الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الشقة الخامسة (3ـ3)

الشقة الخامسة (3ـ3)
20 أكتوبر 2007 01:33
في هذه المقالة يروي الكاتب حكاية تنقله من شقة إلى أخرى في مدينة أبوظبي: يا ترى ما الذي يبقى من الشقة في ذاكرة من يتركها؟ ما الذي يبقى من داخلها؟ من جدرانها ونوافذها؟ ما الذي يبقى في مراياها من الشخص الذي عبر؟ حين جلست لأوّل مرة على الكنبة في الشقة الرابعة رأيت البحر من شرفتها مفتوحاً أمامي كسجادة من السماء ملقاة على أرض الصحراء· شقة جميلة كانت إلا أن ما يخدش جمالها ذلك الممر الذي يقود إلى الغرف، والذي تحتاج إلى قطار كي تمر به· وكما كل الشقق كنت أخصص غرفة للمكتبة· إلا أنني قليلاً ما كنت أستعملها· كنت أكتب وأقرأ في أي مكان، ولم أستطع يوماً في أية شقة أن أبني عشاً للقراءة أو للكتابة· أو لما يتحدث عنه الجميع - التأمل· تلك الشقة كانت على الكورنيش، وعلى مقربة مما كان يسمى دوار الساعة، وأمام ما كان يسمى السوق القديم· كنت أنزل من الشقة وأدلف إلى السوق القديم· الشاورما والعطور والبضائع المقلدة ومتجر المجوهرات الذي احترق وعصير النارجيل· والهنود الكثيرون جداً عند الغروب· وأحتفظ بصورة فوتغرافية تجمعني مع ابني ''الجديدين'' (نؤاس ولين) على الجسر بين جانبي ذلك السوق· بعد عشر سنوات، هذا إذا ما بقيت حيّا، لربما تأتي لين وتسألني: أين التقطت هذه الصورة يا بابا؟· سأقول لها: في السوق القديم· ستقول لي: أين يقع السوق القديم؟· إنني لم أره من قبل· سأقول لها: رأيته، والدليل هذه الصورة· ثم أظنها تذهب بنظراتها إلى صحراء الذاكرة بحثا عن ذلك الذي رأته ولن تعثر عليه· في حين أن ''السوق القديم'' الحقيقي قد اختفى· لقد رأيت مثل هذه النظرة التي أتوقعها من لين في وجوه شباب من أبوظبي حين يزورون معارض يقيمها المجمع الثقافي عن أبوظبي القديمة· يقول الواحد للآخر: لقد كان أهلي يقيمون هنا· و''قوم'' فلان هناك· وهناك كانت الشجرة التي أكلها الملح، أو هناك كان يقع البئر الذي شرب البحر· ثم وبعد هذا الحديث النوستجالي يسقطون في تلك النظرة الغائرة بين ما قد يتذكره الإنسان، وما هو مختف أو أخفي فعلاً عن مدى العين· لكن ''سياحتي'' في السوق القديم لم تكن هي العادة الوحيدة التي أورثتني إياها الشقة الرابعة· لقد أورثتني عادة أهم وهي الزيارة الأسبوعية لسوق السمك القريب· حين أدخل سوق السمك كانت تُفتح في روحي قرية كاملة من قشور الروح وخياشيمها· في سوق السمك كنت أمشي بين جثث الأسماك المختلفة الأحجام كمن يمشي بين مومياءات مائية فرعونية· في سوق السمك كنت أرى العيون، التي قال عنها مرّة أحد أصدقائي الشعراء إنها النظرة الوحيدة التي تحتفظ بالموت وهو في الأبهى من قيافته· في سوق السمك حيث الزحام يشبهني وأشبهه· ولأنّ زوجتي الثانية، (كنت قد تزوجت ثانية) تحب تصوير كل شيء· صورت كثيراً في تلك الشقة (أضيف للفوتغراف هنا كاميرا الفيديو)· والصور موجودة· إلا أنني لا أتذكر الكثير عن الشقة الرابعة كذلك، كما وانني لست من هواة التصفح الحنيني لألبومات الصور، ووضعها على الطاولة، وقضاء سهرة للتمتع بما حدث