الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زايد.. مجالس الفيض

زايد.. مجالس الفيض
20 فبراير 2014 12:25
ربما تساعد الفُرَص، بعض الناس بتسلق قمة المجد والشهرة لبرهة من الزمان، ولكنها لا تحتفظ لهم بمكانة لائقة بذاكرة الناس، إن لم يكونوا أهلاً لها، ويرعونها ويسهرون عليها بالعلم والحزم، لأن “كل عزٍ لم يؤيد بعلم إلى ذلٍ يصير”، كما يقول حكيم العرب الأحنف بن قيس. فالعظماء من القادة، هم عظماء بالفطرة السليمة، وتُصقل شخصيتهم بالتنشئة الصحيحة، وتتجوهر بالتجارب وتراكم الخبرات، فتجود سجاياهم بمحاسن الأعمال وناصع الأفعال، التي يشار إليها بالبنان، وتجري بها الركبان. ما يجعل التاريخ يحفظ مآثرهم ومكرُماتهم وأياديهم البيضاء، التي إذا ملكت سَجَحَتْ، كما تقول العرب، وإذا حازت أعطت، بل صَبَّتْ الخير على من حولها صباً، “حباً وطواعية، سراً وعلانية”، من دون حَمّدٍ أو شُكورا، ومن دون مَنٍّ أو ظُهورا، لأن الأُباة أو الأحرار من الرجال.. الرجال، يرفضون المهانة والصَغَار لغيرهم بالفطرة، بمقدار ما يأبونها لأنفسهم. ما يعني أن حرص القادة العظماء على أهلهم وشعبهم يأتي بقدر حب وحدْبِ الآباء للأبناء. بفضاء هذا المعنى يدور كتاب “زايد.. تاريخ إنسان وحضارة وطن” للباحثة الإماراتية شيخة الغاوي، الصادر حديثاً عن وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع. يتألف الكتاب من حوالى ثلاثمائة وأربعين صفحة، من القطع الكبير، ويحتوي على مقدمتين: الأولى كتبها سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية، رئيس المجلس الوطني للإعلام. والأخرى أعدتها الباحثة، بالإضافة إلى بابين، يضمان اربعة عشر فصلاً، وخاتمة. يقول سمو الشيخ عبدالله بن زايد في تقديم الكتاب: “لقد علمنا زايد معاني لا يمكن أن ننساها، علمنا الحب والمودة، والعطاء والوفاء، وعلمنا الحنكة والحكمة، كما علمنا التسامح وتقبل الغير واحترامه”. سيرة رجل وأمة في الفصل الأول، الذي يحمل عنوان “زايد الخير سيبقى في ذاكرة التاريخ”، ترصد الباحثة مسيرة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان منذ مولده عام 1918، حيث “تفتحت عيناه وسط بيئة قاسية وحياة صعبة، عاشها سكان إمارة أبوظبي في تلك المرحلة من تاريخها، فبدأ بمطالعة أصول الدين وحفظ القرآن الكريم، ونَسَجَ من معانيه نمط سلوكه ونهج حياته”. وتمر الباحثة على المرحلة الثانية من حياة الشيخ زايد، التي بدأت بالانتقال إلى العين، حيث “أظهر شغفه بالمكونات التقليدية التي يتصف بها البدوي الأصيل، كالصيد بالصقور وركوب الخيل والهجن وإتقان الرماية”، فاكتسبت ثقافته بعداً جديداً، حينما ولع بالأدب والشعر والتاريخ، وأبدى اهتماماً متزايداً بمعرفة أيام العرب وأمجادهم، فكان يستمتع بمجالسة الكبار، لمعرفة سِيَر الآباء والأجداد”. وفي هذا المناخ أخذت شخصية زايد القيادية “تتبلور وتظهر بجلاء خلال هذه الحقبة من مطالع الأربعينيات”. حيث تم تعيينه ممثلاً للحاكم عن مدينة العين والمنطقة الشرقية عام 1946، فأظهر من فنون القيادة ما لَفَتَ عيون الجميع إليه، سواء لجهة بساطته وقُرّبِهِ من الناس ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، أو لجهة السهر على مصالحهم