الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الخيل.. أخلاقها ورغباتها الدفينة

الخيل.. أخلاقها ورغباتها الدفينة
19 فبراير 2014 21:40
يقدم العرض «كفاليا في قصر الحصن»، الذي يفتتح مساء هذا اليوم النسخة الثانية من مهرجان قصر الحصن، لفرقة كفاليا الاستعراضية الكندية، من إخراج نورماند لاتوريل وتصميم كيروغرافي وحركات أكروباتية وبهلوانية لآن غوثيير، أحد أبرز المبتكرين في هذا المجال في العالم اليوم.. يقوم العرض على فكرة تطور علاقة الإنسان بالخيل عبر قالب درامي يرصد تفاصيل العلاقة الفذة التي ربطت بين البشر وهذا الكائن البرّي المستأنس، والجلود سريع الغضب، والقوي الذي يجفل كثيراً، والغيور على أنثاه الذي قد يقبل بالعيش وحيداً، غير أنه إذ يأنس للإنسان فإنه يحب ويفي ويطيع من كل قلبه هوى صاحبه حتى لو تأذّى من ذلك. يشارك في «كفاليا في قصر الحصن» خمسون من الخيل من إحدى عشرة سلالة من بينها العربية والإسبانية والبوني ذات الحجم الصغير، بالإضافة إلى خمسين راقصاً وراقصة وفارساً وفارسة وفنانين، سوف يؤدون هذه الحكاية دون لغة بل هي لغة الجسد التي تشكلت أبجديتها أثناء التدريبات المستمرة للخيل مع البشر، حتى أن المرء يتساءل: متى كانت الخيل على شدة القرب هذه من البشر؟ وكيف أمكنها أن تصنع تلك الكيمياء الغامضة التي تتسم بها العلاقة الجسدية التي تربطها بصاحبها سواء أكان فارساً أم لاعباً أكروباتياً أم الاثنين معاً؟ وكيف كان لـ «كفاليا» أن تحقق هذا النجاح المدهش في العالم مع أنها قد تأسست حديثاً فلم تبلغ من العمر حتى الآن سوى الأعوام العشر؟ العرب والخيل والحال أن اختيار الخيل العربية لتكون من بين الخيل الأخرى المشاركة في العرض لم يأت اعتباطاً. ففي القرون العشرة الماضية أتيح للعالم أن يتعرف على طبائع هذه الخيل من حيث قوة الجسد ومن حيث الطبائع، إذ يؤثر كل واحد منهما في الآخر، فاستجلبتها الأمم الأخرى التي وصلت إليها جيوش الفتح العربية أو اتخذت منها فحولاً أو استهجنت منها ما يورث تلك الخيل الأجنبية بعضا من صفاتها العربية. وربما لم تَعرف من طبائع الخيل أمة مثلما عرفت العرب قديما، فوضعت في ذلك مؤلفات عديدة ما زال البعض منها مفيداً في حقل التعرف على طبائع الخيل عموما، والعربية منها على وجه التحديد، هي الأمة التي أحبتها فأكرمتها وأسبغت عليها من الصفات ما يجعل النعت عاجزاً عن الكلام. ولم يخل من الحديث عنها لا الخطاب القرآني ولا الحديث النبوي، فأصبحت مذاك مباركة ومبروكة «معقوداً في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» (بحسب الحديث الشريف)، وقيل في وصفها الكثير من الشعر، بل إن تلك القصائد والأبيات التي قيلت فيها ونقلت إلينا من كتب الشعر الكلاسيكي العربي ودواوينه ومنتخباته لكفيلة وحدها، بأن تصنع موسوعة معرفية متكاملة عن الخيل وطبائعها وأخلاقها وأجسادها وقوتها ومقدرتها على احتمال خوض المعارك، فهي التي نُصرت بالرعب مرة مثلما انتصر فرسان الفتح الذين حملتهم على ظهورها. بل إن العرب قالت في الخيل الأساطير، أما في ما يتصل بخلقها فيورد المسعودي في «مروج الذهب» حديثا نبويا مسندا إلى ابن عباس جاء فيه: «إن الله لما أراد أن يخلق الخيل أوحى إلى الريح الجنوب أنّي خالقٌ منكِ خلقا فاجتمعي، فاجتمعت، فأمر جبريل عليه السلام فأخذ منها قبضة، قال: ثم