الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابن دريد.. ابن «قدفع» و «البصرة»

ابن دريد.. ابن «قدفع» و «البصرة»
17 مارس 2010 20:11
لقد قفزت إلى ذهني جملٌ من مقدمة أحمد أمين المدني لكتابه عن “الشعر الشعبي”، فالمدني وبعد أن قضى “قرابة ثماني سنوات في بريطانيا” قد وقع “على نوادر المخطوطات وعجائب المصادر التي تحفل صفحاتها بماضي الإمارات الحضاري بشكلٍ مذهل وصورة مدهشة”، فمنطقة الخليج، حسبما يكتب المدني، أنجبت “كثيراً من رجال الفكر والأدب الذين كانوا من رواد الحركة الأدبية في العصر الجاهلي كعمرو بن قميئة وطرفة بن العبد” أما ما بعد الإسلام فلقد ظهر “عديد من الخطباء والمفكرين والقادة”، ويذكر منهم المدني قطري ابن الفجاءة والطرماح، و”أخيراً ابن دريد”. اعتبار ابن دريد ممن أنجبتهم “منطقة الخليج” ليس اكتشافا خاصا بالمدني، فلقد مرَّت عليَّ من قبل قائمة من الأسماء التي توردها الكتابات التاريخية العمانية، وتضم من يُسمون عندها بـ “علماء عمان”، وهم “علماء” عاشوا، على الأغلب خارج عمان، وكثيرون منهم ممن عاشوا في البصرة. القائمة العمانية وكانت من أولى تلك التعليقات والانطباعات ما يتعلق بتلك “القائمة” (أدرج في هذه “القائمة” كذلك خطاب المدني، والذي تذكرته قبل قليل)، والتي تشكلت عبر قرون، وهي تلك “القائمة” التي تضع ابن دريد، مع آخرين غيره، في صف “علماء عمان”، والتي سميتها في هذه الورقة بـ “القائمة العمانية”. حاولت الرجوع إلى المصادر المتوافرة في مكتبي (أو مكتبة المجمع العزيرة عليَّ)، فلم أعثر على بدايات “تكوين” هذه القائمة إلا عند مسلمة بن مسلم العوتبي الصحاري، والذي “ظهر لنا وبالتقريب في بداية القرن الرابع الهجري”. ومن العوتبي، استمرت “السير العمانية”. في تداول تلك “القائمة” حتى وصلت إلى سرحان الأزكوي، والمنسوب له كتاب “كشف الغمة” (يُقال بأنه كتبه في حوالى سنة 1728م) مروراً بالكتاب التاريخي الرائع: “تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان” من تأليف نور الدين عبدالله بن حميد السالمي، وليس انتهاء بالنشر الإلكتروني في العصر الحديث. عديدة إذن هي الأجيال التي تداولت “القائمة”، وكانت “القائمة”، وعبر تلك القرون تتسع في سنوات، وتضمُر في أخرى. لكن أمري مع ابن دريد لم يقف عند تفكيري بتلك “القائمة”، بل اتسع وصرتُ مع الوقت أكتب في دفتري وأوراقي الشخصية مقاطع سيرية عن هذه الشخصية، كما وكنتُ، وبعد الانتهاء من هذا المقطع السِّيَري أو ذاك، أتساءل: ما الذي يعنيني بابن دريد غير “عُمانيته” (يُقال بأنه ولد في قدفع بالفجيرة، وهي قرية لا تبعد عن المكان الذي ولدت فيه أنا ـ (خورفكان) ـ إلا بضعة كيلومترات لا تزيد عن الخمس).. وبالتأكيد، لم يكن ذا شأن كبير بالنسبة لي، ذلك الخطأ الذي ارتكبه المؤرخ الكبير نور الدين السالمي في تحفته: “تحفة الأعيان”، حين أخطأ، على الأرجح وسمي ابن دريد: أحمد، على اسمي. كذلك، فإنني وفي هذه الورقة، حاولت التركيز على أمرين أساسيين