عندما يكون طوق الحمامة حكاية في الحب

طوق حديثنا اليوم ليس كالطوق الذي تزين به عنق امرأة أو رقبة قطة منزلية، أو رقبة طائر جميل، الطوق ليس هو الأصفاد التي يضعها رجل الأمن عندما يمسك بشخص يعتقد بأنه مذنب قبل تقديمه إلى القضاء، الطوق ليس عقداً من الماس تعج بها إعلانات الصحف أو بعض فضائيات هذه الأيام ويتسابق لاقتنائه ميسورو الحال، أو يستأجره عريس بائس ليومين كي يزين فيه عنق زوجته ويفخر به أمام الناس، الطوق ليس هذا ولا ذاك، إنه طوق فيلسوف· عاش ابن حزم طفولة ضعيفة وكسولة، طفولة ابن وزير، يعيش بين مناغاة النساء من القيان والجواري والإماء، تهذب على أيديهن، ومنهن تعلم الشعر، ودربنه في الخط، وأظهرنه في سن مبكرة على حيل النساء، لذا كان مطبوعاً على الغيرة، سيء الظن بالمرأة وقد خبرها عن قرب، وعرف أسرارها فهو لم يعرف غير النساء حتى حد الشباب· عليه، فإن مجتمعه نسائي، وفيه تابع قصص وحكايات الغرام من أفواه النساء أي من مصادرها الأصلية إذ يقول: ''ولقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري''· الطوق تحفة أدبية كتبها فيلسوف، حسم أمره فيها في صراع بين لونين ثقافيين في الأندلس، المحافظون ويمثلهم الفقهاء، والمتحرِّرون وهم قلة وينتمي إليهم ابن حزم الأندلسي القرطبي· ألف كتابه ''طوق الحمامة'' وعمره لا يقل عن أربع وثلاثين سنة، ألفه بناء على رغبة صديق حميم اقترح عليه أن يكتب رسالة في الحب لكن التفسير الصحيح هو أن ابن حزم أراد أن يستعيض بهذه القصة عن واقعه المرير البائس· كثيرون هم الذين تناولوا الحب والعشق قبل ابن حزم؛ منهم: إفلاطون في محاورة ''المأدبة''، وأفيديوس في ''فن الحب''، وإخوان الصفا في رسالتهم ''ماهية العشق''، وابن سينا في ''رسالة العشق''، والجاحظ في ''البيان والتبيين''، وفي رسالته ''كتاب القيان''، لكن تميز ابن حزم في رؤيته للحب على أنه ظاهرة واقعية وأمر غريزي، وانك لاتجد اثنين متحابين إلا وبينهما مشاكلة واتفاق في الصفات الطبيعية وكلما كثرت الأشياء زادت المجانسة وتأكدت المحبة· عليه، فالعشق في طوق الحمامة لم يكن خارج النفس البشرية بل هو أسبر غرائزها وأوضح مظاهرها، وكما أنه أكسير سعادتها في سعيها وقبولها فكانت طوق الحمامة هي تصوير للمجتمع الأندلسي الواقعي وليست مجرد خيال· طوق الحمامة يقسم على ثلاثين باباً، منها في أصول الحب عشرة، ومنها في أغراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة اثنا عشر باباً، ومنه في الآفات الداخلة على الحب ستة أبواب، ومنها بابان يختم فيها الرسالة· قال ابن حزم: ''الحب ـ أعزك الله ـ أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل، وقد أحب من الخلفاء المهذبين والأئمة الراشدين كثير''· تقاسمت أبن حزم على كتابه الطوق ألقاب جليلة وكريمة منها، أحسن شاعر، وأحسن فيلسوف، وأحسن متكلِّم، وعالم نفس وأخلاق، ورجل فكر وعمل، وسياسي وحالم· أستاذ في جامعة الإمارات ـ العين jalilwali@hotmail.com