خلق الله منها فرسا كُمَيْتا، ثم قال الله تعالى: خلقتك فرساً وجعلتك عربياً وفضلتك على سائر ما خلقت من البهائم، بسعة الرزق، والغنائم تُقاد على ظهرك، والخير معقود بناصيتك، ثم أرسله فصهل... إلخ». ثم أكمل شعراء العربية هذا المديح العالي، بل جعلوا لها من مديحهم أسطورة فقالوا بأنها «قد خرجت من ضلع الريح الجنوب»، ولشدة سرعتها قد خرجت من ظلِّها وسبقت الصهيل. أيضا فإن تسمية «الفرس»، سواء للذكر أو الأنثى من غير الجائز إطلاقها إلا على الخيل العربية التي من نسب عربي فصيح فحسب، أما الهجينة، التي من ذكر عربي وأنثى من غير ذلك، فتسمى «البراذين» أي حثالة الخيل. من اليمن يرد ذلك، أي ما ذكره المسعودي وكذلك الشعر، في «موسوعة العاديات أكبر موسوعة عربية في الخيل العربية» الصادرة في عام 2006 عن مركز الوثائق والبحوث التابع لوزارة شؤون الرئاسة، والتي بحسبها أيضاً أي الموسوعة فإن الخيل العربية قد وجدت أولاً في بلاد اليمن، وذلك على محمل الظن لا اليقين، «إلا أنه لما وقع السيل العَرِم ببلاد اليمن فرّت منها ولحقت بالقفر مع الوحوش ثم ظهرت بعض كرائمها في بلاد نجد». حتى ذلك العهد، أي ما يُقارب الثلاثة آلاف قبل الميلاد، لم تكن العرب قد استأنست الخيل بعد، وكانت تصطادها وتأكل لحمها مثلما هي حال سائر الوحوش الأخرى التي كانت الجِمال من بينها أيضا. لا بدّ أن جَمال هذا الحيوان البرّي المتوحش الذي يأبى أن ينفرد بنفسه عن القطيع، قد أغوى العربي، وربما من خلال معاشرته إياه على تلك العداوة هي التي خلقت في نفسه حافزا لترويضه، فهو الغيور على أنثاه، الذي، إن كان فحلا قائدا للقطيع، يقتحم المهالك ويختبرها قبل أن يقتحمها سائر القطيع، والذي يأبى أن يكون له منافس من قطيعه أو من غيره من القطعان في إناثه أو الأرض التي يرعى بها، ثم ذلك الجمال الأخاذ إذ تُرى من قرب أو بُعد وفي كل أوضاعها الجسدية. الأرجح أن ما جعل العربي يكفّ عن قتل الخيل ويسعى إلى التودد إليها هو إحساسه بأنها أقرب المخلوقات إليه، بل أشرفها وأكثرها نبلا وشجاعة، فضلا عن القوة الجسدية والسرعة التي يفرّ بها إن أدرك خطرا يمسه أو يطال أحدا من أفراد قطيعه. الأرجح أيضاً، أن البيئة المحيطة التي شهدتها شبه الجزيرة العربية والانقلاب المناخي الهائل الذي بدأ منذ القرن الثامن إلى السادس قبل الميلاد، وتزامنه مع ظهور الخليج العربي بالتدريج نتيجة فيضانات متلاحقة طالت المحيط الهندي، وكذلك تحوّل الأرض هنا من زراعية خصبة إلى صحراوية قاحلة.. كل ذلك قد دفع بالخيل مثلما بالسكان المحليين إلى ما يشبه أن يستأنس أحدهما بالآخر، فقبلت الخيل بما لم تكن تقبل به سابقا، أي العيش في الاصطبلات، هي التي تحب النور وتسعى إليه، إنما دون الحاجة إلى أن تتنازل عن شروطها الخاصة، وكان لإدراك العربي لهذه الخصائص النفسية والطبائع والشمائل التي امتازت بها الخيل عن سواها من وحوش برية، أن أحدث بذلك تغيرا كبيرا في حياته مثلما في حياة هذا الحيوان. مواصفات جسدية منذ ذلك الوقت بدأ العربي يترجم علاقته بالخيل إلى خبرات لم تكتمل إلى معارف مكتوبة إلا في العهود الإسلامية اللاحقة فاستوت إلى ما هو أقرب إلى العلم التجريبي، بنظريات مختلفة أو متضاربة أو متجاورة تناقلتها المخطوطات. أما عن الكيفية التي تُعرف بها الخيل العربية عن سواها، فلم يبق سوى المواصفات الجسدية