وتطوير حياتهم برؤى ابداعية خلاقة، حيث استحدث “أول نظام للري، ألغى به تجارة الماء، التي كانت سائدة بالمنطقة الشرقية، مؤكداً أن مياه الأفلاج الآتية من جوف الأرض، يجب أن تكون من حق جميع الناس، الذين يعيشون فوق الأرض”. كما افتتح رحمة الله عليه “أول مدرسة في العين عام 1959، وأنشأ مستشفى، وسوقاً تجاريا وشبكة محدودة من الطرق، “فبدت العلاقة بين الحاكم والمحكوم، كما العلاقة بين الأسرة والأب الرشيد، حسب الرحالة البريطاني ويلفرد ثيسجر (مبارك بن لندن) في كتابه “الرمال العربية” الذي يقول فيه “إن زايد رب أسرة كبيرة يجلس دائماً للاستماع إلى مشاكل الناس ويقوم بحلها. ويخرج المتخاصمون من عنده وكلهم رضاً بأحكامه، التي تتميز بالذكاء والحكمة والعدل”. وفي السادس من آب (أغسطس) عام 1966، سطعت شمس زايد، عندما بايعته الأسرة على حكم إمارة أبوظبي، وكانت حينها خيرات النفط قد عمت البلاد، فكان قراره التاريخي الأول، هو تسخير الثروة للتطوير والتحديث بقوله رحمة الله عليه “إذا كان الله عزَّ وجل قد منَّ علينا بالثروة، فإن أول ما نلتزم به ــ رضا لله وشكراً له ــ هو توجيه هذه الثروة لإصلاح البلاد ولِسَوّقِ الخير إلى شعبها”. واقترن القول بالفعل، فانطلقت عجلة البناء في كل المجالات التعليمية والصحية والشؤون الاجتماعية، وفتح المجالات الاقتصادية على مصاريعها للجميع. وكان يتابع كل ذلك بنفسه ويجول في عرض وطول الإمارة أطراف الليل وآناء النهار. وكان إلى ذلك، مراقباً بعين حذرة المعطيات الاقليمية والدولية، وفاتحاً ذراعيه وقلبه وعقله لإخوانه حكام الإمارات الأخرى، لأنه كان يدرك مسبقاً من خلال معرفته العميقة بالتاريخ، وقراءته الدقيقة للحاضر “أن الاتحاد هو طريق القوة، وطريق العِزَّةِ والمِنّعَةِ والخير المشترك، وأن الفرقة لا ينتج عنها إلا الضعف، وأن الكيانات الهزيلة لا مكان لها في عالم اليوم.. فتلك عبر التاريخ على امتداد عصوره”. ولاقت دعوته الحرة، استجابة وقبولاً سريعين من أخيه المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي، حيث كان الاجتماع الأول بينهما في الثامن عشر من فبراير (شباط) عام 1968، في السمحة بين أبوظبي ودبي. وجاء الاجتماع متزامناً مع إعلان بريطانيا عزمها على اجلاء جيوشها من “الإمارات المتصالحة” قبل انتهاء عام 1971. وبعد تسعة أيام جذب فحوى الاجتماع ومضمونه، بقية إخوانهما من حكام الإمارات وقطر والبحرين، لأن تطلعاته رحمة الله عليه كانت تتجاوز الإمارات إلى كل بلدان الخليج، بل إلى كل العالم العربي. وتواصلت الجهود واللقاءات بالصبر والحلم والمثابرة، التي تميز بها المغفور له الشيخ زايد الثاني، إلى أن قام الاتحاد الإماراتي الراسخ، ومازال يزداد قوة وتماسكاً بحكمة السلف ورعاية الخلف الرشيد”. ومرت الباحثة سريعاً على دور المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بعملية التحديث في كل المجالات والقطاعات، التي انتقلت بعهده إلى مستويات عالمية يشهد بها القاصي والداني. علامات على الطريق في الفصل الثاني من الكتاب، الذي حمل عنوان “أقوال خالدة 2” جمعت به الباحثة مقتطفات من كلمات الشيخ زايد، تختزل رؤيته الثاقبة، في موضوعات الحداثة والتنمية، وكانت بمثابة