من قبل· وفي يوم من الأيام طار سوق السمك القريب· ألغي· وبالتزامن مع طيرانه، طرت أنا وأغراضي إلى شقة أخرى على شارع الميناء· كما لو أنني أتبع سوق السمك الذي انتقل هو الآخر، بهنوده الباعة، وجثث أسماكه، والبحارة الذين لا يظهرون إلاّ لماماً، إلى هناك· وعلى ما أذكر فإن الانتقال المرتب الوحيد قد تم هُنا· فأنا ومنذ أن تركت خورفكان انتقلت بين غرف وشقق كثيرة· في الجامعة في العين، في الشارقة ودبي· ومن ثم في أبوظبي· غرف وشقق وشقق· أوراقي، أو حياتي كلها لربما توزّعت، إذا لم أقل ضاعت بين هذا الانتقال المستمر والدّامي· لا أستقر في مكان حتى أجدني في مكان آخر، كمسافر لا يهدأ ولا يمل ولا يكل من التجوال في نفس الفنجان· في الشقة الرابعة جلست ووضعت كل الأوراق التي كتبت عليها، أو ما بقي منها، على الطاولة أمامي وحاولت ترتيبها لأوّل مرة· وكان كثير من هذه الأوراق يلهج بالفقدان، لذلك لم يكن لديّ مغص روحي عندما أكتشف كم فقدت - إثر انتقالاتي المتتالية - من أوراق كتبت عليها· رّتبت وجمعت وصنفت ما يخصني لأول مرة، وكان لديّ كمسافر الوقت لوضع كل شيء فيما أعتقد أنه ملفه أو مكانه أو بطانته من حقيبة السفر· ولعلَّ هذا لم يحدث لولا اكتشافي المفاجئ في تلك الشقة بأنني مريض، بأحد الأمراض الشائكة· انتفخت قدماي فقال الأطباء إن قلبك بدين ولذلك لا يعمل جيداً· وكيف ما كنت قريباً من الموت أو محاذيه فإن المرض الصعب وحده هو الذي يجعلك واقفاً وممسكاً بحبل الدلو على تلك البئر العميقة· إلى الشقة التالية إذن· إلى ''شقة الميناء'' وكان ثم سبب رئيسي حملني على اختيار هذه الشقة· فأينما ذهبت لتسكن في أبوظبي تعيش أذنك تلك الأصوات الساحقة، أصوات الهدم، ومن ثم أصوات البناء، ومن ثم أصوات الهدم· هدم الشوارع كما هدم البنايات· هدم البنايات كما هدم الشوارع· في أواخر الليل، أو لسحق زقزقة العصافير في الصباح (هذا إذا بقي هنالك عصافير فالجميع يردد هنا بأنه سيصطاد عصفورين بحجر واحد)· حدث ذلك في الشقة الأولى· حيث تعرفت قبل إغماضة عيوني للنوم على صوت بقايا الاسمنت والحديد وهو يسقط بين سلسلة من البراميل من الطابق السابع أو الثامن وبين خمس دقائق وأخرى· كما عدت أحفظ بدلاً من الألحان الموسيقية صوت الحشرات الآلية الضخمة، الثاقبة للأرض· أو تلك التي تروح وتجيء كي تحوّل الرمل إلى صخور· في كل الشقق تكرر هذا وازداد· وكادت أذني أن تصبح، وبلا ذنب، أذناً ''مستقبلية'' بامتياز· تعبت من هذا· أينما أذهب يهدم شي ضخم في أذني، أو يبنى شيء أضخم· وعندما تعّرفت على شقة ''الميناء ''· رأيتها بعيدة ونائية، ثم أن خلفها محطة الكهرباء· هل المعقول أن تهدم محطة الكهرباء؟ ثم أنها أرض فارغة وتستطيع فيها أن توقف سيارتك أينما تريد، وكيفما اتفق· هذا ناهيك عن أنها بناية جديدة، وشقة جميلة وفاخرة··· إلخ· توكلت وانتقلت بعد شهر انتقل بنك إلى البناية فراحت المواقف· حسناً البنك يعمل في النهار، لم المواقف مملوءة في الليل؟ لا أعرف· بعد شهرين أعلن عن بناء بناية على اليمين· بعد سنة بناية على اليسار· بينهما عملت الآلات ليل نهار لتغيير شارع الميناء·· إذا أردت السكن في شقة والهدوء معاً· أين أسكن؟