التي قام العرب بدراستها بالتفصيل، إلى حد أن لكل عظمة من عظام الفرس ولكل غضروف من غضاريفها اسم يُعرف به عند أهل الاختصاص من المربّين والمدربين، بالإضافة إلى تلك المواصفات الجسدية البارزة التي لا تخطئها العين المدربة والخبيرة فيتم من خلالها تحديد عيوب الخيل من محاسنها، وكذلك تحديد ما إذا كانت عربية النسب أم غير عربية أو هجينة. إلى حدّ أن العرب قد سمّت تاجر الخيل بالنخاس في بعض المراجع، لكنها لم تصف الخيل بالعبيد ما يدل على رفعة شأنها، فكان المرء يُسأل عن أبنائه وماله وبيته للاطمئنان عليه ثم يُسأل عن خيله. ينضاف إلى ذلك أن بعض المذاهب الإسلامية قد كرهت أكل لحم الخيل أما الأخرى فجعلته جائزاً حلالاً، لكنها جميعاً اتفقت على عدم جواز الزكاة به، وحتى اليوم ما زال لحم الخيل مرغوباً لدى الناس في الجزائر، ويؤكل لحمها كسائر الحيوانات الحلال. في هذا السياق أيضاً، فإن العرب تصف خيلها بأنها: «عربية عتيقة: أي الكريمة من كل شيء» (الموسوعة الجزء الأول)، والمقصود بذلك تلك الخيل التي ليس في أصلها ونسبها ما يشوب الأصل والنسب العربيين من الخيل الهجينة أو غير العربية. وأعادت العرب أصل الخيل العربية إلى فرس ركبها رجل خلال الفترة الزمنية الممتدة من عدنان إلى إسماعيل عليه السلام، ويدعى هذا الفرس «زاد الراكب»، أي في تلك الفترة الأولى من استئناس العرب للخيل، وبهذا فإن «زاد الراكب» هو الجدّ الأعلى للخيل العربية، وقد جرى تحديده لأنه ذكر، فكرّمته السجية العربية وفضلته على أنثى الخيل مع أنهما معا في قَدْر السرعة ذاتها والشجاعة وكرم النفس والبذل والتوق إلى الحرية، بدلالة أنهما كليهما يفضلان نزع اللجام والسرج عنهما عندما تنتهي مهامهما اليومية، حيث كانت الخيل رفيقة العربي في الشظف مثلما في اليُسر، ولها من القدرة على الاحتمال ما يجعلها، في حال العطش، تكتفي بالقليل من وإن لم يتوافر هذا الماء عذباً شربت منه مالحاً وصبرت إلى أن تجد ماء جارياً، وحين يعزّ الماء فإنها في المطارح التي كانت فيها غدران أو ما شابه ذلك تضرب الأرض بقدمها حتى يخرج الماء عكِراً فتشربه، إذ هي تفضّل الماء عكراً على الصافي الذي تعكره لتشرب إن كان غير ذلك. الكحلاء النجلاء كانت العرب أقرب في طبعها إلى الخيل الكحلاء أو النجلاء، وهما من صفات عيون الخيل المحببة، حتى أن العربي كان يرى صورته فيهما كلما نظر إلى عيني الخيل، ويحبّ أكثر تلك التي يستطيل عرفها فتداعبه الريح إنْ ركضت، ترى هل يفسر ذلك ميل العربي إلى أنْ تكتحل عيناه هو أيضاً وأنْ يستطيل شعره فيجدله ويرسل الجدائل إلى أسفل العنق وأعلى الظهر تماما كما هي الحال مع الخيل التي ربّاها وتربّى معها؟ ربما يكون هذا الأمر صحيحا، وربما يخطأ أيضا، لكن واقع الأمر هو الذي يقود إلى مثل هذه المقارنة التي تدل على ذلك التماهي بين أخلاق العرب وأخلاق خيلهم، التي لا بدّ أنها تركت أثراً فيهم مثلما تركوا هم أثراً فيها. كما أن العرب قد بغضت الرجل الذي يضرب خيله، ولا يعرف وسيلة للتعامل معها سوى الوخز ولسع ضربات السوط. والأرجح أنّ ذلك ليس من صلافة وحدّةِ طبعٍ وضيقِ خلُقٍ لدى صاحب الخيل وحده فحسب، إنما لأمرين آخرين أيضاً يخصان طبائع الخيل، الأول منهما أن هذه الخيل تمتلك ذاكرة قوية وحافظة، فلا يستجيب لمن ضربه وأهانه مُهر حتى عندما يكبر. الخيل قد لا تؤذي