علامات على الطريق، تهتدي بها الأجيال المقبلة، فيقول ـ رحمة الله عليه ـ بالعلم “إن حجم الدول لا يقاس بالثروة والمال، لأن المال ما هو إلى وسيلة لغايات عظيمة، لا يحققها إلا العلم، وقدرة الدول على توفير الحياة الكريمة والآمنة لأبنائها. ونحن هنا في دولة الإمارات نعطي أهمية للعلم والعلماء في كل المجالات”. وفيما يتعلق بعملية بناء الإنسان ورؤيته لمعنى الحداثة القائمة على أسس ثقافية بالمعنيين المعرفي والأخلاقي، يقول رحمه الله “لقد كنت أردد دائماً وعن قناعة قوية، إن الإنسان هو أساس الحضارة، وإن اهتمامنا به ضروري، لأنه محور كل تقدم. فمهما أقمنا من منشآت ومدارس ومستشفيات وغير ذلك، فإن كل هذا يبقى كياناً مادياً لا روح فيه، لأن روح كل هذا هو الانسان القادر بفكره وجهده وإيمانه على تحقيق التقدم المنشود. إن النهضة لا تُقاس ببنايات من الإسمنت والحديد، وإنما ببناء الإنسان، وكل ما يُسعد المواطن، ويوفر له الحياة الكريمة”. وبخصوص رؤيته لدور المرأة الفاعل على كل المستويات، وفي كل المجالات، يقول الشيخ زايد “إن أملي كبير في اليوم الذي أرى فيه الطبيبة والمهندسة والدبلوماسية بين فتيات الإمارات”. وعلى مستوى رؤيته التوحيدية، التي تتجاوز حدود الإمارات، يؤكد الشيخ زايد “أن الاتحاد ما قام إلا تجسيداً عملياً لرغبات وأماني وتطلعات شعب الإمارات الواحد في بناء مجتمع حر كريم، يتمتع بالمِنّعة والعِزّة وبناء مستقبل مشرق وضاح، ترفرف فوقه راية العدالة والحق، ليكون رائداً ونواة لوحدة عربية شاملة”. صور ناطقة في الباب الثاني، الذي يتألف من إثني عشر فصلاً، تعرض الباحثة شيخة الغاوي إثنتي عشرة شهادة حية، هي أقرب إلى الصُوَرِ الناطقة، رسمتها إثنتا عشرة شخصية عاصرت، بل عايشت المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، عن كثب وقرب شديدين، وخصوصاً في مرحلة البدايات، التي كانت محفوفة بالمصاعب والعقبات والتضحيات، سواء على مستوى التحديث والبناء، أم على مستوى جمع الشمل والتوحيد، في منطقة مضطربة، كانت على مر التاريخ، تتقاطع فيها مصالح الأقوياء، وتدور على أرضها صراعاتهم ومكائدهم، كونها همزة وصل بين الشرق والغرب. وتضاعف حولها التدافع، بل التكالب والتناهُش بعد بزوغ النفط، عصب الطاقة وشريان القوة في الزمن المعاصر، ما جعل المنطقة مسرحاً يمور ويفور بالمؤامرات والدسائس الإقليمية والدولية من كل الأشكال والألون. في ظل هذا الموج المتلاطم من الأخطار المحدقة بالمنطقة، والتحديات الخارقة، كان على المغفور له الشيخ زايد أن يعبر بالبلاد والعباد إلى بر الأمان. وتحققت المعجزة، ونجت السفينة بربانها الماهر، ونمت الغِراس الطيبة، وأينعت الثمار، وحان القَطاف، ونَعُمَت الإمارات وأهلها بمواسم الجَنى، وعمَّ الخير، وفاض على الجوار في المديين القريب والبعيد. لذلك تكتسب الشهادات الحية عن تلك المرحلة أبعاداً غير عادية، أقلها تقديم إضاءة على جوانب مهمة من شخصيته، التي جمعت العزم والتصميم بالبناء والتحديث، والبساطة والعفوية بالقيادة والإدارة، والحلم والصبر بالشدة واللين، والتسامح بالحزم، فكان تركيبة إنسانية عبقرية، تختزل قيم “مكارم الأخلاق” كما عرفتها العرب في تاريخها التليد. الشهادات قدمها، حسب