الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

هل يصلح الفيلسوف أن يكون سياسيا؟

هل يصلح الفيلسوف أن يكون سياسيا؟
27 أكتوبر 2007 01:52
على مر العصور كان الفلاسفة يفسرون الخبر ولا يصنعونه، يحللون الأحداث ولا يحركونها، وكان التاريخ يتعجب عندما يظهر قائد عسكري فيلسوف أو زعيم سياسي فيلسوف أو مناضل ثوري فيلسوف، فكيف يمكن للفيلسوف الذي يعيش خيالات عقله، ويغرق في تأملات نفسه، ويحلق في فضاءات فكره، ويسبح فوق احتمالات المنطق والمعقول والجائز والمفترض، أن ينزل إلى أرض الواقع، ويتوحَّد مع الأحداث، ويواجه أزمات السلطة، ويخضع لتدبير شؤون الحكم؟ وإن حدث وامتزجت الفلسفة بالزعامة السياسية في جسد شخص واحد فلا شك أنها حالات نادرة تستحق الدراسة والتأمل؛ فالفلاسفة لا يسعون إلى السلطة من أجل المال والجاه، بل من أجل رؤية نظرياتهم الإصلاحية تخرج من الكتب لتمشي على أرض الواقع، وشخصية الفيلسوف عندما تكون خالية من سمات الزعامة والقيادة والجرأة والواقعية وسرعة اتخاذ القرار تصنع سياسياً ضعيفاً متخاذلاً، وكذلك الحال بالقائد العسكري أو الزعيم السياسي الفاقد لفضائل الفيلسوف من حكمة ورؤية وتأمل يصنع سياسياً متطرفاً مأزوماً· وإذا كان فهمنا للمعنى الحرفي لكلمة فلسفة على أنها تعني محبة الحكمة، فيمكننا أن ندرك كم هي مهمة صعبة ممارسة السياسة تحت مظلة الفلسفة؟ فمحبة الحكمة ليست من أولويات الساسة، ذلك أن السياسي يحتاج إلى هدي الفلاسفة وحكمتهم فقط عندما يكون رجلاً وطنياً محباً لأمته وشعبه، لكن عندما يمتلئ قلبه بحب ذاته ونزعته للتفرُّد بالسلطة، يصبح صوت الحكمة أكثر الأصوات نشازاً عنده· وعلى الرغم من تعارض المفهومين، إلا أن أحداً لا ينكر عمق تأثير الفلسفة على السياسة؛ فالفلسفة هي التي تسعى إلى إصلاح السياسة وتجنح بها إلى المثالية والكمال، بينما السياسة تنأى بأصحابها عن المثاليات وتتعامل مع الواقع بما فيه من أهواء وأخطاء، ففضائل الحكم مستمدة من السير على نهج الفلسفة أما نقائصه فتعود إلى أطماع الساسة ونزعاتهم السلطوية· لقد استمرت العلاقة بين الفلسفة والسياسة قائمة على التجاذب حيناً والتنافر حيناً آخر؛ فحين تصب النظريات الفلسفية في مصلحة أصحاب القرار السياسي، نرى التناغم وإن عارضتها وانتقدتها ما انفك يتلاحم، وكانت الفلسفة في معظم الأحوال تسير مع السياسة في خطوط متوازية تؤثر أولاهما بأخراهما لكنهما في الغالب لا يتوحَّدان، وفي الوقت الذي اصطدمت فيه الفلسفة بالدين في نقطة البحث عن أصل الوجود، لم تصطدم الفلسفة بالسياسة إلا في مواقف محدودة؛ فلقد اهتمت الفلسفة بالسياسة، وعكفت على تحليل ما تلقيه الحياة السياسية من مشكلات تستعصي على الفهم والحل· كان فلاسفة الإغريق، أمثال: أرسطو وأفلاطون وسقراط الذين أسسوا قواعد الفلسفة، قد نظروا إلى السياسة نظرة اجتماعية واسعة، فوضعوا المبادئ الأساسية للحريات، ورسموا الأطر العامة لعلاقة الفرد بالدولة، أما فلاسفة المسلمين أمثال ابن رشد وابن خلدون فنظروا إليها نظرة قانونية بحتة، فعالجوا قضايا الإمامة والخلافة والبيعة والولاية والجزية والخراج وغيرها، أما الفلاسفة المعاصرون أمثال جبريل مارسيل وجان بول سارتر والبير كامو وغوته وباشلار فاهتم أغلبهم بمفهوم الأمة والسيادة الشعبية والملكيات العامة والخاصة وشرعية الحكومة وواجبات المواطنه، وفي الوقت الذي اقتصرت معظم الفلسفات في اهتمامها على تفسير قوانين الطبيعة، خرجت الماركسية عن تلك القاعدة، وجعلت مهمتها سياسية تتمثل في تغيير المجتمع، حتى أن أحد أشهر عبارات مؤسسها كارل ماركس يقول فيها: لم يفعل الفلاسفة سوى تفسير العالم ولقد آن الأوان لتغييره· يبقى لنا أن نتساءل·· إذا حدث وتوحد الفيلسوف والسياسي في شخص واحد، هل يمكن لثوب الفيلسوف أن يستر عورة السياسة؟