الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طوكيو.. تسابق الزمن وتحسب الوقت بالثواني

طوكيو.. تسابق الزمن وتحسب الوقت بالثواني
29 ابريل 2009 01:58
حدثتني المدن أنها تتشابه ولا تتشابه.. حينما تريدها أن تبدو متشابهة فهي كما تريد، وتمايزها يعود إلى المسافر في المقام الأول.. والأخير. رأيت طوكيو بوجهها الياباني المغاير، بعينيها الصغيرتين وفكرها البالغ التعقيد، الشركات الكبرى، الصناعات العظمى، الشعب الناهض من ركام الحروب إلى واجهة العالم الصناعي، تسبقنا صورة نمطية إلى المكان لتدلنا على قدرته على التمايز. عدت للتو من سفر، لأبدأ تجربة أحرى مع مدينة ستكون الخامسة التي أراها خلال خمسة أيام، لم تسترح الحقيبة من أحزمة الحقائب في المطارات، الساعات الطوال التي أمضيتها تسكعا في مطار دبي كفيلة باكتشاف الوجوه وتأمل قسماتها الدالة على شعوب وقارات، وجه آسيوي يطلق الدموع في زاوية من المكان، مرهق هذا الإحساس بالضياع في أي مطار، وهناك طوكيو التي سأهبط في مطارها ربما تائها أبحث عن نفسي، حيث لا ينفع البحث في المدن الكبرى. بين دبي وأوساكا قالت لي مضيفة طيران الإمارات إن هناك مدينة سأهبط فيها قبل أن أرى مقصدي النهائي، أوساكا، وأطلقت مخيلتي أكثر حينما قالت وكأنها تكشف سرا بأن الرحلة ستكون عشر ساعات متواصلة من الطيران بين دبي وأوساكا، بحار ومحيطات وأنهار وجبال وسهول وملايين البشر سنتجاوزها ونحن نطير جوا فوق صخبهم وسكينتهم، سيرون الطائرة الضخمة مجرد أسطوانة صغيرة تعبر الفضاء الواسع. تناولت ما أمكن من قراءة ومأكولات وابتسامات، وصحوت وقرأت وأكلت ثم نمت مرة أخرى، والساعات أراها تمشي ببطء، وأوساكا عصية على الوصول، والمسافر وحيد ينطبق عليه قول الشاعر «ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان». من أوساكا، إلى طوكيو، طائرة أخرى، وهاجسي هو الالتزام بالوقت، شعب يسير وفق الثواني التي لا تخطئ في مواعيدها، لا ترتب أولويات الحياة كما نفعل، الدقيقة لها ثمنها، والساعة أكبر من إحساسنا بيوم مكون من 24 ساعة. قبل ليلتين كنت في عاصمة عربية، أمضينا الساعات في جلسات المقاهي والشاي (الثقيل) والشيشة العابقة بروائح العنب والتفاح، أما الصور اليابانية فتتداعى من مخيلتنا المتابعة للزمن المعاصر الذي عرفته اليابان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، صنعت من الهزيمة العكسرية انتصارات اقتصادية وعلمية تقدم صورا أخرى عن يابان المقاتلين الانتحاريين، صورة الإنسان العاشق للعمل، وفي عينيه بهجة السلام بعد أن أثقلته ذكريات الحرب، والتكنولوجيا التي غزت العالم وأهمها بالنسبة إلينا السيارات التي قاربت بين أمكنتنا المترامية تفصلها صحار وجبال..والمكيفات التي أحالت صيفنا بردا وسلاما، والثلاجات التي غيرت من عاداتنا الغذائية. أطلت ابتسامة مشعة حينما رأيت اسمي على لافتة تحملها امرأة يابانية، أشرت إليها على أن الاسم المكتوب يدل عليّ، أنا صاحبه الآتي من تلك الجبال العمانية، معي أساطيري وحروفي وكلماتي التي أشارك بها في ملتقى الحوار الثقافي بين اليابان والشرق الأوسط، أحمل معي صدفة الدعوة التي اختارتني لأكون المحظوظ بالاختيار، أحدهم نشر دراسة عن كتاباتي باللغة الإنجليزية في صحيفة عمانية فقرأها أحد الدبلوماسيين في السفارة اليابانية بمسقط، وقيل لي تعال شارك، أما أنا فأريد الاكتشاف، اكتشاف المدن، وأهمها هيروشيما، هذه العالقة في أذهاننا منذ معرفتنا بتاريخ الجريمة الأميركية الكبرى في حق شعوب الدنيا. تفصل طوكيو عن أوساكا رحلة ساعة تقريبا، مضت سريعة على إيقاع ضحكات طفولية من فتاتين يابانيتين تابعت حديثهما بلغتهما التي تبدو مقاطع سريعة متلاحقة، والطائرة ممتلئة بتلك الوجوه، كبار في السن وشباب من الجنسين، أجساد ضئيلة وقامات لا تحفل بالطول أبدا، وفي العيون لغة مثيرة للاكتشاف، والتفكير يذهب الى طوكيو، ماذا لو لم أجد أحدا في استقبالي؟! ومع تحديات سأواجهها في هذه الرحلة: النظام الصارم في الحياة اليابانية في بلد يدرك معنى الزمن، وهذا ضد تقاليدنا العربية التي اعتدت عليها، فالساعة التاسعة عند اليابانيين تعني التاسعة تماما، أما لدينا فقد تكون العاشرة أو الحادية عشرة، التحدي الثاني الطعام، وما قد يحدثه من آثار سلبية مع عدم وجود غطاء صحي يتمثل في التأمين، والتحدي التالي هو اللغة، التفاهم مع شعب يتمسك بلغته ولا يقبل بتكسير عظامها لأقل سبب، كما نفعل في بلادنا. لافته باسمي في مطار طوكيو حملت امرأة لافتة باسمي، انحنت قليلا كما يفعل غالبية اليابانيين وتفرجت مع السائق إلى مسافر وصل مرهقا ليضع حقائبه في صندوق السيارة دون أدنى مساعدة، فسائق التاكسي يعتبر موظفا مهما، ومشوار نصف ساعة يقطعه بمائة ريال تقريبا، كانت عمارات طوكيو تطل شامخة ونظيفة والشوارع محكمة التنظيم، في الطريق نحو الفندق وقف برج كوكيو مزهوا بفرح حقيقي جسدته تلك الألوان التي تمنحه سحرا هائلا، له شبه ببرج ايفل، يشمخ في مدينة شرقية أخذت من الحضارة ما أخذت، لكنها حريصة على تقاليدها وإنسانيتها. .. وقد فتحت باب غرفة لأستريح أخيرا، أيقنت أنه ليس المكان وحده المختلف، الزمن أيضا له وجوه كبيرة للاختلاف، المشاهد التي رأيتها عبر النافذة لهذه المدينة المتأنقة أكثر مما يجب، المتجهمة وجوهها وفق ما اعتدنا، اللوحات بنقوش الكتابة اليابانية، المدينة التي أهدتني أخيرا غرفة صغيرة، إن فتحت حقيبتي تعذر علي المشي في مساحتها دون إغلاقها، الغرفة دالة على الحياة في أغلى عواصم العالم، نموذج مصغر للغرف التي عهدناها، كأن هؤلاء اليابانيين يريدون تصغير لوازم الحياة من حولنا، خاصة الكمبيوترات والكاميرات والهواتف النقالة، وصولا إلى المنازل، ألقيت نظرة على الغرفة الفندقية، أوحت لي بأني في مهمة فضائية وهناك أنبوبة معجون أسنان بالغة الصغر ومعها الفرشاة الشبيهة بها. أحلام ورؤى تمددت أخيرا على سرير كأنه لا ينتمي إلى مدينة متسعة على أفكار وأحلام ورؤى..