هما: أولاً: ذلك الحضور الملفت للجالية العمانية إلى البصرة، وما يمكن أن أطلق عليه هنا “حكاية الترحال الأزدي بين شبه جزيرة عمان والبصرة”. أما الأمر الثاني، فهو “التقابل بين الشفاهية والكتابية”، في تجربة ابن دريد وعصره، فأنا - وأعوذ بالله من كلمة أنا كما يقول أهلنا - مشغول ومنذ سنوات طويلة بهذا “التقابل”. أخماس البصرة وتظهر مكانة الأزد واضحة عند تقسيم البصرة إلى أخماس (أو ضواحي أو محافظات كما تسمى، ويقال إن من وضع هذه الأخماس أو الخطط، هو الحجاج بن يوسف الثقفي في البصرة والكوفة - أو ما كان يُسمى وقتها بالعراقين - حتى يسهل عليه التحكم فيها)، فالمستشرق الكبير ماسنيون يذكر في خطط البصرة “محلة الأزد” والتي تقع “إلى الشمال الغربي من المدينة”، ثم يكتب “أن الأزد جماعة قد سيطرت منذ زمن بعيد في البصرة، ومن هؤلاء اليمنيون القادمون من عسير وعمان (أزد عمان)، وقد طبعوا البصرة بطابعهم كما طبع ذو قرباهم من كندة من اليمن أيضاً الكوفة”. نسَّب ابن دريد نفسه فيما رواه الخطيب البغدادي عنه، قال: “أخبرنا علي بن أبي علي، نبأنا أحمد بن ابراهيم بن الحسن، قال: قال لنا ابن دريد: أنا محمد بن الحسن (الأب) بن دريد (الجد الأول) بن عتاهية (الجد الثاني) بن حنتم (الجد الثالث) بن الحسن (الجد الرابع) بن حمامي (الجد الخامس) بن جرو (الجد السادس) بن واسع (الجد السابع) بن سلمة (الجد الثامن) بن حاضر (الجد التاسع) بن أسد (الجد العاشر) بن عدي (الجد الحادي عشر) بن عمر (الجد الثاني عشر) بن مالك (الجد الثالث عشر) بن فهم (الجد الرابع عشر) الأزدي البصري العماني. وفي هذا الخبر يؤكد الإخباريون، ومن على لسانه، نسبته لمالك بن فهم وأولاده، أي ذلك الذي تقوم عليه السيرة الأزدية العمانية، لكن ابن دريد أيضاً لا يتوقف عند أجداده من مالك بن فهم، وعلى الأقل في الأخبار التي رويت عنده إلا عند جده الخامس حمامي، كما روى الخطيب البغدادي، وكما تبعه في ذلك القفطي على ما يبدو. حيث يروى، أن ابن دريد قال عن ذلك الجد: “.. وحمامي هذا أول من أسلم من آبائي، وهو من السبعين راكباً الذي خرجوا مع عمرو بن العاص من عُمان إلى المدينة لما بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أدّوه..”. وقد أغرت جملة “أول من أسلم من آبائي” إلى قول البعض إن “حمامي هذا” هو أول من أسلم من عُمان، والعبارة واضحة، وحكاية أول من أسلم من العمانيين حكاية معروفة. كما افترض ابن النديم أنه بهذا الاسم “منسوب إلى قرية من نواحي عُمان يقال لها حماما”، وهذا الافتراض يجعلنا نشك فحسب، أن هذا الاسم كنية لـ “حمامي” هذا، وليس اسمه الفعلي. لكن حمامي، من أي منطقة في شبه جزيرة عمان الشاسعة؟ هنا يختلف رواة الأخبار والمؤرخون، كقول باحثة إنه “منسوباً لقرية من نواحي عمان في اليمن!!”