لكنها لا تتسامح فلا تستجيب لضاربها بالسوط وتصبح حرونة معه فتوقعه أرضاً وتمضي بعيداً عنه، لكن فارسها الذي أحبته لحسن معاملته لها فإنها تحسن معاملتها له أيضاً. إنها تقابل الجميل بالجميل والنكران بنكران، وذلك لاعتدادها بنفسها وإحساسها بكبريائها، ولا تعبر عن ذلك من خلال الصهيل بل لها من الأصوات الأخرى التي أدركت معانيها العرب في أحوال الرضا أو الغضب أو التعب أو الفرح، وكذلك عندما تُترك لتهيم في البرية وحدها بلا رسن أو لجام أو سرج لتعود بعد وقت إلى مكانها. وهنا فإن للخيل قوة حضور تخص ذاكرتها إلى جوار ذكائها، وهما معا يجعلانها تحفظ الطريق حتى لو مرّ على مرورها بها سنتان أو ثلاث، فتعيد صاحبها إليها كأنها مرت بها بالأمس. وفي السياق نفسه، فإن رقة معاملة الخيل وتفهّم حالتها النفسية يجعلانها أكثر إخلاصاً ووفاء لصاحبها. وكم أَثَارَتْ العرب من حكايات عن إخلاص الخيل وحسن رفقتها ومحبتها لصاحبها إذ تبادله حباً بحب. تعتب وتعاتِب أما الأمر الأخير وهو مرتبط بالذاكرة أيضا، فهو أن الخيل «تعتب وتعاتِب»، وإنْ أُسيء فهم ذلك عن طريق سلوك خشن وغير لائق فإنها تنأى ولا تستجيب بسهولة وقد تُضرب عن الطعام حتى إشعار آخر، إذ إنها من أكثر المخلوقات احتمالاً للجوع وأقلها صبراً على المذلة، وهذا واحد من أسباب حضورها الكريم في الثقافة العربية إجمالاً، وإحدى البوابات الكبرى التي دخلت منها الخيل إلى الوجدان العربي، تاريخياً. وقد جاء في الموسوعة في هذا الغرض: «وليحصل المرء على كمال المتعة في امتلاك الخيل وركوبها، فإن من الضروري أنْ يحبها، وأن يحاول جهده فهمها، والوقوف على طبائعها وغرائزها وتطورها». ويمكن أيضاً أن يضاف إلى ذلك، فطنة الخيل وذكاؤها الاجتماعي إذ يمكنها بسهولة «أنْ تتعلم تنفيذ الأوامر بدقة، بعدد غير قليل من المفردات، إذا كانت الأوامر نفسها تُستعمل دائماً، وباللهجة نفسها وللغرض نفسه المطلوب تنفيذه»، «عندما تكون مطمئنة ساكنة النفس» (الموسوعة الجزء الثاني). وفي تلك الأثناء التي كانت فيها الخيل عزيزة كالمال والبنين، لم يكن السائس يسمح لنفسه بالدخول على الخيل إلى إصطبلها دون أنْ تأذن له بذلك، فإذا لم تصدر حركة تفيد بأن يدخل إليها، كأنْ تحرك إناء العَلَف، فإن عليه أن يعود من حيث أتى حتى لو كان قادماً لإطعامها أو لتطبيبها. إنها، بمعنى ما، مخلوقات ذات مزاج خاص وتحب أن تنفرد بنفسها في بعض الأحيان بعيداً عن البشر. غير أن المؤلم من طباع الخيل هو إحساسها بالخوف الذي قد لا يكون مفهوماً حتى من قبل صاحبها ذاته، إنها تنفر وتجفل إذا شعرت بخطر مبهم، فتقف على قائمتيها الخلفتين، وفي حال الهياج قد ترفس وتصهل وتمضي بعيداً وربما تقطع الحبل الذي يشدها إلى وتد قد تقتلعه أيضاً، وتمضي بعيداً حتى لو آذت نفسها. ربما يكون وراء هذا الفزع شيء ما ليس منطقياً من وجهة نظر الإنسان المروّض أو المدرب أو الفارس. أسباب بيولوجية وبحكم ما تورد الموسوعة من خبرات العرب في ذلك، يمكن القول إن هناك أسباباً نفسية وراء هذا الهياج، كأنْ تكون ثقة الخيل بفارسها محل اضطراب وعدم اطمئنان، أو كأنْ يأتي أحدهم فيستفزها إذ ينفخ في وجهها أو يقلد صوت الصهيل على مرأى منها، أو يُصدر أصواتاً نشازاً تجعلها تغضب بحدّة وتبتعد. أيضاً لذلك أسبابه البيولوجية المحضة. إذ إنّ للخيل بين عينيها مسافة فاصلة أوسع