الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سالم الحتاوي.. مرجل يغلي بعذابات الفقراء والمهمشين

سالم الحتاوي.. مرجل يغلي بعذابات الفقراء والمهمشين
30 ابريل 2009 00:44
وإذا كان العمر لا يقاس بالسنوات بل بمقدار ما فيها من عطاء، فلا شك أن الحتاوي ابن الـ 48 عاماً أنجز الكثير، خاصة أن إنجازه لم يقتصر على المسرح بل تجاوزه إلى الإذاعة التي منحها عدداً من المسلسلات (سرور وجمعان، جدتي أم الخير، مساكم الله بالخير، يوميات رمضانية)، ولم يستثن الدراما الذي أبدع فيها عدداً من الأعمال الناجحة (بنت الشمار، بقايا حلم، الكفن، آخر أيام العمرن يوميات عائلة بوسالم، وجه آخر، غلطة عمر)، أما السينما فكان من نصيبها (الوحل، وإنها زجاجة فارغة). لا شك أن استعراض هذا الكم من الأعمال والنصوص يظهر إلى أي حد كانت خسارة المسرح والمسرحيين فادحة بغياب هذا الرجل، لكن العزاء أنه لم يذهب إلى الموت «بيد فارغة» بل بحصاد مبدع مهموم بشؤون الناس وقضاياهم، التي حاول أن يصوغها في لوحات درامية تحمل رائحة الأرض والناس ويوميات المتعبين وحيواتهم وعرقهم وهواجسهم، لكي «ينير من خلالها شموع الأمل»، كما يقول في موقعه الإلكتروني. رحل الحتاوي حاملاً إخلاصه للمسرح والإبداع والناس الطيبيين في زمن لطالما وصفه الحتاوي نفسه بأنه «زمن التملق والانحطاط»... وفي هذه المقالة اللارثائية نتقصى بعض عوالم وهموم وملامح مسرح الحتاوي في أربعة من نصوصه وهي: «خلخال» و»كل الناس يدرون»، و»مواويل» و»حكاية رأس وجسد». ضريبة التجاوز تجمع بين مضامين مسرحياته الأربعة قرابة فكرية واضحة، فكلها تتناول حكايا الفقراء والمهمشين وما يدور في بيئاتهم من مشكلات اجتماعية، والثمن الذي يدفعه «المتجاوزون» أو «المختلفون» أو «الخارجون» على النمط الاجتماعي والفكري السائد. ففي «مواويل» يتطرق إلى معاناة المرأة التي تقع في الحب، وما يلحقها من عار إلى آخر العمر. ويدين التخلف الفكري والاجتماعي ممثلاً في الشعوذة، عبر حكاية أم عاشور العجوز المنبوذة من أهل الحي وابنها المعتوه الذي يقاسي العذاب بسبب جنونه. ويقدم لنا نماذج من الشخصيات المعذبة التي تعيش في عزلة تامة ومع ذلك لا يرضى عنها الناس، ولا يتركونها في حالها، ويحملونها ذنب البلاء والمرض الذي ألمَّ بالحي، معتبرين إياها وابنها نذير شؤم بسببه حجبت عنهم السماء الخيرات والبركات، وأن البلاء لن يرفع إلا برحيلها أو موتها، فيستعينون بـ «درويش» من حي آخر لكي يقضي عليها ويخلصهم منها. أما «كل الناس يدرون»، فتصور الحب المستحيل بين شاب فقير عزيز النفس وابنة عمه الثري. ففي زمن طغيان المال والمظاهر لا تشفع حتى صلات الدم والقرابة في كسر الحواجز الاجتماعية. يتحول الشاب صالح الفنان الشعبي إلى سكير، مشاكس، عاطل عن العمل، وتتزوج الفتاة جميلة من ابن الوزير. وفي ثنايا العمل يسلط النص الضوء على مشكلات اجتماعية أخرى مثل الخلل في التركيبة السكانية، وتشويه اللغة العربية على ألسنة «البتان»، لكن الأحداث تجري في نص لا يخلو من الكوميديا والنقد الاجتماعي. وإذا كانت «كل الناس يدرون» قد صورت دور الفوارق الطبقية على المستوى الاقتصادي في استحالة نجاح الحب، فإن «خلخال» تعلن سبباً أكثر مأساوية لقتله واستحالة تحقيقه، يتمثل في الفارق الطبقي على المستوى الاجتماعي أو المكانة الاجتماعية، وهو أكثر خطورة وشراسة، ويتطلب جرأة في تناوله لأنه من «المسكوت عنه» اجتماعياً وإبداعياً. فالمحبوبة هنا راقصة، والمحب رجل ذو مكانة مرموقة، والباقي لا يحتاج إلى شرح. الاقتران مستحيل، والبطل سهيل يقع فريسة المرض والوحشة والإدمان والذكريات. وتجسد «حكاية رأس وجسد» صراعاً نفسياً رهيباً يحدث بين جسد ورأس رجل معتقل، وتجري