. لكن غير هؤلاء هناك من يتكبد المشقة لتحديد أصل ذلك الجد على وجه التحديد، كقول بعضهم إنه من دما (السيب الحالية، والقريبة من مسقط عاصمة سلطنة عمان)، أو من صحار، أو من قدفع (إحدى قرى الفجيرة إحدى الإمارات العربية السبع). ولعلَّ ما يزيد مشقة هؤلاء تصحيف حدث لفخذي قبيلتين عمانيتين هما: بنو حديد، أو بنو جديد، ولقد ضاع الكثير من الحبر بين الحاء والجيم هنا، ولأي الحرفين يعود نسب جد ابن دريد. المهم أن الأخبار بعد ذلك توصلنا إلى لحظة أخرى في “سيرة” حمامي فعندما تجمَّع جيش الإسلام في رأس الخيمة للانطلاق نحو فتح فارس، كان مع أبو صفرة ظالم بن سراق “بعض من رؤساء الأزد”، وان حمامي كان من بين أولئك “الرؤساء”، بل إنه نزح “مع النازحين من أزد عمان نحو الشمال (أي نحو البصرة وما جاورها) خلال القرن الهجري الثاني. قصة حمامي من هنا تواصل الأخبار نسج بقية الحكاية: فحمامي، وبعد نزوحه ذاك اشتغل (بالتجارة المتنقلة بين عمان وجنوب العراق”، وبهذا، لم تنقطع صلة أهل ابن دريد”، كما تذكر الأخبار “بوطنهم الأول عمان”. وتعكس الأخبار الواردة بعد ذلك عن أبناء وأحفاد حمامي، الحال الميسورة التي تركها عليهم، فأبو (ابن دريد) كان من “كبار أهل زمانه”، ومن “الرجال المشاهير”، وأنه “من أهل اليسار”، ومن الرؤساء، قال الذهبي: “فهو (أي ابن دريد) كان أبوه رئيساً متمولاً، فهو من بيت علم ورئاسة، حيث كان أبوه من الرؤساء، وجده دريد وعمه الحسين بن دريد كان من أهل العلم والأدب”. سنؤجل الحديث عن موضوعه “العلم والأدب” إلى ما بعد سطور، فالأخبار كما مرّ معنا تكاد تُجمع أن أجداد ابن دريد المباشرين كانوا تجاراً بين شبه جزيرة عمان والبصرة، أي أنهم لم ينقطعوا أبداً عما يسميه بعضهم بـ “وطنهم الأول”: عُمان. بل وأكثر من ذلك، فالكثير من الأخبار والمرويات تشير إلى أن “الجالية العمانية” الكبيرة والتي استقرت في البصرة بعد تمصيرها، كانت تنتقل بين جنوب العراق، و”مواطنها الأولى في شبه جزيرة عمان، جيئة وذهاباً”. وفي حال تصورنا أن المسافة البحرية بين البصرة وعمان لا تزيد بالسفن الشراعية (والتي كانت وسيلة النقل الأساسية حينها) عن أسبوعين، هذا إن زادت، فإن تردد أبناء تلك “الجالية” بين البصرة وعمان من الأمور الذي يمكن تصديقها. ويكاد أحد الكتبة - مثلاً - أن يجزم أن “عائلة” ابن دريد بالذات “كانت قد ذهبت إلى البصرة في بعض المواسم التي كان أهل عمان، ينتقلون فيها إلى البصرة، فقد ثبت أن الكثير منهم لهم أملاك من المزارع والنخيل في البصرة، بل ثبت أن أهل صحار يقضون المصيف في البصرة”، وبالتالي يشتون في شبه جزيرة عمان. وهذا بالطبع يحيلنا على “ظاهرة انثروبولوجية” إذا صحَّ المصطلح - يسمها العرب “رحلة الشتاء والصيف”، أو ما يسميه أهلنا هنا في شبه جزيرة عمان، وإلى اليوم بـ “المقيظ”. سكة صالح بالقرب من تلك الأمواج ولد ابن دريد إذن، وثمة خبر منسوب إليه، يحدد ولادته في سكة من سكيك “محلة الأزد” في البصرة تدعى “سكة صالح”. ولكن هناك أخبارا أخرى تقول إنه ولد في المناطق التي كان فيها بطنه من قبيلة الأزد في شبه جزيرة عمان كدما (السيب)، أو صحار، أو قدفع. بل إن هناك خبرا يقول بأنه ولد في سيراف. وتكاد