من سواها من المخلوقات، وقد وفّر لها ذلك قوس نظر واسعاً يمكّنها من رؤية كل ما حولها من الجانبين مع قليل من الخلف، أي أنها ترى ما لا يرى صاحبها، فإذا جفلت أو ارتعدت تكون قد أحسّت بخطر ما، وربما لا يكون هناك خطر حقيقي، يبرر الخشية منه إلى حد الهياج والفزع. أيضاً، فإن من الصعب عليها تجاوز هذا الإحساس بالخطر من هذا الشيء أو ذاك بالتحديد إلا بالمرور عليه في موضعه الأول مثلما كان عليه عندما جفلت، وذلك بإعادة المرور عليه لأكثر من مرة، الأمر الذي يرهقها جسدياً وعصبياً، وإذا لم يتفهم صاحبها هذا الأمر فإن من المستحيل عليها تجاوزه فعلاً. وهنا ذهبت العرب أبعد من وجوب محبة الخيل وإحسان معاملتها، فإن لم يتفهمها صاحبها فعليه أنْ لا يقترب منها. وأدركت العرب أيضاً أن من طباع الخيل الحفاظ على روح الجماعة أو القطيع، وخاصة الإناث من بينها، فهي الأقلّ ميلاً إلى العزلة والانفراد والأقرب إلى اللهو والمرح مع مهارها (مفردها مهر)، التي تكتسب منها مهارات تعينها على العيش، تفيدها لاحقاً في مواجهة الحياة، فتورثها من صفاتها ما يجعلها قادرة على العيش مع بني البشر، حتى أن الإناث في حال فصل الفحل أو أخذه أو عزله لأمر ما، تحافظ على روح القطيع تلك، أي تحفظ له حياته الاجتماعية وتواصله واستمراره الذي يمد كل واحدة من الخيل بطاقة نفسية عجيبة تجعلها تدرك غريزياً ما تعنيه روح القطيع من المحبة والألفة التي لا يستطيع البشر أن توفروها لها، إذ أنّ الخيل تبقى الإحاطة بالمعرفة بها معرفة تامة ضرباً من المستحيل. هناك مسائل تظلّ غامضة يردها بعض الآراء في علم الحيوان الحديث إلى ما تبقى من رغبات دفينة لديها، وتوق يتأجج أحيانا إلى حياة البرية الأولى التي غادرتها منذ أربعة آلاف سنة وأكثر. وقد أثبتت العديد من التجارب والاختبارات أن للخيل من قوة البدن والصبر والاحتمال ما يجعلها تنسجم سريعاً مع البيئة البرية بكل توحشها، وتطلُّبها إذا أطلق سراحها بعد أسر عانت فيه العيش وفقاً لأنظمة وقوانين صارمة، وتوفَّرَ لها فيه الغذاء بسهولة. وهذا الطبع في الخيل واحد من تلك الأسباب التي تجعلها قريبة من النفس البشرية الكريمة التي تحبها وتعينها على العيش المشترك. فالمرء إذ يدرك ما قدّمه استئناس الخيل واستدخالها في خدمة مآرب البشر، فإن من الصعب عليه أن يتخيل حياة البشر من دون هذه المخلوقات عزيزة النفس والعزيزة على النفس في الوقت ذاته. وبالعودة إلى الاستعراض «كفالينا في قصر الحصن»، فإنه لا بدّ من الإشارة إلى أن الخيل تحب الموسيقى وتطرب لها وتتحرك أجسادها بناء على إحساسها بالإيقاع الذي تصغي إليه، وهو ما سنراه في الاستعراض مساء هذا اليوم وكل يوم حتى الأول من الشهر المقبل. وإذا كان من المتداول أن إحدى إناث الخيل قد نطقت باللغة الصينية في إحدى الضواحي الريفية على مقربة من مدينة نيويورك، وهو أمر بعيد عن التصديق وأقرب إلى المتخيل منه إلى الواقع، فإن الخيل العربية والإسبانية وسواهما من سائر السلالات كريمة المحتد والنسب، سوف تتحدث كثيراً عن تجربتها الناجزة مع البشر، بحلوها ومرّها أو بعجرها وبجرها، مثلما يُقال، إنما بلغة أكثر مما اعتدنا على الخيل أن تأتي به، وهي لغة الجسد، لغة الرقص والموسيقى التي تومئ وتشير فتفصح بأكثر مما يفصح البيان والحكي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©