترق رصاصة جمجمته من الخلف، فيسقط في الحفرة فوق من سبقه. اختصر المشهد، الممتد والجثث المتراكمة، حالة «الموات» التي عاشتها بولندا بكاملها. حالة تعايش معها الناس ـ كما يصوّر المخرج ـ بنكران كلي أو بيأس مفضٍ إلى الانتحار. فـ «الوطن لن يتحرر أبدا»، كما تقول عميدة الجامعة، قبل سنوات طويلة، من أن يتمكن كهربائي شاب، كثّ الشارب، من اختراق سياج المصنع في ميناء غدانسك، لكي ينظم أول إضراب عمالي، ويؤسس نقابة «تضامن» التي ستدق الإسفين الأول في الستار الحديدي السوفييتي. كان اسمه ليش فاليسا. أنهى أندريه واجدا فيلمه بشاشة سوداء يغيب وراءها مشهد الجثث المتراكمة في الحفرة العملاقة، وموسيقى جنائزية انبعثت في صالة السينما المعتمة، فيما كان المشاهدون يخرجون بصمت كأنهم يعبرون فوق جسر. عادل علي adelk58@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©