تتفق جلَّ المصادر على أن ولادة ابن دريد كانت في العقد الثاني من القرن الهجري الثالث (في حدود العقد الثالث من القرن الميلادي)، وبهذا يكون -تقريباً - من جيل “الجالية العمانية” السابع (هذا ما أخذنا المرويات عن نسبه، سيرة جده “حمامي” على محمل الحقيقة التاريخية) والذين استقروا في البصرة. لكن الاختلاف حول تاريخ ولادته، أو مكانها ليس شيئاً، إذا ما قورن باختلاف الإخباريون حول “نشأته”، فالذين يقولون بأنه ولد في عمان ونشأ فيها يبدو خبرهم أكثر اتساقاً، من أولئك الذين يقولون بأنه ولد بالبصرة، ومن ثم نشأ في عمان، خاصة وأن المرويات عن حكايته تكاد تتفق على أنه ترك البصرة عندما اجتاحها الزنج. ومن المعروف أن ذلك الاجتاح وقع تقريباً فيما بعد منتصف القرن الهجري الثالث، أي حين من المفترض أن ذلك الاجتياح وقع تقريباً فيما بعد منصف القرن الهجري الثالث، أي حين من المفترض أن يكون ابن دريد، قد تجاوز، أو يقترب على الأقل من سن العشرين، وبهذا يصبح القول بأنه ولد في البصرة و”نشأ” في عمان، لا معنى له، إلا إذا عدنا من جديد نسق “المقيظ”، أو “رحلة الشتاء والصيف”، وأنه وعائلته كانوا وباستمرار يترددون فيما بين البصرة ومواطنهم في شبه جزيرة عمان. اجتياح الزنج وفي عمان التي جاءها بعد اجتياح “الزنج” للبصرة، كما تؤكد أغلب المرويات، قضى ابن دريد ما يقرب من الاثني عشر عاماً، وفي بعض المرويات انتقل ابن دريد أثناء هذه السنين بين مناطق متفرقة من شبه جزيرة عمان، و”جزائر” أخرى من الخليج. ثم إن الباحثين يؤكدون على أن هذه الفترة قد أضافت إلى ذاكرته المهولة خزيناً لغوياً ملفتاً خاصة فيما يتعلق بلهجات اليمن و”البدو”، وتنسب لابن دريد قصائد في أحداث جرت بعمان، يتعصب فيها قبلياً للشق الأزدي القحطاني، مما أثار بعد ذلك الأقاويل حول مذهبه، خاصة الديني. ولعل ابن دريد قد تجاوز الأربعين حين عاد من جديد إلى البصرة التي لم يستقر فيها طويلاً، فغادرها إلى كور الأهواز، بدعوة من أميرها حينئذ: ابن ميكال. والأخبار والمرويات، وحتى البحوث الحديثة، كثيراً ما تركز على أن الأمر مجرد دعوة لمعلم كبير كإبن دريد من أمير، يريد كبقية أمراء ذلك الوقت، تعليم ابنيه على يد أحد أبرز شيوخ زمانه. لكن حتى المتتبع المتسرع مثلي لتاريخ حياة ابن دريد، يلاحظ أن علاقته بابن ميكال، أو بني ميكال أكثر من ذلك بكثير. فغير علاقته الشخصية بهم والتي تكشفها آثاره وأخباره، فإن أهم الأعمال التي خلّدت ابن دريد “وضعها” كما يقولون الاخباريون، في مجلس “بني ميكال”، أو على الأقل، من منطلق تلك العلاقة التي ربطته بهم. ومن هذه الأعمال: “الجمهرة”، وهو أثر رئيسي من آثار ابن دريد، و”المقصورة” الشهيرة، بل و”أحاديثه الأربعين”. وعلى ذكر تلك الأحاديث، علينا أن نتذكر هنا “الحكاية الشعبية” التي تدور حول استقباله لابني ميكال في صحار، بل وأكثر من ذلك، إذ أن هناك العديد من المصادر “التاريخية” التي توحي بأنه على معرفة بآل ميكال في البصرة. المقصورة البصرة