ورودها بالكتاب ـ مع حفظ الألقاب والمكانات للجميع ـ كل من: سالم بن ابراهيم السامان، الشيخ سالم بن مسلم بن حم، أحمد بن ممحمد المحمود، بطي بن بشر، عبد الرحيم السيد موسى الهاشمي، مبارك بن قران المنصوري، محمد بن خميس بن عبيد بوهارون، داوود سليمان السكسك، زهرة محمد حسن الحطاب، محمد موسى الخالدي “أبو راكان”، سيف بن سويدان الكتبي، محمد عبد الجليل الفهيم. بناء الإنسان يتحدث سالم السامان في شهادته عن خصال القائد الأب، القريب من القلب، بعقله وروحه، الذي يجعل من يقترب منه، أسير خلقه الرفيع، فيكون أول من يسمع ويُطيع، لأن الحلم مشترك ويخص الجميع. لذلك أدرك المغفور له ببصيرته النفاذة، تحولات العصر والزمان، وبناء حضارة الأوطان، وركّزَ بوعي وتصميم على بناء الإنسان من الداخل، لأنه الأساس الصلب لنهضة البلاد القائمة على العلم والمعرفة، فكان اهتمامه بالتعليم والاستشفاء والاقتصاد ليشعر الفرد بقيمته الإنسانية ودوره الحضاري. من جهته يقول الشيخ سالم بن حم إنه رافق المغفور له الشيخ زايد في حله وترحاله منذ مطالع الخمسينيات، وشاركه أيام “الشِدّة”، وخصوصاً عندما كان يجول على الناس ويطلع بنفسه على أحوالهم الاقتصادية والمعيشية الصعبة، فكان ذلك همه وشغله الشاغل، وأن تصميمه كان يزداد يوماً إثر آخر على تغيير هذا الواقع، في ظل إمكانيات كانت محدودة للغاية، ولم تهدأ روحه حتى بدأ يرى علامات التحول. وربما هانت عليه المسألة، حين صارت خطى التغيير أسرع مما كانت عليه قبل ظهور النفط. ويرى ابن حم أن أعظم ما يميز هذه الشخصية التاريخية، هو تواضعه وبساطته، المجبولان بالمكارم الأصيلة، والبصيرة الاستراتيجية والرؤية التحديثية الثاقبة على كل المستويات، التي كان يواكبها بنفسه ساعة بساعة. ومع ذلك لم يكن الهمّ الوطني، يُبعده عن الهموم العربية والاسلامية، لا بل كان بذات الحَدْب والحنو والحرص، “فاعلاً في تقوية روابط الأخوة ووشائج القربى على الصعيدين الإقليمي والعربي، فضلاً على إسهاماته المثمرة في بناء علاقات دولية قائمة على الاحترام المتبادل بين الشعوب، ومرتكزة على مبادئ الحق والعدل والمساواة”. دواء اللصوصية أما أحمد بن محمد المحمود، السكرتير الخاص للشيخ زايد خلال الفترة الممتدة من عام 1952 إلى 1971، فيلاحظ أن حلم وعَفّوَ المغفور له، كان يحل من المشاكل ما يصعب حله على الآخرين، ويتذكر كيف أنهى مشكلة السلب والنهب، التي كانت قائمة قبل وصوله إلى العين، فيقول: “أحضروا للشيخ زايد لِصّين، وبعد مساءلتهما بطريقته الأبوية الحانية، قال لهما “عليكما أن تختارا بين التوبة أو السجن”، فاختارا التوبة بطبيعة الحال، فقبلها منهما، وراح يتباسط معهما بالحديث، وعندما علم أن دافعهما للسرقات كانت الحاجة. قال لهما، حاجتكما عندي، وأمر لهما بما يكفيهما ويحفظ لهما كرامتهما. وبعد أن شاع الخبر، أخذ يقصده كل ذي حاجة. فكان رحمه الله يستدين ويفك ضائقة الناس. وهكذا انتهت اللصوصية، ولم نسمع بأخبارها منذ ذلك الحين”. نصيحة تستعيد الأسرة بدوره يتحدث بطي بن بشر سكرتير الشيخ زايد (1966 ــ 1970) عن دقة الملاحظة عند المغفور له، ومعرفة أحوال الناس من سكناتهم وحركاتهم، على الرغم من انشغالاته المتعددة والمتنوعة، فيتذكر أنه