الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ست الحبايب

18 مارس 2010 20:09
كنت أرقبها تلزم المكان نفسه، تتوشح البياض، تبتهل وترفع يديها متوسلة إلى الله خشية وطمعا، كنت أرقب انسياب دمعها على خدها ونظراتها الحزينة تلوح من خلف جفونها المتعبة، لم أكن أدرك سر عذاباتها، لم أُقدر خوفها الدفين المزمن، قسمات وجهها تعتريها مسحة حزن عميق، كنت أسمع خفقان قلبها في صدرها من بعيد، خوفها دائم وممتد في الزمان، احترقتْ حبا وقلقا، بدموع العين رعت الجميع، تحملت الحماقات والجنون والتعقل والطيش والغضب. في كل يوم لها حكاية، نسجت خطوطها بكلمات الحب والعطف واللهفة، انشطرت أنصافا، بل جزئيات تحاول إرضاء الكل، ككل أم تسهر الليالي تنير ظلماتها الحالكة، تسير على أشواك الحياة تدمي أقدامها ولكنها لا تتراجع، هي أم أذاقتها الحياة لوعة الفراق ولظاه، تحسب عمرها بالثواني وليس بالأيام والليالي، ربّت أجيالا وبقيت وحيدة ترقب من يأتي أو لا يأتي، تخطو فوق أيام لا تحسبها من عمرها، تنتظر القادمين من بعيد، إلى حين ذلك تنام في وجعها تتقلب على نار الشوق وحيدة، تلقي بجسدها المتعب فوق سريرها البارد، وقلبها المنفطر من الشوق والحنين يتقلص خفقانه. أخبرها الأطباء أن قلبها يسير نحو الهلاك، تسكن لنفسها وتجيب: من فرط حبي، ومن كثرة حزني ولوعتي، ومن خوفي المجنون على فقدان أحدهم، زرعت بذوري في كل بلدان الدنيا، فانشطر قلبي أشلاء يستحيل جمعها، فكيف لقلب أنهكه الشوق والحنين ألا يخفق بصوت مبحوح. كل الأمهات يحترقن فرحا، ألما، سعادة وحزنا ويعشن كل المشاعر المختلطة في حياتهن، وكلهن شموع تحترق من أجل أبنائهن، تتساوى كل الأمهات في العطف والحنان والحب والمشاعر الدافقة، ولكن تختلف بعض الأمهات عن الأخريات في مسيرة الحياة، كلهن يستحققن لقب العظيمات والرائعات، لكن هناك أمهات فوق العادة، أمهات تستمر أمومتهن في الحياة وتمتد عبر الزمان، يسكن الخوف والوحشة مهجهن، أمهات يتقلبن على نار الشوق والحنين، كبر أولادهن ورعين أحفادهن، وأكملن رسالاتهن في الحياة. وهناك من لن ينتهي أنينها في كل الأيام والأماسي، قصم ظهرها وانفطر قلبها وجف دمعها، هن أمهات رزقن بمن لا حول ولا قوة لهن، رزقن بمن يحتجن العناية المتواصلة، أمهات ضحين بالحياة من أجل أولادهن، إلى درجة قالت إحداهن وهي تقاوم انكساراتها وتغالب دمعها: أتمنى أن يأخذ الله أمانته قبل أن يتوفاني. لم يكن البوح يسيرا عليها، لم تتمن الموت لابنتها إلا رأفة بها؛ إذ تقول: لا أحد لها في الدنيا إلا أنا، ولن يتحملها أحد مثلي. وأمهات غيرها تحمل في ثنايا قلبها اللهفة الدائمة، وفي أحشائها حياة نبعت من جسد متهالك، آثرت بنفسها ورمتها في حضن الموت لتزرع الحياة لمن في أحشائها، على حافة الموت احتفظت بجنينها وأجريت لها عملية في الرأس، وكانت مثالا لأروع أم في العالم، حدقت في الموت بجرأة وقالت هيت لك، لم ترعبها غرفة العمليات ولا الآلات الحادة، بتبنيج موضعي فقط، شفاها الله وأقر عينها بوليدها بإذنه. إجلالا لكل الأمهات اللواتي تخالط دقات قلوبهن قلوب أولادهن، هدايا الكون في يومهن لن تكفي لمكافأتهن، فعيوننا لهن وقلوبنا معهن.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©