في عالم سوريالي أقرب إلى مسرح العبث. وتنبش ما يجري من مونولوجات موجعة في ذهن الإنسان حين يكون في ظلام السجن، وتشظيه وانشطاره بين ألم التعذيب وألم الصمود على المبادئ التي يحملها رأس تعب منه جسده، وأجرى له ما يشبه المحاكمة لأنه مسؤول عن المصير الذي يواجهه. في هذه التراجيديا السوداء يقدم لنا الحتاوي وجبة دسمة من العذاب الإنساني، وحوار متوتر بين رأس وجسد، الأول يشفق على العذاب الذي يلقاه الثاني، والثاني يتمنى أن يتخلص من الأول لأنه يملي عليه أفكاراً يرفضها الآخرون... ولكن هيهات، لأن الجسد لا يمكنه الاستمرار من دون رأس. ولا شك أن ارتباط نص الحتاوي المسرحي بالواقع منحه هذه القوة وسلطة الحضور على الساح المسرحية، ذلك أن المسرح الاجتماعي خاصة في شقه النقدي والتحليلي الجريء، هو الأقرب إلى قلوب الناس والأكثر تعبيراً عن أوجاعهم وقضاياهم. المكان المسرحي يمنح الحتاوي للمكان المسرحي مكانة معتبرة في نصوصه، فهو يرسمه بالكلمات، ويهندسه ويورد كل تفاصيله كما لو أنه يرسم لوحة فنية، يراها مكتملة في خياله. يؤثث الفضاء المسرحي بديكور غالباً ما يأتي (في النص) بسيطاً، وخالياً من البهرجة. ففي «خلخال» يكتفي بمجسم لخلخال كبير ينتصب في عمق المسرح، ويستخدمه الممثلون كنافذة ينظرون منها إلى الخارج حيناً، وباباً يدخلون ويخرجون من خلاله إلى المسرح». وفي «كل الناس يدرون» يظهر المكان مجرد حوش بيت عربي قديم تتناثر على جدرانه بعض الطبول وجلود حيوانات للإيحاء بطقوس الشعوذة، والأمر نفسه ينطبق على «مواويل» حيث تدور الأحداث في حجرة صغيرة مشققة الجدران كل محتوياتها سرير وصندوق وجرة ماء صغيرة ومدفأة بها جمر «كوار». وفي «حكاية رأس وجسد» لا نجد سوى زنزانة تتدلى من سقفها مجموعة من الجماجم، وفي وسطها كرسي خشبي تتناثر أدوات التعذيب وقصاصات من أوراق الصحف، وفي الزواية صحن به طعام وزجاجة ماء. هذا النهج في تجسيد المكان المسرحي لم يأت صدفة في نصوص الحتاوي، بل أملته طبيعة الأفكار والقضايا التي يعالجها، والتي غالباً ما تدور في مكان فقير يسكنه أشخاص فقراء أو مهمشون لا يحتاجون بالتالي إلى الفرش الوثير، وقطع الديكور الثقيلة والفخمة. ولسوف يجعل هذا الخيار المسرحي التي اختاره الحتاوي المكان يفسح فضاءه للنص ليلعب دور البطولة. كما أنه سيقدم فرصة كبيرة للسينوغرافيا والمؤثرات المسرحية لتمارس حضوراً مميزاً في العمل. والحال، أن الفقر في المكان المسرحي سينعكس غنى وثراء على الأداء والنص. اللغة المسرحية إن قراءة هذه النصوص تبرز التطور الإبداعي الكبير الذي حققه الحتاوي منذ مسرحيته الأولى (أحلام مسعود التي كتب نصها عام 1994)، وهو تطور يمكن لمسه في المعالجة الفنية والمضمونية على حد سواء. وتلك سنة الحياة وسنّة التراكم المعرفي الذي يصقل الخبرات الكتابية، وينضج الحالة المسرحية في داخل أي كاتب مسرحي حقيقي، يضاف إليها في حالة الحتاوي، طموحه للتميز واجتراح نص مسرحي مفارق للسائد وقادر على ارتياد مناطق جديدة، وطرح أسئلة مغايرة وطازجة. ومن الواضح أن قراءاته المكثفة في المسرح العربي والعالمي، كما أشار أكثر من مرة في حواراته، وانفتاحه على التجربة الخليجية والعربية ومشاهدة أعمالها، وعمله مع مخرجين عرب سواء على صعيد المسرح أو الدراما، فتح أمامه طاقات جديدة أطل من خلالها على المنجز المسرحي في عالم الكتابة المسرحية، ووظف معارفه في كتابة نصوصه. فقد اختلفت لغته كثيراً في نصوصه الأخيرة، وباتت محملة بالإسقاطات الرمزية، وصارت أكثر متانة (نصوصه الأولى كان فيها ركاكة وأخطاء لغوية وإملائية ونحوية)، فضلاً عن شاعرية مدروسة تخدم التوتر الدرامي وليس التداعي الحر للكلام الأدبي. كما أن اللغة باتت أقل