الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشاعر في سلة العدم

الشاعر في سلة العدم
17 مارس 2010 20:40
تحمل “أبعد من عدم”، المجموعة الشعرية الصادرة حديثاً للشاعر الإماراتي أحمد منصور عن مشروع “قلم” في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، منذ البدء عنواناً استفزازياً ـ بالمعنى الإبداعي ـ ذلك أن العدم ليس حالة كمية يمكن قياسها بقدر ما يستدل عليها بظواهرها وأحوالها. والعدم في المفهوم الفلسفي لا يقبل المقايسات ولا المقارنات ولا التبعيض ولا التزمين لأنه في مضمونه ينفي كل هذه، بمعنى أنه لا يصح فلسفياً القول بإن هناك ما هو أقل أو أكثر أو أكبر أو أصغر أو أقرب أو أبعد أو جزءاً من (العدم) لأن العدم حالة مطلقة. بهذا المعنى تبدو (أبعد) التي يستخدمها الشاعر في العنوان بلا مسوغات معرفية تبرر استخدامها، لكن المسوغات الجمالية والشعرية تجيزها، إذ المقصود من هذا الاستخدام أن الحال الشعرية أو اللحظة الإبداعية التي يجسدها الشاعر هي من الحدَّة وطغيان الحضور بحيث يبدو تعبير (عدم) قاصراً عن تجسيدها، مما استدعى البحث عن شيء (أبعد) من العدم. إنها نوع من المبالغة الشعرية الممتلئة بإيحاءاتها الجمالية التي يلجأ إليها الشعراء لقول أرواحهم حين تستعصي على القول. والديوان ليس سوى قصيدة طويلة في هجاء العدم، تمتاز بنفَس إنشادي عدمي ينتشر في مفاصل المجموعة كلها، بدءاً من قصيدته الأولى التي تحمل عنوان “النهار برمَّتِهِ” وانتهاء بالقصيدة الأخيرة “خيار أخير”، وفيه يجسد الشاعر أحمد منصور العدم في أكثر تجلياته قسوة وخرائبية. تشظيات الأنا الشاعرة إذا صحَّ القول بأن هناك شعرية للعدم فإن في هذا الديوان الكثير منها، هنا يتحول العدم الى حالة شعرية، بكل حمولاته الموضوعية الممضة التي تنفرك تحت أضراسها نفس القارئ او تنسحل تحت وطأتها روحه، حالة تتمثل على المستوى الفني في اللغة والبنية والصورة الشعرية، وعلى المستوى المضموني في موقف الأنا الشاعرة من كل ما حولها، موقف الذات من الوجود والشعور المضني بالغربة وبالتفتت وبالانفصام وبالاغتراب الكامل عن الواقع والعجز عن تحقيق أي علاقة من أي نوع مع الحياة. “كمن يسرق دمه”.. هكذا يرى الشاعر نفسه في العدمية، وهو تعبير شديد البلاغة عن ذلك الانفصال الكامل بين الشاعر وذاته الى حد أن يصبح دمه “غريباً عنه” وهو يسرقه ليحيا وكأنه يحيا بشيء ليس له. لكن الشاعر لا يكتفي بهذا الإجمال البليغ بل يفصِّل مظاهر هذا الانفصام بقوله إن أعضاءه وعظامه غريبة عنه أيضاً، فالاولى تغافله والثانية تحلم بالمقصلة، ويصل التشظي الروحي إلى مدياته القصوى مع بقاء جسده دون جسد، وما تبقى من هذه القصيدة ليس سوى وصف لتمظهرات هذا الخراب الداخلي الذي يعتريه، فيما كل ما حوله يمعن في الفقد. وما دام الحال كذلك، وكل شيء ماضٍ الى الفناء، فإن النص يعلن (حكمته/ رسالته) لنا: “لم المجازفة إذاً بإطلاق عصافير الأمنيات في الشارع/ والنهار قادم من آخره هذا الصباح؟!”. ويمضي الشاعر في نسجه الفني مجسداً علاقته المتهاوية بالكون وروحه المتعبة من الجري وراء رغبات خلبية، وسرابات لا تتحقق، وأحلام مراوغة، وخيبات في كل شيء أوصلته الى موقف عدمي يمارسه في نكرانه ورفضه لكل تمظهرات الحياة التي لا تروق له بعد أن جرب كل شيء: “الآن/ وقد عزفت كل قيثارة/ وشددت على كل وتر/ ونثرت كل محبة حتى نضبت/ تراءى لي أني امتلأت بنوريَ/ واستوت ناري/ فحشدت موسيقاي وأعشاب سكينتي/ وشجت روحي برملي/ وأطلقت طائري/ وتواريت/ وتوارى معي كل ما كان ذات مرة مني”. عدم غير شخصي رغم عودته من ترحاله الشعري في تخوم العدم بنار المعرفة المقدسة، بل بفائض هذه النار، لا يغادره الشعور المريع بالفقد، ولا ينجح نور المعرفة الذي أناره في أن يخفف شعوره باللاجدوى، فما حوله يدخله في دائرة جحيمية منتقاة ومصاغة بعناية فائقة، إذ أن الحال العدمية هذه لا تبدو حالة شخصية، وإن كان الشخصي لا ينفصل فيها عن الجمعي، فالشاعر وهو ينشد عدمه الخاص إنما يتقمص الإنسان في صراعه مع الوجود المتعين الذي تمارس تجاهه الذات فعلها أو تجترح