التي بإمكاننا القول إن “المقصورة” التي قالها في الأهواز قد حمّلت في أبيات عديدة منها، باشتياق خاص إليها، لكنه حين يعود ابن دريد إليها بعد ذلك، لن يبق طويلاً، وسيرحل إلى العاصمة العباسية الجديدة، والتي فرضت دائرتها المعمارية في ذاكرة العالم: بغداد. وكان ذلك حسب الكثير من الأخبار في عام 308هـ، أي في العقد الأول من القرن الرابع الهجري. العاشر الميلادي. لقد جاء ابن دريد إذن إلى بغداد، وعمره يوشك على التسعين، في أواخر الثمانين على أقل تقدير. وفي بغداد يُملي على أحد تلاميذه الرواية الأخيرة لكتابه “الجمهرة”، والتي اعتمدها المحققون في الطبعات الحديثة لهذا المعجم. لقد استقر ابن دريد وقتها في بغداد لأن الخليفة العباسي المقتدر لما “عرف خبره” كشيخ كبير ومكانه من العلم أمر أن يجري خمسون ديناراً في كل شهر لهذا “الشيخ”، ولم يزل ذلك المبلغ جارياً عليه حتى مات ابن دريد في بغداد سنة 321هـ. إذا ما اتكأنا على هذه المرويات وتواريخها فإن ابن دريد قد مات وقد تجاوز القرن، ولقد قضى في هذا القرن حياته المترحلة، إذ يبدو أن الترحال سمة عمانية خاصة جداً، وقضاها كذلك في “تجربة ثقافية عظيمة”. الشارع الأعظم ويقول الخبر بأن ابن دريد “قد توفي لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة ببغداد”، وأنه “دفن بالمقبرة المعروفة بالعباسية من الجانب الشرقي في ظهر سوق السلاح بالقرب من الشارع الأعظم”، وبينما كان الناس يحملون نعش ابن دريد، وكانت الأمطار تهطل بغزارة، (مما يذكر بالحكاية الشعبية، وبمشهد دفن الشاعر البصراوي الحديث، بدر شاكر السياب)، جاء من جهة أخرى أبو هاشم عبدالسلام بن أبي علي الجبائي المتكلم المعتزلي، محمول هو الآخر على نعش، فقال البغداديون: “اليوم مات علم اللغة والكلام”. و”الجمهرة في علم اللغة”، من أعمال ابن دريد الرئيسية، فيقال إنه أملاه، أول ما وضعه، في ديوان بني ميكال في كور الأهواز، كما يذكر ابن النديم في “الفهرست”، والذي يذكر أيضاً أن ابن دريد قد أملى “الجمهرة” مرة أخرى وبعد ذلك بسنوات في بغداد، مما جعله “مختلف النسخ، كثير الزيادة والنقصان (...) فلما اختلف الإملاء زاد ونقص”، ويخلص ابن النديم إلا أفضل نسخ “الجمهرة” هي تلك التي دوّنها أبي الفتح النحوي، أحد تلاميذ ابن دريد، “لأنه كتبها من عدة نسخ وقرأها عليه” (أي قرأها على شيخه ابن دريد). ولقد طُبع وحقق هذا المعجم، أول ما حقق وطبع في حيدر أباد بالهند عام (1344 - 1352هـ) في أربعة أجزاء بعناية الشيخ محمد السورتي والمستشرق الألماني كرنكو، ثم عاد وحققه الأستاذ رمزي البعلبكي وطبع في بيروت عام 1987. الجمهرة ويعد الدارسون “الجمهرة” من أهم المعجمات في تاريخ صناعة المعجم العربي، ذلك أن ابن دريد استطاع فيه أن يطوِّر الصنعة المعجمية، ويتقدم بها خطوة أخرى لما ابتدأه اللغوي الكبير الخليل بن أحمد في “معجم العين”، ومن هنا فإنه إذا “كان معجم الخليل يمثل مرحلة ما قبل المعجم العربي، فإن “الجمهرة” على حد تعبير أحد