لاحظ “شخصاً في أحد مجالسه ذات يوم ـ لا أريد أن أسميه ـ شارد الذهن، فأستدناه منه وسأله عن حاله. فقال الرجل إنه يعيش في بيته غريباً، وأن زوجته وأولاده لا يحترمونه كما يجب. فقال له الشيخ زايد عد إلي غداً، وبعد مغادرة الرجل، كلفني بالسؤال عن أحواله وأخباره، وبعد التقصي والاستطلاع، علمت أن سيرته ليست حسنة، وأنه منقطع عن الصلاة، وأن جفاء أهله له بسبب ذلك، فنقلت الأمر للشيخ زايد، وباليوم التالي حضر الرجل، فقال له رحمة الله عليه، كم باقٍ من الوقت على الصلاة؟ فرد الرجل بأنه، حوالي ساعة. فقال له انهض إلى بيتك، وأدخله مبتسماً ومحيياً، ثم بادر إلى الوضوء وصلاة ركعتي السُنَّة في البيت، وتوجه إلى المسجد لأداء الفرض، وهكذا تفعل بالصلوات الخمس، واحرص على صلاة الفجر، إن كنت تريد زوجتك وأولادك. فغادر الرجل، وغاب حوالى عشرة أيام، فسأل الشيخ زايد عنه، وكلف من يستدعيه، فحضر الرجل مملوءاً بالفرح والسعادة، وبالحال قَبَّلَ خشم الشيخ زايد، وانحنى يريد تقبيل يديه شاكراً له النصيحة، التي أعادت إليه أسرته، فامتنع عليه الشيخ زايد، لأن رحمة الله عليه كان لا يحب تقبيل اليدين. وتجلت بعد هذه الحادثة، حكمة الشيخ زايد وفلسفته الاجتماعية بأبهى صورها الإنسانية”. يتخادع ولا يُخدع يتحدث عبد الرحيم السيد موسى الهاشمي في شهادته عن خصال الحلم والتسامح في شخصية الشيخ زايد، فيشير إلى صبره وسعة صدره واحتضانه حتى للكَذَبَة، لأن عزيز النفس لا يقبل المهانة لغيره، كائن من كان، وبكل الظروف، فكان رحمة الله عليه، يتخادع لهؤلاء، ويحرص على ألا يعلموا حقيقة الموقف. ويذكر الهاشمي أنه في إحدى جولات الشيخ زايد قدَّم له شخص وثائق مزورة، يحاول أن يثبت فيها أنه مُدان بمبلغ كبير من المال، فأخذها طيب الله ثراه، وأعطاني إياها، وقال له احضر غداً ليقضي عبد الرحيم حاجتك. ويقول الهاشمي إنه كان على ثقة من أن الأوراق مزورة، ولكن عندما أمر الشيخ زايد بذلك، آليت الصمت على نفسي، وفي الطريق سألني عن السبب، حينها بُحّت له ما بداخلي. فقال أعلم هذا، ولكن أدفع له بالمبلغ، وإياك أن يعرف بأني عرفت بكذبه. وبالفعل حضر الرجل في اليوم التالي، وأعطيته المبلغ، ولكن قلت له إننى أعرف أنه كاذب، وأن الأوراق مزورة، فاستغاث الرجل وسألني إن كان الشيخ زايد يعلم بذلك، فنفيت له الأمر، فحمد الرجل الله على ذلك، ومضى بجهله من دون أن يعرف حلم زايد وصبره عليه وعلى أمثاله. أما مبارك بن قران المنصوري، فيضيء على خصوصية “الشُكر” بشخصية زايد، ويقول إن المغفور له كان يُكثر من الحمد لله تعالى على فضله ونِعَمِه، ويحض الناس على الإنفاق بقدر الحاجة، وكان يكره المبالغة، حتى لوكان الأمر تكريما له، لأنه بطبعه لا يحب الإسراف، ويدعو للاعتدال، في كل شيء. وأنه رحمه الله كان يتساءل على الدوام، عن سبب حرص البعض على إقامة الأفراح في الفنادق، والبذخ الزائد، ولماذا لا تُقام الخيام قرب المنزل ويتشارك الجميع بالمناسبات؟