الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يجرحه الورد

يجرحه الورد
3 ابريل 2008 01:32
يتاح للإنسان في هذا العصر أن يشهد فى يوم واحد من روائع الحسن في الفضائيات مثلا ما يفوق خبرة الإنسان القديم طيلة عمره، كما يتاح له أن يسمع من الأصوات الفائقة في ساعة واحدة ما يجاوز نصيب الملوك القدماء أجمعين، لكن ذلك لا ينتج بالضرورة وعياً عميقاً ولا معرفة حقيقية بأسرار الجمال، مما يجعلنا مازلنا فى حاجة إلى قراءة الأشعار وتأمل تركيباتها التشكيلية والتصويرية لتخليق هذا الوعي وتكوين معرفة مصفاة به، وهذا هو الفرق بين المشاهد والمعلومات والخبرة المتمرسة الداخلة فى صلب الثقافة· وقد أفرد ''السرى الرفاء'' صاحب كتاب ''المحب والمحبوب والمشموم والمشروب'' الذي نعتمد عليه في هذا السياق فصلاً فى تعداد محاسن النساء وأطلق عليه ''في رقة البشرة''، ومن الطريف أنه استهله بقول الشاعر: أقبل يعدو دامي الخد منعفرا يعثر في الشد يقول أدماني هذا الفتى بطاقة من ورق الورد وإن من تجرحه وردة لغاية في رقة الجلد وقائل هذه الأبيات أحد وزراء الدولة العباسية، ويسمى ابن أبي البغل، وكان -كما يقول الشارح- بليغاً مترسلاً فصيحاً، لكنه لم يكن يتحرج -فيما يبدو- من التغزل فى الغلمان، فمن الواضح أنه يصف صبياً ذكراً وقد أتاه دامي الخد متعثراً معفراً، لأن صاحبه قد رماه بحفنة من ورق الورد، ليستخلص من ذلك أن من يجرحه الورد لابد أن يكون غاية في رقة البشرة المترفة· كما أن من الممكن أن يكون قد استخدم أسلوب الحديث عن المؤنث المحبوب بصيغة المذكر على ما جرت به عادات التعبير أيضاً· لكن الأمير المرهف ابن المعتز لم يكن يخطئ في وصف جمال النساء ولا رقتهن، فهو الذي يقول في قطعة سردية مليحة: نضت عنها القميص لصب ماء فورد خدها فرط الحياء وقابلت الهواء وقد تعرت بمعتول أرق من الهواء ومدت راحة كالماء منها إلى ماء معد في إناء فلما أن قضت وطرا وهمت على عجل لأخذ للرداء رأت شخص الرقيب على تدان فأسبلت الظلام على الضياء فغاب الصبح منها تحت ليل وظل الماء يقطر فوق ماء فالمثل الأعلى في الرقة هو الهواء الذي لا يكاد الإنسان يشعر بملمسه، والنموذج الأوفى للنعومة هو الماء الذي يتقطر في الأصابع، والمحبوبة عندما تنضو عنها الثوب يتورد خدها من فرط الحياء، والعبارة المشبعة بالعطر القرآني: فلما أن قضت وطرا، تتقدم لمفصل سردي جديد، فبعد أن فرغت الحسناء الرقيقة من حمامها شعرت أن شخصاً يراقبها، فسارعت بإسدال جدائلها السود على قوامها الناصع فغاب صبحها تحت الليل وأخذ الماء يتقاطر فوق نظيره في اللين والطيب والجمال· ومهما تكن تلك الحسناء التي فتنت الأمير المولع بالوصف فقد خلدتها تلك الأبيات في ذاكرة الفن العربي مثلما خلدت اللوحات المرسومة حسانا غيرها في الثقافات الأخرى·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©