· في الربع الخالي· مشهد البحر من شرفة تلك الشقة ساحق للعيون· ثم القوارب، قوارب الصيادين المصطفة، ثم هنا يا ابنتي يا لين سوق السمك· كانت لين كما أخيها نؤاس الذي يكبرها بأكثر من سنة، يذهبان بحقائب ثقيلة إلى المدرسة ويعودان· محبوسان في الشقة هما· ليس لديهما بيت في هذا العالم· جدتهما، أمي، مارست، وطوال سنين حياتي، الافتخار علي بقلعة عمها على أحد سفوح جبل عتيق في خورفكان· وجدهما، أبي، من عائلة كبيرة في دبي· وهما لا بيت لهما ومحبوسان في شقة· طزّ في (···) والتفكير· طز في(··· )· وطز في أب فاشل مثلي، يكتب شعراً تافهاً ويترزق من مقالات في الصحف والمجلات ويعمل ''مثقفاً'' في الحكومة· لكن ''شـــــقــــة الميناء'' قامــــت بـــــأدوار يُمكن تســــميتها بــ ''العضلية'' في التفكير أو الذاكرة· أوّل هذه الأدوار هو قربها من شقة ''مجمع خليفة'' الشقة الثانية· في البدء كنت ألحظ تلك الشقة، وأقول لقد سكنت هنا ''ذات يوم''· تماماً كما ''الحظ'' - المرديان - و''الدانة - · ألحظهما وأزورهما بكل ما في روحي من رائحة الذكريات، كما وأغشاهما بما هو عليه حالي الآن· تبعني سوق السمك أو بالتأكيد تبعته· بجوار سوق السمك في الميناء قوارب، القوارب التي أراها من شرفة البيت، واقفة كل قارب نائم أو سرحان بجوار القارب الآخر· الأشقاء على الموج في البحر· بمحاذاة هذه القوارب هنالك مقهى· كنت أذهب وحدي، وكثيراً من الأحيان مع عائلتي لاحتساء كأس من ''الكشري'' بالنعناع ومشاهدة الآسيويين بحارة القوارب الذين يسكنونها كما أسكن أنا الشقق· غررت بأطفالي كل صباح إجازة لأجرهم إلى سوق السمك· التغرير بالأطفال لا يحتاج إلى كثير جهد؛ يكفي أن تعزمهم على علبة عصير أو كولا ومن ثم ''نتسوق'': ما هذه الجثة الضخمة يا أبي· يسأل نؤاس· انه القرش يا ابني· ونسميه هنا الجرجور· الأفكار، المشاعر التي جمعتها كي انتقل من شقة الكورنيش عليّ فحصها هنا· عليّ إعادة ترتيب حياتي· تكوينها· عجنها من جديد· لن أكف عن الحياة· حسناً، أنا مريض· أعرف ذلك· لكن ذلك المرض لن يجعلني أقف· سأسعى في مناكب الوهم، وأشد السماء من جدائلها الساطعة· ''لقد خرّبت حياتي''، ولكنها حياتي فلأفعل فيها ما أشاء· تلك هي حريتي الوحيدة هنا· ولا أحتاج إلى أحد· انني بحاجة، لكن الحاجة وحدها لا تكفي كي أفتح قلبي لضفادع المستنقعات· سأحوّل كل قطرة إلى كوكب· وأطلق ذلك الكون في مجرّاته المرآة· إلى حيث كل العيون تعود· كما لو أنّ ''شقة الميناء'' شرح للشقة السابقة· شرح في ناحية، وتصفية من ناحية أخرى· ودوران يشبه تفكير الباخرة المعرفية محيي الدين ابن عربي في الكون· كأن ''شقة الميناء'' نهاية ما· درت في أبوظبي، وعدت إلى نقطة يخيل إليّ· للحظة للحظات، بأنني كنت فيها من قبل· انفصلت عن زوجتي الثانية· أعيش على الكنبة ولكنني بالتأكيد لن أسقط في نفس البئر ولن أجلس حتى ينتهي رأسي، ولن أغلق الباب على شفتي· أراني على الحافة بينما تصطفق في رأسي ما لا يُعد من الأجنحة والأمواج· ahmad thani44@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©