سؤال الحاضر يكشف الماضي

يعود وليد إخلاصي في روايته الجديدة الحروف التائهة إلى اقتفاء أثر مرحلة هامة من تاريخ سوريا الحديث، وذلك من خلال تجربة مجموعة من الطلاب الأصدقاء الذين كانوا يتلقون العلم في مدرسة التجهيز بحلب في مطلع خمسينيات القرن الماضي· ومن خلال تتبع سيرة حياة تلك الشخصيات وتحولات مصائرها الغريبة التي عكست تحولات تلك المرحلة الدرامية، يروي وقائع تلك الحقبة التاريخية المحكومة بالانقلابات المتلاحقة، وتأثيراتها على الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي العام، حيث تشكل مدينة حلب بوصفها مكانا لأحداث الرواية صورة مصغرة لوطن تتقاذفه إرادات القوى المتصارعة على حكمه· العودة إلى الواقعية هذه هي التجربة الروائية الأولى التي يقارب فيها الموضوع السياسي، وهو ما أملى عليه اختياره لشكل الكتابة السردية الواقعية التقليدية على خلاف ما كان عليه في أعماله السابقة، إذ نجده يستخدم تقنيات السرد التقليدية كما تجلت في السرد الخطي التعاقبي الصاعد، وفي جملة الاستهلال التي تعنى بتحديد الزمان والمكان اللذين ستجري فيهما أحداث الرواية وتتحرك شخصياتها مع استخدام فعل القص التقليدي المتمثل في الفعل الماضي الناقص، إلى جانب استخدام التحفيز الواقعي بغية الإيهام بصدق وواقعية الأحداث المقدمة كما ظهر في استخدام وقائع تاريخية معروفة ومحددة في تاريخ سوريا، وأسماء أماكن مشهورة في مدينة حلب كالقلعة وحي الجميلية ومدرسة التجهيز الأولى وباب الحديد وباب قنسرين· وقد عمد الروائي إلى ربط فاتحة السرد بنهاية الرواية بغية التأكيد على وحدة هذا العمل وتماسكه ، فالبداية التي تقدم شخصياتها من الطلبة تعود على لسان الشيخ حامد أحد تلك الشخصيات في خاتمة الرواية إلى السؤال عن النهايات التي انتهت إليها تلك المجموعة وما كانت تمثله في علاقتها مع بعضها البعض من قيم أصيلة ضاعت في زمن أضاع بوصلته وهويته· ومن هنا فإن قراءة دلالات العنوان بوصفه محورا أساسيا ومفتاحا للبنية الدلالية للعمل تأتي بعد قراءة الرواية ولاسيما خاتمة الرواية· الأحلام والخيبات تتألف مجموعة الطلبة من سبعة أفراد التقت على عشقها للسينما، وتعلقها بتلك الطالبة الفاتنة الجمال فضيلة التي كانت تسبي قلوب الطلبة في ذهابها وإيابها من أمام المدرسة· وعلى الرغم من تباين انتماءات أفراد المجموعة السياسية والفكرية، فإن سر الصداقة الوطيدة فيما بينهم ظل يكمن في ابتعادهم عن الخوض في القناعات السياسية التي يحملها كل واحد منهم، وتحديد مواقفهم على أساس تلك الانتماءات والمواقف· تتفرق مجموعة الطلبة بعد نجاحها في شهادة البكلوريا فمنهم من يتطوع في الجيش بسبب واقعه الاجتماعي، ومنهم من يدرس الحقوق أو الهندسة أو الفن أو التاريخ، أو يعمل في مجال النشر· وكما فرقتهم الأيام والدراسة والانتماءات السياسية، تعود الأقدار الغريبة لتجمعهم من جديد، ولكن بعد أن لعبت الأقدار دورها في رسم مصائرهم فمنهم من أضحى في أعلى مواقع المسؤولية كالضابط تركي، ومنهم من استجاب لإرادة والده في إكمال مسيرته كالشيخ حامد، ومنهم من اختار بنفسه مستقبله كمجاهد، لكن ما يميز مصائر أغلبهم أن الأقدار الغريبة ظلت تحكم حياتهم وتقودها· مسارات السرد تسير الرواية في مجموعة من الخطوط السردية توزعت على أربعة عناوين، وكل عنوان تالف من مجموعة فصول مرقمة حاول فيها الروائي تتبع مسارات شخصياته الأساسية بدءا من سليم المحامي والشيخ حامد وحتى الضابط تركي والأستاذ وهب والناشر مجاهد، إضافة إلى المرأة فضيلة التي تقذفها أقدارها ليصبح مصيرها مرتبطا بمصائر أكثر شخصيات الرواية درامية، وبالتالي بتحولات الواقع السياسي المتقلب بسرعة غريبة، بل تحاول أن تكون جزءا من تلك اللعبة التي تطيح بأحلامها كما تطيح بأحلام تلك الشخصيات· يأتي السرد بضمير الغائب ويمثل الراوي شخصية الراوي العليم الذي يقدم صورة واسعة عن الحياة طوال ثلاثة عقود من الزمن هي زمن الرواية، كاشفا عما يدور في خلد شخصياته وما تحاول أن تفعله مع التركيز الواضح على تفاصيل مشاهد محددة من خلال التركيز على عدد من الشخصيات في مقدمتها شخصيتا الضابط تركي والشيخ حامد بغية الكشف عن طبيعة الواقع الاجتماعي والسياسي الذي كان يحكم تلك المرحلة ويحدد اختياراتها· لقد تميزت لغة السرد بطابعها التقريري وعانت في بعض الأماكن من ارتباك واضح في الصياغة ربما بسبب عدم مراجعة الروائي لمخطوطة الرواية قبل دفعها للنشر· وإذا كانت فتنة السلطة السياسية أو الدينية هي المحرك لدوافع بعض تلك الشخصيات، فإن الأنوثة الطاغية كما مثلتها فضيلة ظلت هي الجامع المشترك لفتنة استولت على قلوبها وشكلت حلم حياتها الذي تبحث عنه وتروم الوصول إليه·