صمتها، وهو بهذا ينشد شعور البشري بالعدم والتلاشي والموات الكامل الذي تنتفي فيه الحياة انتفاء تاماً. فها هي الأحداث حوله كفيلة لغرائبيتها أن تنتج عدماً شاملاً؛ ها هي المدينة تقع في براثن “لصوص من كوكب بعيد”، وتتحول الى مدينة للقتلى والموت وروائح العفن. وفي مدينة كهذه، لا تجد فيها الطيور حتى خرائب لأعشاشها، وتخبّ سيقان الزمن دون وهن، يصبح كل شيء ترَفٌ. في قصائده التالية، يواصل مشواره العدمي في “كل هذه المقبرة” ليرصد سبب كل هذا الحب الذي بلا معنى، يمتطي “عربة النجوم” ليسرد غياب فاطمة، يحقن شرايينه بالبحر ثم يتخلص منه في دمعة مالحة. وإذ يتعب من كل هذا العبث وهذه الفوضى اللامفهومة والأسئلة التي تأكل رأسه وتفري روحه يتكئ على جمرته، ويمشي كالنسيم مارّاً على مشاهدات لا نهاية لبؤسها وما تسببه من آلام: عن مدائح تتقنها الألسنة، عن مدن ممنوحة للقتلى والخراب، عن أوطان تركتها الريح على أسماعنا، عن فضاءات مهملة وأزقة من رماد، وعن “وردة الأناة” و”الأصدقاء” الذين رحلوا وتركوا له نبضهم يبحث عنه في المنفضة. وحين يرى أن كل محاولات المظلومين في الأرض تذهب قبض الريح ولا تلفت انتباه أحد، لا يملك إلا أن يغرق في هذا العدم المفتوح له على آخره، ويتوسد الصمت “خياراً أخيراً” بل يقسم: “هذه المرة، قسماً، لن أنطق أو أتحرك/ سأبقى هكذا/ حتى تلتفت/ أو أتحنط!”. دهاء فني يعطينا هذا الشاعر عدمية فائضة فيما الذات الشاعرة تبحث عن كوة تمارس من خلالها موقفها من الوجود فلا تجد سوى الحلم والأماني، لكن الخراب يقف لها بالمرصاد، والملل يقتل حتى الحلم الذي يتكرر ومعه يكرر الشاعر حتى العبارات ليوصل لنا ما يشعر به من الرتابة: “في المساء/ يخلد مجدداً إلى أيامه القادمة/ يهيئ فقرات أحلامه لليلة/ ستمضي هي الأخرى كسابقاتها/ عودة المركب المثقل بالحنين/ تجره نوارس الكرز إياها/ تتبعها غيوم صغيرة بيضاء/ كتلك التي تسربت إلى غليونه/ بينما/ يحشر الغياب نفسه في المقبرة/ وفي آخر الحلم/ يصطاد الريح عند المنحدر”. حتى الحب، الذي يفترض فيه أن يبث الفرح والأمل في نفس الشاعر، لا ينجو هو الآخر من سخرية مرة: “الحب الذي دفناه سوية/ أضعنا علامته/ فحفرنا صحراء بأكملها/ عند أول وخزة/ للحنين”. كذلك في قصيدة “حب” لا يفلح في طرد الموت: “أحببتك/ دون ندم يدلني عليك أو قبر/ أحببتك/ إلا أنني/ نسيت الحذاء في الحلم/ والمفاتيح في النعش”. ومن يقرأ المجموعة، لن يعثر، حتى لو بحث جاهداً، على ما ينفي سطوة الموت وحضور مشاعر العدم، وقد فعلت فلم أجد سوى هذا المقطع الذي يعترف فيه الشاعر بأن هناك ما يضخ الروح في كل هذا الموات: “عذوبة الحلم وحدها/ تكمم أفواه الموت على الطرقات/ وتغرس مذاق الحياة/ عنوة/ في أنفاسنا”.. لكن النص أفسدته (عنوة) التي أخرجته من سياق الأمل وعذوبة الأحلام لتضعه في سياق القسرية التي تعبر بها الحياة عن نفسها، ونحياها نحن، حسب الشاعر، مكرهين أو مضطرين غير مختارين. بيد أن القارئ سيقع في كل مكان من المجموعة على لغة رائقة، موحية، مكتنزة بالدلالات والتأملات الفلسفية، وعلى صور مدهشة اجترحها في أكثر من مرة، وهي بالمناسبة التجلي الذي وجدت فيه الذات الشاعرة حضورها وسط هذا العدم، فالشاعر بذل عناية بالغة في نسج صوره الشعرية، بل اشتغل بدهاء (والدهاء في الفن محمود) على تشييد مشهدية صورية تقترب في بعض القصائد من المشاهد السينمائية كما في قصيدة “في سبعة أيام” التي تقوم على معمار فني مفاجئ، وينهض فيها المشهد في ترتيب جمالي يحوي كل المؤثرات البصرية والصوتية وحتى الديكور والحدث الذي يأتي متسلسلاً بحيث يكتمل في كل يوم من الأيام السبعة جزء من المشهد الذي يجسد لحظة وجود الإنسان على الأرض. بهذا الدهاء، الذي مارسه الشاعر، يعثر القارئ على ضالته الشعرية ويكتشف متعة نصوص لا تتكئ في تقديم نفسها سوى على مبررات جمالية تكفي لتعلن عن صوته الخاص في سيل من الكلام العادي الذي يسمى زوراً وبهتاناً: قصائد نثر. * هامش: “فائض النار” قصيدة للشاعر أحمد منصور على الصفحة الأخيرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©