الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أشخاص التُرك

18 مارس 2010 01:19
تهَب الصدفة أحيانا ما لا تمنحه الخطط من عطايا، فتكون إجازتي في أبوظبي حين تعرض هيئة الثقافة والتراث في قاعة المسرح الوطني سبعة وثلاثين عملا للفنان العراقي الراحل إسماعيل فتاح الترك (1934 ـ 2004 ) في الذاكرة تتطاول أعمالا لترك النحتية في فضاء بغداد: نصب الشهيد وتماثيل أبي نواس والواسطي والرصافي والكاظمي وكلكامش وبرونزياته في واجهات معمارية كبرى، والترك أمثولة لحياة الفنان الشاملة فهو دارس ومدرس للنحت والسيراميك ورسام وحفار، ومن أعضاء جماعة بغداد التي أرست تقاليد الحداثة في الرسم العراقي منذ العودة للوطن التي شهدت نشاط جواد سليم وفائق وشاكر حسن وجميل حمودي وحافظ الدروبي وسواهم من الرواد. معروضات إسماعيل فتاح وأغلبها غرافيكية تعكس نزعته النحتية كتجسيم الوجوه وتضخيم أجزائها وأبعادها ثم محاولة الفنان لجعل الطباعة تخفف من ثقلها فيهبها شاعرية وجانبا حلميا وجماليا بأصباغه المفضلة لاسيما الوردي والأصفر وتدرجاتهما اللونية. وكما كانت معروضات الترك تذكرية تمتد بين سنوات الثمانينيات وسنة غيابه مطلع الألفية الثالثة، كذلك كانت قراءتي البصرية لأعماله تذكريةً، يأتي من خلالها شخص إسماعيل فتاح في الخمسينيات بشَعره الطويل وقامته القصيرة وابتسامته داخلا غرفة الدرس الطينية في مدرسة قرية الرستمية الإبتدائية على ضفاف نهر ديالى، كان معلما حديثا للرسم نتلقف نحن فقراء المدرسة خطوطه على السبورة بدهشة وافتتان وكثيرا ما تداولنا ضحكة مشتركة حين يتحدث بصوته الهامس عن ضرورة التمعن في صور (الأشخاص) والتقاط ما يميز ملامحهم، كان الترك ابن مدينة البصرة والدراسة ببغداد يلفظ الصاد مخففةً ويُكثر من تكرار مفردة (الشخص) التي تصل أسماعنا الصغيرة سيناً، وينقطع الترك عنا فجأة وحين سألته لاحقا عن ذلك أخبرني بأنه انتقل إلى العاصمة ثم التحق ببعثة دراسية في روما على خطى أبي النحت العراقي جواد سليم أستاذه الروحي والفني. الأشخاص هم الذين يتسيدون الأعمال المعروضة في القاعة، والملامح ـ رغم تغييبها ـ ملتقطة بحس النحّات المجسّم لكن الرهافة والشاعرية واضحتان بالبقع اللونية شديدة القوة والجمال وفي تقسيم اللوحة غالبا إلى صفوف ومربعات تأسر الوجوه داخلها وهي وجوه نسوية غالبا تتميز بجمالها ومسحة الحزن المعبر عنها بفراغ محاجر العيون أو الشفاه المزمومة ووجوه لرجال تبدو عليهم الهيبة والتفكير لكن اللون والخطوط الخارجية حتى بالأبيض والأسود تهبهم ألفة وجمالا نادرين، وجوه تتنوع مراجعها: تمتد من سومر والريف والمسرح والأَسر وترافقها أحياناً حمامة أو ديك تضاهيها جمالا ونصاعة يفلح الترك في إيصال الإحساس بها عبر الطباعة والحفر المتكرر بنسخ متعددة نرى بعضها بألوان متباينة رغبة في استثمار عنصر التكرار الذي يمنحه الكرافيك للفنان. شخص إسماعيل الترك يقف خلف أشخاصه الذين لم تسلبهم الطباعة ولا المساحات اللونية الباذخة شعورا بالألم والانتظار هو ما يأسره النحات أيضا في كتله وهي تسبح في فضاء حميم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©