حسبت الزمن الذي افتقدت فيه هذا التمدد البادي لي كأمنية، أخذت الرحلة من عمري ثلاثين ساعة، خمس ساعات منها فارق التوقيت، والبقية في أربعة مطارات وثلاث طائرات قطعت المسافة الفاصلة بين منزلي الذي تركته عصر الجمعة وطوكيو التي وصلتها مساء السبت، من مطار السيب الى مطار دبي على متن الطيران العماني، وبعد أربع ساعات من الانتظار في مطار دبي التزمت الصمت عشر ساعات متواصلة هي مسافة الرحلة على طيران الإمارات، ومن مطار كينشاسا في أوساكا إلى طوكيو أخذتني الخطوط اليابانيى GAL وبعدها سيارة الأجرة التي أخذتني أخيرا إلى مهجع ما في مدينة فائقة الغربة. بدأت معاناتي مع الطعام منذ وصولي مباشرة، مطعم الفندق رفع للتو صحون طعام العشاء، وبعد اثنتي عشرة ساعة أمضيتها في النوم المتواصل، فقدت حقي في طعام الإفطار، لكن هذا الـ (كوبون) أنقذني من الضياع في مدينة أخرى. قلت في نفسي لا بأس.. لا جمال للسفر دون هذه المطبات (اللذيذة).. انتظرت وقت الغداء ملتهيا بالكتابة وانتظار التعرف على رفاق الرحلة/الملتقى، فقد سبقنا موعد البرنامج بيوم، والمدينة صعبة علي لإدراك تفاصيلها والتسكع فيها، لم تمنح شاشة التلفزيون أية تسلية سوى مشاهدة مصارعة السومو، هذه الرياضة التقليدية في اليابان، ولها طقوس يقوم بها المتصارعان ويرشان مادة بيضاء على الحلبة، ومن ثم يحاول كل واحد منهما دفع الآخر لخارج الدائرة/ الحلبة، يبدوان كفيلين يتواجهان رغم وجهيهما البشريين. الأرز فقط على الغداء لم أجد سوى الأرز المطبوخ على الطريقة الصينية مع الخضروات والبيض، هذه التي أمنتها على نفسي بحجم التعرف عليها مسبقا، على مائدة قريبة كانت امرأتان تطلبان فتأتيهما الصحون أشكالا وألوانا، حمل النادل في المرة الاخيرة ستة أكواب كتلك التي يقدم فيها الشاي، بها آيس كريم أو نوع من الحلويات، كل واحدة تناولت ثلاثة أكواب «فقط» حسدتهما على شهيتهما. مر يوم تال، في آخره وصلت بقية المجموعة منهكة، منهم من ظل يومين في المسافة الفاصلة بين بلده وطوكيو، ومنهم من بلغ منه التعب مبلغه، في اليوم الاول لبدء البرنامج بدأ التعارف بأخذ الشبه، حيث الاختلاف عن الموجودين في مائدة الافطار، تبادلنا الحديث عن خطوط السفر التي سلكناها من أجل هذه المدينة، أبدى بعضنا اقتراحات لما هو قابل للأكل وقريب إلى عادة كل معدة في هضم ما اعتادته خلال عشرات السنوات الفائتة من أعمارنا. بدأت نقطة النظام الأولى، التاسعة صباحا ليست هي الساعة التاسعة ودقيقة، والمؤسسة التي نزورها يكون أمام بابها مسؤولها ينتظر لأنه يدرك بأن وصولنا سيكون في الزمن المكتوب ضمن جدول الزيارة بالتمام والكمال، كان لنا موعد في أولى ناطحات السحاب اليابانية، وقفنا نلتقط الصور في الدور الثاني والخمسين، عبرنا المسافة بين الطابق الأرضي والطابق الأخير للبرج في ثوان، المدينة من أسفل رؤيتنا كأنها قادمة من مشاهد الخيال العلمي، من على ذلك البرج الواقع في حي موري تاوا الذي أعيد إعماره بعد الحرب العالمية الثانية رأينا المدينة في امتدادها العمراني المدهش، ثم تجولنا في معرض مدن العالم، يتضمن مجسمات كبرى لأهم المدن العالمية، كان مذهلا، بعض المجسمات كان عاديا وبعضها كان مدهشا، من الملامح المميزة للمدن أن مجسم نيويورك تضمن لوحين زجاجيين مكان برجيها اللذين هويا في 11 سبتمبر.. وشنجهاي تبدو مدينة بيضاء كالثلج وطوكيو أكبر المدن التي تشعر أن صانعيها لم يتركوا حجرا أو شجرا لم يجسموه، بما يشبه الجسر كان بعضها يمر تحت سطح زجاجي يخشى الزوار من المرور فوقه حتى لا ينكسر، أسفل اللوح الزجاجي يتراءى بقية المجسم كمن يطل من طائرة.
المصدر: مسقط
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©