الباحثين، “يعد التاريخ الحقيقي للمعاجم العربية”. رغم أهمية “الجمهرة” إلا أن عمل ابن دريد لايمكن اختصاره فحسب في هذا المعجم، وعلى ما يبدو، فإن اختزال كهذا النوع يتعرض له الكتّاب، على مر التاريخ، فأرسطو “صاحب السياسة”، وابن خلدون “صاحب المقدمة” وتولستوي “صاحب الحرب والسلام” وماركيز “صاحب مائة عام من العزلة”. وعلى الأغلب، فإن هذا الاختزال، وككل اختزال يلحق به انعدام الدقة، ويحوّل المحيط إلى مجرد ساحل. وابن دريد ممن أصابتهم لعنة مثل كهذا اختزال، فهو وكمال تقول الكثير من الأخبار، وكتب التراجم من “الذين رزقهم الله سعة في التأليف والتصنيف”، ويقدر ما ألّفه بها يقارب الثلاثين مؤلفاً ضاع بعضها، وبعضها ما يزال مخطوطاً، أما ما نشر فلا يزيد عن الأحد عشر كتاباً، منها غير الجمهرة، “الاشتقاق”، أو كتاب “اشتقاق أسماء القبائل” كما سمّاه ياقوت الحموي، ولقد نشر هذا الكتاب لأول مرة المستشرق ستفلد، سنة 1854م، ثم حققه الأستاذ عبدالسلام هارون، وصدر تحقيقه سنة 1958م. “الاشتقاق” عمل لغوي، لكنه من الجانب الآخر من الأعمال الرئيسية في علم الأنساب، كأحد العلوم التي طوّرتها الثقافة العربية الإسلامية، وهي تتحول من “المشافهة” إلى الكتابة، وقعّدتها لأسباب دينية واجتماعية وثقافية. هذا غير التأثير الكبير لعمل ابن دريد هذا بالذات على التدوين والكتابة، وخصوصاً التاريخية في شبه جزيرة عمان. ومن هذه الأعمال: “الملاحن”، ولقد نشره المستشرق رايت في ليدن سنة 1859م، ثم المستشرق تريكي في جونا سنة 1882م، ثم نشر في القاهرة سنة 1323هـ، ثم نشره ابو اسحاق ابراهيم اطفيش في القاهرة سنة 1347هـ. معاجم الموضوعات وإضافة إلى كل هذا، فإن الباحثين اللغويين ما زالوا يحتفظوا إلى اليوم بدفاتر صغيرة صنفها ابن دريد، ويدرجونها فيما يُسمى بـ “معاجم الموضوعات”، وله من هذا النوع (...) كتاب السرج واللجام، وكتاب صفة السحاب والغيث وكتاب الانواء وكتاب الخيل الكبير الصغير، وكتاب السلاح. ثم إن لابن دريد “ديوان” من الشعر، إذ أن القدامى “كانوا يقولون إنه “ممن برَع في زماننا هذا في الشعر، وكان يذهب بالشعر كل مذهب، فطوراً يجزُل، وطوراً يرقّ، وشعره أكثر من أن نحصيه، أو نأتي على أكثره، أو يأتي عليه كتابنا هذا، أما القفطي فيقول: “شعره (ابن دريد) قال لي من رآه في خمسة مجلدات، وقيل أكبر من ذلك، لكن كل هذه المجلدات سقطت في عتمة المجهول التي كان يتصف بها عصر ما قبل المطبعة، إذ لم يصل من “أشعار” ابن دريد إلا كتاب صغير حققه علوي وصدر في القاهرة ويتحدث الباحثون عن تحقيق آخر جديد عمل عليه عمر بن سالم، لكنه لم ينتشر بشكل واسع. ومن أعمال ابن دريد الرئيسية، والتي ترتبط كذلك ببني ميكال “الأحاديث الأربعين”، والتي يُقال إنه وضععها لغرض تعليمي، كما حال المقصورة، المملوءة بالحكايات، ولعل من أشهر شروح هذه “القصيدة” شرح الخطيب التبريدي، وقد اعتنى خاصة بالحكايات التي تسردها “المقصورة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©