مباشرة، وتتكئ على التلميح الخفي الذي يضطلع بإرسال الإشارات الرمزية، والشحنات الإيحائية للنهايات المفتوحة التي تحتمل أكثر من تأويل. ويمكن لأي مقطع من «خلخال» التي حشد فيها الحتاوي كل قدراته التعبيرية لإنجاز لغة شعرية متوترة مسرحياً أن تقدم نموذجاً لذلك، يقول سهيل بن علي مخاطباً الخلخال: «صدق يوم قالوا ما في شيْ في هالزمن إيتَمْ على حاله.. إلا أنت يا خلخالي.. ما تغيرت ولا تبدلت.. من يوم أنا صغير وأنت تحن وترن مثل الزبوت في إذني.. لين ما خبقت صماخها وخليتي أصلى.. ما أسمع غير حسَّك يسري في كل مكان.. لين ما عشقتك وبعت الغالي والرخيص في شف هواك.. ما خيلت ولا استحيت يوم قلت أحبك.. وما خفت من كلام الناس يوم تغنيت بحسنك ودلالك في قصيدي وهمت عاشق هيمان في وصوفك.. نعم قلت وبتَمْ أقول: منزلك عيني وعرشك فؤادي اللي انت متربع وجالس فيه.. يلعب بدقاته رنينك.. وأتطير حمامته يوم يمر في إذني طاريك.. تذكر يوم كنت أدق الطار لين ما ينقطع نصخي وأنت رنينك تارس المكان.. كان الدم يفور في عروقي يوم أسمع حس الطار يناغيك.. وأنت متخبّل تنقز وتحوم طربان من شوق الهوى اللي لعب فيك.. كنت مثل الطير الذبيح.. تتقلب على جمر الغضى.. متولع بدق الطار وقلبي كان ميت فيك.. وأنا أدق وأدق وأدق وأدق وأدق...». هذا النص الذي يحاول أن يصور قوة الحب بكل هذا التوتر إنما لإقناع المتلقي بأن سهيل بن علي معذور في عشقه، وأن الحب سلطان لا يعترف بالفوارق الاجتماعية. فضلاً عن كون الخلخال الشيء الوحيد الباقي من محبوبته الضائعة، والنماذج كثيرة في مواويل وعرج السواحل ودور فيها يا الشمالي وغيرها من الأعمال التي حصدت جائزة أفضل نص في أيام الشارقة المسرحية في دوراتها المختلفة. توظيف الموروث لم يكن اشتغال الحتاوي المسرحي بعيداً عن محاولات تأصيل المسرح الإماراتي، خاصة لجهة استلهام الموروث الشعبي وتوظيفه في النص، واستخدام مفردات البيئة التقليدية المحلية لتأثيث الفضاء المسرحي وإكسابه هويته، حيث كان الحتاوي يعتقد أن مثل هذا الفعل هو الذي يمنح المسرح في الإمارات هويته المحلية، خصوصاً في ظل التغير الاجتماعي الذي يتم بوتائر سريعة تعصف بالذاكرة وتهدد الهوية الثقافية بالاندثار والذوبان. ويتحقق هذا التأصيل بتكريس اللهجة المحلية التي يحرص على استخدامها في معظم نصوصه، وتوظيف الحكاية الشعبية، والمرويات التاريخية، وما تحمله ذاكرة مجتمع ما قبل النفط من قصص وحكايا، والأغاني والأهازيج والنهمات والرقصات الشعبية، والشعر الشعبي بالإضافة إلى مفردات التراث المادي من البيت الشعبي إلى النخيل والسفن والجرار وغيرها مما يحتويه البيت الإماراتي. ويركز الحتاوي في هذا المضمار على الشعر الشعبي والأسطورة أو الخرافة وما يتعلق بها من الشعوذه، ففي «مواويل» نجد عوالم السحر وغرائبياته التي تجذب المشاهد عادة، وتحقق تفاعله مع العمل المسرحي، وقد وظفها الحتاوي على نحو بشع لينفر المشاهد منها وينبهه من مخاطر الركون إلى الخرافات في معالجة ما يطرأ في الحياة من مشكلات صحية أو اجتماعية. وهو ما فعله في «همس القبور» و «الياثوم» الذي يقال إنه جان يجلس على صدر الإنسان ويطبق على أنفاسه ويخنقه، لكن معظم الباحثين بخلاف الناس الشعبيين يرون أنه كابوس ينجم عن تناول الطعام قبل النوم. وفي «خلخال» يحضر الشعر الشعبي على نحو بارز وأكثر من مرة، ليجسد حالة الحب والهيام التي يعيشها البطل، ومن نماذجه: أنوح وناظري ما طاب نومه ودمع العين يذرف بعبراتي بليت بحب غاية في زماني شرى مجنون ليلى والزناتي وتيَّمْني هواها وامْتَحنّي وقمت ارمس بِسِمْها في صلاتي وأنا عبد لها راضي بنفسي وهي عمة وسَمّيها غناتي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©