، وكان يحذر من البَطَر والتبذير، لأن الله لا يحب كل مختال فخور. الأصالة و”الجلافين” بينما أشهر “الجلاّفين” أو صانعي سفن الصيد أو المحامل ومراكب السباق محمد بن خميس بن عبيد بوهارون، يقول إن الشيخ زايد كان يحرص على الأصالة والمحافظة على إرث الأجداد من الاندثار، لذلك كان يواظب الحضور إلى مشغلي، الذي خصصه لي بنفسه، وكان يحض الأولاد على تعلم المهنة، ويتابع نشاطي ويسهل أموري حتى في شراء الأخشاب من باكستان أو الهند، وأشترى مني خمسة محامل على سبيل تشجيعي في التصنيع، وتحفيز الآخرين في الشراء، لكي تبقى مهنة الآباء قائمة، لأنهم اعتمدوا كثيراً على رزق البحر، حسب رأيه رحمه الله. في حين يتحدث داوود سليمان السكسك الذي عمل بالسكرتارية والديوان الأميري (1969 ـ 1996)، عن اهتمام الشيخ زايد بتخضير البلاد والموارد المائية، مؤكدا زراعة أكثر من ثلاثين مليون نخلة بعهده، ناهيك عن ملايين الأشجار الحراجية، التي اصبحت غابات على مساحات واسعة. ويلاحظ السكسك أن غرام زايد بالتشجير يصل إلى حد اقتناء المقصات في سيارته، ليقوم بتقليم الأغصان بنفسه، أينما توقف للاستراحة أثناء جولاته لمتابعة تنفيذ المشاريع، أو تفقد القبائل والمناطق التي يرتادونها ويعيشون بها. أما التربوية زهرة محمد حسن الحطاب، التي واكبت حركة التعليم منذ عام 1969، حتى عام 2004، فتتحدث عن حرص الشيخ زايد على تعليم البنات، حيث كان يأمر المدارس بإحضارهن من منازلهن، وأنه كان يتفقد مدارسهن بنفسه، ويجلس معهن ليمتحن معلوماتهن، والتأكد من أنهن يستفدن من المدرسة، وأنه كان يفرح كثيراً عندما تتلو عليه إحداهن بعض الآيات القرآنية من الذكر الحكيم. ولا تغفل الحطاب عن دور “أم الإمارات” الشيخة فاطمة بن مبارك، في رعايتها ومواكبتها الحثيثة للتعليم النسوي. في حين يتحدث محمد موسى الخالدي (أبو راكان) مصور الشيخ زايد منذ عام 1970، ويواصل مهمته حتى الآن مع صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، فيقول إن الشيخ زايد كان يتمتع بحس إعلامي رفيع، لذلك أدرك مبكراً دور الاعلام في نشر الوعي وإرشاد الناس، وعمل بكل جهده على احتضانه وتدعيمه بكل الوسائل. ويذكر أبو راكان أنه كان ذات يوم يصور سباقاً للهجن، وكيف هاج أحدها وقضم أذن أحد القريبين منه، وبعد أن أسعف الرجل، استدعاني الشيخ زايد وسألني فيما إذا كنت صورت الحادثة، فقلت له إنني صورت هيجانه، ولكن عندما شاهدت الدم يسيل من رأس الرجل توقفت. فقال “لا... افا عليك، لازم تصوره بالكامل، وتركز عليه بالتفصيل.. شخص وهجم عليه الجمل وهذا مقدر ومكتوب، والذي لا يسمع كلام ونصيحة الشرطة سيحدث له نفس الذي حدث لهذا الرجل”. وكان يقصد أن الناس يجب أن يروا الحادثة ليتعظوا منها. يقول بدوره سيف بن سويدان الكتبي سائق المغفور له إن الشيخ زايد كان يدعونا لنكون عيونه لمعرفة المحتاجين، وكان لا يسامح من يتردد في إبلاغه عن المعوزين، ويردد على مسامعنا دائما بقوله: “الله لا وفقكم إذا رأيتم خطأّ أو مظلوماً ولم تخبروني عنه”، ولم يحصل أن علم بحاجة إنسان ولم تُقضى بالحال. وكان يشدد على الجميع بأنه لا يريد أن يرى أو يسمع عن مواطن لا يملك بيتاً ومزرعة، وكان التسليم يتم بعد فرش البيت، وكان يأمر بأن يحيط المزرعة صفان، واحد من شجر السدر لحمايتها من الرمال، والآخر من النخل، مع تأمين المياه والكهرباء وكافة المستلزمات الزراعية. أما آخر الشهادات في الكتاب فيدلي بها محمد عبد الجليل الفهيم، الذي عاش ردحا من طفولته بقصر الشيخ زايد، ورافقه في مختلف المحطات والمواقع حتى وفاته، فيتحدث عن رؤية المغفور له القيادية والتربوية في آن، وأنه لا ينسى أبداً مقولته رحمة الله عليه، “لابد أن ينعم شعبنا بما أعطاه الله من خير وفير، لأنه لا فائدة بالمال من دون رجال”. ويذكر الفهيم أن الشيخ زايد، ذات مساء من مساءات الرمضان، لاحظ ان المجلس خالياً، فاستغرب الأمر وسأل عن السبب، فأجابوه أن الحرس عندما لاحظوا تأخر الشيوخ بالحضور ظنوا أنكم لن تشاركون بالمجلس، فأخبروا الناس بذلك وانصرف الجميع. فقال رحمه الله “لا يجوز هذا الكلام، هؤلاء جاؤوا من مناطق بعيدة، من أجل السلام علينا في الوثبة، متكبدين عناء ومشقة السفر لأنهم يحبوننا ويحترموننا، ونحن حرسنا يمنعهم! أرسلوا كل سيارات الشرطة والمرور والدفاع، وأجمعوهم كلهم وقولوا لهم: الشيخ زايد يود أن يستقبلكم، فأهلا وسهلا بكم في مجلسه”. وهكذا صار، لأن خلقه الرفيع رحمه الله يأبى حتى الهنّات الصغيرة من التقصير بالواجب، وهو معروف عنه أنه كان يستقبل الصغار والكبار بحفاوة، ولا يتردد بالقيام والسلام على زواره واقفاً حتى للصغار منهم، ومن كان يحاول أن يضع يده على كتفه، ليحول من دون قيامه له، إشفاقاً عليه، كان يطلب بلطف شديد “لا تمنعوني من أداء واجب السلام عليكم، ولا تُشعروني أني مقصر معكم”. إسهاب وتكرار من دون شك أن الكتاب يكشف أن الباحثة شيخة الغاوي بذلت جهودا ليست بقليلة، في جمعه وإعداده. كذلك تنطوي الشهادات على قيمة إنسانية مدهشة ببعدها الحميمي، من أناس رافقوا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان عن قرب، وربما عايش بعضهم حركاته وسكناته، لذلك اكتسبت شهاداتهم ذاك البعد الإنساني الشفيف. ولكن يؤخذ على الكتاب أن الشهادات حفلت بالتكرار، والإسهاب غير المبرر، وخصوصاً على مستوى استطراد أصحاب الشهادات في توصيف الأمكنة والطرقات في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وربما بدرجة أقل في الحديث عن دور الشيخ زايد في الزراعة، فمثلاً المعلومة التي تقول، إنه رحمة الله عليه هو أول من أحدث نظاماً للري ألغى به التجارة بالماء، تكررت أكثر من عشر مرات في الكتاب سواء في الفصل الأول الذي أعدته الكاتبة، أو في شهادات من عمل معه أو إلى جانبه. وينسحب الأمر على دوره في شق الطرقات وبناء المدارس والمستشفيات وسوى ذلك من الخطوات التطويرية التي قام بها رحمة الله عليه خلال مسيرته القيادية. وكان يمكن تفادي ذلك لو أن الباحثة لجأت إلى البحث في سيرة الأشخاص الذين أدلوا بشهاداتهم، وركزت خلال الحوار على الجوانب أو الموضوعات الجديدة، التي عرفوها أو عايشوها، وعدم السماح لهم بالاسترسال في استدعاء الذاكرة، لأن المعروف في مثل هذه الحالات، أن الناس عندما يتحدثون عن الماضي، وخاصة حول أشخاص يحبونهم، فإن العاطفة والحميمة ستغلب على ذاكرتهم، وبالتالي يفيضون بكل مالديهم من دون تقدير أن الآخرين يشاركونهم بتلك الموضوعات. كما أن الباحثة لم تلجأ لتوثيق تلك المعلومات، لأنها على تكرارها ـ فيما لو ثقت ـ يمكن أن تكون مفيدة في دراسة تطور الرؤية الاستراتيجية بشخصية الشيخ زايد، على المستويات الفكرية والتنموية والسياسية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©