الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ذكريات درس شوقي (2-4)

ذكريات درس شوقي (2-4)
13 نوفمبر 2007 22:17
كان سبيلي إلى الاقتراب من عوالم شوقي،والنفاذ إلى أسرارها هو العودة إلى المصادر التي اعتمد عليها شوقي وأقرانه في كتابة شعره· لقد تعلمت أنه شاعر من شعراء الإحياء أو البعث ولم تكن الكلمتان تعنيان سوى شيء واحد هو العودة إلى تراث قديم زاهر وإحيائه، محاكاة ومعارضة وموازاة وتشطيراً وتخميساً من ناحية، ومنافسة تضيف إلى القديم المحتذى جديداً هو من جنسه رؤية وموقفاً وصياغة من ناحية موازية· ولم يكن ذلك ينطبق على شوقي وحده، بل على أستاذه البارودي، وخذ مثلاً بيت البارودي عن فيضان النيل الذي يقول فيه: وما زاد ماء النيل إلا لأنني وقفت به أبكي فراق الحبائب فالبيت يعود إلى تقاليد تراثية، أقدمها ما قاله امرؤ القيس عن دموعه التي انهمرت حتى بللت مقبض سيفه وهي تقاليد تستمر إلى العصر العباسي حيث قال البحتري: وسأستقل لك الدموع صبابة ولو أن دجلة لي عليك دموع وهكذا··وهكذا·· إلى أن نصل إلى البارودي الذي أراد أن يباري القدماء، ويحيي طرائقهم في التعبير الشعري، ويضيف إليها ما يؤكد تميزه، فأرجع فيضان النيل كله إلى أنه وقف عليه يبكي فراق الأحبة· هي صورة شعرية سخيفة، نعم، تقليدية بلا شك، لا تنبئ عن خيال خلاّق بالقطع· قل كل هذا وأكثر منه وقل مثله على أحمد شوقي الذي مدح والدة الخديوي بقوله: ارفعي الستر وحيِّي بالجبين وأرينا فلق الصبح المبين فتجاهل السيارة التي كانت تركبها والدة الخديوي، وتخيلها راكبة هودجاً، تتطلع من أستاره إلى الذين يحيونها · وأحسب أن شوقي رضي عن نفسه، عندما صنع الصورة التي حسبها المعجبون بها في عصره إضافة إلى ما مضى من شعر الأقدمين وإحياء وبعثاً له· وقل الأمر نفسه في قصيدة شوقي التي كانت مدوية في وقتها، وكان قد كتبها بمناسبة انتصار جيش كمال أتاتورك على الأعداء، ومطلعها: الله أكبر كم في الفتح من عجب يا خالد الترك جدّد خالد العرب وقد توقف طه حسين طويلاً عند هذه القصيدة في إحدى مقالاته وذهب إلى أنها تقليد لقصيدة أبي تمام عن انتصار خليفة المسلمين المعتصم في ''عمورية'' وتبدأ القصيدة بقوله: السيف أصدق إنباء من الكتب في حدّه الحد بين الجد واللعب ومضى طه حسين يقارن بين بائية شوقي وبائية أبي تمام، وكان على حق في كل ما قال، فالقصيدتان بائيتا القافية، ومن وزن واحد هو ''البحر البسيط''· وكان طه حسين على حق في ذلك وغيره· لكن الأحق منه أن مطلع شوقي كان إعادة صياغة لمفتتح قصيدة ابن النبيه الشاعر المصري التي كتبها في الغزل، وافتتحها بالبيت: الله أكبر ليس الحسن في العرب كم تحت لِـمّـةِ ذا التركي من عجب وكل ما فعله شوقي أن نقل مطلع ابن النبيه من الغزل إلى المديح والحماسة· ولايمنع ذلك بالطبع تأثره بقصيدة أبي تمام ''عمورية'' فيما عدا المطلع فالمؤكد أنه تأثر بها كما تأثر بغيرها من القصائد التي كانت تتحد معها في الوزن والقافية أو الوزن فحسب· وهو أمر يدل على الدور الحيوي الذي كانت تلعبه الذاكرة في شعر شوقي و أقرانه، فما كان شوقي يبدأ في النظم في موضوع من الموضوعات إلا وكان الشعر القديم المجانس للموضوع وللوزن ينثال على ذاكرته شعورياً خصوصاً في مدى الصيغ والتراكيب المتجانسة، وهو أمر جعلني أقول إن شعر شوقي شعر ذاكرة، شأنه في ذلك شأن بقية شعراء الإحياء· ومضيت في هذا الطريق الذي اكتشفته فرحاً، وعدت إلى قراءة دواوين الشعر القديم التي وصلت إليها، ولكن بعد أن كدت أحفظ الشوقيات عن ظهر قلب، وهو ما جعل الأمر سهلاً على ذاكرتي في لمح المشابهات، ووضع يدي على الأصول المتوازية· وازداد بي الطموح إلى محاولة البحث عن قواعد لتوليد المعاني الجديدة والأبيات الجديدة في شعر شوقي من المعاني والأبيات التي كانت بمثابة الأصل في الشعر القديم الذي تأثر به أحمد شوقي،أو خلت أنه تأثر به· وكانت النتيجة دراسة في الطرائق التي تحوَّلت بها قصائد الشعر القديم وصوره إلى قصائد شوقي وصوره،ولم أكتف بذلك، فقد دفعتني الحماسة إلى تطبيق المنهج نفسه على البارودي وأقرانه وتلامذته -واتبعهم شوقي- في مدى تأثرهم بالشعر القديم· ومن حسن الحظ أنني اطلعت في ذلك الوقت على مرجع بالغ الأهمية باللغة الإنجليزية، كل ما أذكره من اسم صاحبه هو لقبه الأخير: لويس· وكان دراسة للمصادر التي تفاعلت كيميائياً في ذهن كولرد، الشاعر الرومانسي الإنجليزي، وأنتجت قصيدته الشهيرة عن ''الطريق إلى زاندو'' التي قيل إن كولرد كتبها في نشوة ما تعاطاه من أفيون، وإن طرقاً على الباب جعله ينقطع عن كتاباته، ويتوقف عند السطر الذي كان قد خطه بأصابعه قبل دقات الباب التي قطعت التدفق اللاواعي للقصيدة· وكان كتاب لويس -فيما أذكر- دراسة في اللاوعي الشعري، تسعى إلى إثبات أن الخيال الخلاّق لايأتي بصوره من العدم، وأن كل ما يقرأه الشاعر ويراه ويسمعه يتحول إلى مادة تصهرها الذاكرة،وتعيد تشكيلها وبناءها في صور جديدة، تستمد قيمتها من عبقرية الشاعر، ومن طبيعة الذاكرة التي أصبحت أسّ الإبداع ومحركه على السواء· ويبدو أن قراءة هذا الكتاب قد أكدت في ذهني اللاواعي، فيما يبدو، الإلحاح على المضي في الاتجاه الذي مضيت فيه، ومن ثم متابعة التفاعلات الكيميائية للخيال التراثي عند شوقي وأقرانه·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©