· لقد بدا لكثير من الباحثين الذين شغلهم علاقة الفلسفة بالسياسة أن هناك تعارضاً تاماً بين طبيعة الفيلسوف وطبيعة السياسي؛ فالفلسفة رسالة أخلاقية وخيال يبحث دوماً عن الحقيقة، ويجنح غالباً إلى المثاليات، أما السياسة فهي واقع مضطرب بما يحويه من دسائس ومكائد وفساد وتسلُّط واستبداد، ولطالما اشتكى القادة العسكريون والسياسيون من أوهام الفلاسفة والمفكرين، واشتكى الفلاسفة بدورهم من تجبر وطغيان السياسيين، فقد انتقد جان جاك روسو أبرز فلاسفة التنوير الفرنسي شرور الحياة السياسية، ورأى أن ممارسات الحكم والسلطة تتعارض تماماً مع مفهومه لحرية الفرد، أما الفيلسوف الفرنسي بول ريكر فيرى أن الفلسفة قائمة على الرؤية الذاتية المحضة للفرد، بينما السياسة قائمة على رؤية الجماعة، وهذا ما يجعلهما لا يلتقيان، في حين رأى فلاسفة آخرون مثل الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس أن الحاكم الفيلسوف هي غاية لا تدرك، لأن صلاح النظم الاجتماعية والسياسية لا يتم إلا بالجمع بين الفضائل الأخلاقية والمنفعة الاجتماعية، أما إفراغ السياسة من غاياتها ومثلها النبيلة فسيؤدي لا محالة إلى شيء مخيف، فالسياسة مفهوم شامل يضم جملة من المعاني من بينها علم الدولة وفن الحكم والقيادة وتدبير شؤون المجتمعات وهي أمور لا تجتمع إلا لفيلسوف، لكن واقع الحال يقول غير ذلك؛ فعندما يكون الحاكم فيلسوفا يختلط عنده الخطاب السياسي بالمقال الفلسفي ويمتزج لديه البعد الواقعي للسياسة بالتفكير النظري وكثيراً ما تهتز آلية صناعة القرار· ورغم ذلك، انشغل كثير من الفلاسفة بالسياسة، وبتصنيف الدول وأنظمة الحكم، وتمنوا أن تتزاوج الفلسفة بالسياسة كي تخلق للناس مدناً مثالية فاضلة جعلوا أرضها أحلامهم وفضاءها خيالاتهم؛ فلقد شيد أفلاطون دولة الحق، وجعل العدل أساساً لها، واعتبر أن غاية الأخلاق هي الدولة لا الفرد، وطالب بأن تكون الفلسفة هي القوة الحقيقية في توجيه الدولة، وأن يكون رئيس الدولة فيلسوفاً، أما الفارابي فلقد انشغل بالسياسة ووضع تصوراً للمدينة الفاضلة ورغم ذلك لم يتقلد أي منصب في الدولة، ولم ينغمس في معترك السياسة، بل اكتفى بتحريك عقليته الفلسفية حول التحلي بالشجاعة والحكمة وضبط النفس وسط أحداث عصره المتأزمة آنذاك بالفتن والحروب والصراعات، وبعيداً عن تلك النماذج كان هناك فلاسفة اقتربوا كثيراً من بلاط الحكم وسنحت لهم الفرصة للاختلاط بدوائر صناعة القرار في الدولة، وأبرزهم الفيلسوف الإيطالي نيكولو مكيافيلي والذي عمل أربع سنوات في منصب رسمي في بلاط الجمهورية الفلورنسية وظل يعتقد أن النظام السياسي الناجح هو القادر على تحقيق المساواة بين مواطنيه وتوزيع الثروة بالعدل وإسناد المناصب لأصحاب الكفاءات والقدرات، أما الفلاسفة الحداثيون والذين انشغلوا بالسياسة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فقد تبنوا موقفاً يؤكِّد على وجود هوة كبيرة بين التنظير الفلسفي وبين ممارسات الحياة السياسية، هوة تعكس الفرق بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن بالفعل، فوظيفة الفيلسوف الآن تنحصر في إنارة الطريق لأهل السياسة وإزالة اللبس عن كثير من المفاهيم وإعانتهم على الفهم الحقيقي للعالم· فدور الفيلسوف السياسي في وقتنا الحاضر لن يتعدى في أفضل الأحوال دور مستشار هامشي ضمن حاشية عريضة تحيط بصانع القرار السياسي·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©